مصطفى واجد آغا أوغلو - خاص ترك برس

مرة أخرى حللنا ضيوفًا على شهر ربيع الأول، الذي يذكّرنا منذ قدومه بشخصية عظيمة مهداة من رب العالمين إلى الإنسانية جمعاء. نعم إلى الناس جميعًا بغض النظر عن أديانهم وألوانهم ولغاتهم وثقافاتهم، فقد صدق الباري عزوجل عندما قال في حقه "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" فهو رحمة ومن خلالها نعمة، فقد أخرج الناس من الظلمات إلى النور ومن دياجير الجهل إلى ينابيع العلم.

إنه قدوتنا الأعلى النبي محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وسلم).

ولم يقتصر الإعجاب بشخصية النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) على المسلمين فحسب، فقد وصفه ومدحه كثيرون من مستشرقين وغير مسلمين نذكر منهم للمثال وليس الحصر الأديب والكاتب الروسي المشهور تولستوي حيث قال في حقه (صلى الله عليه وسلم):

"يكفي محمدًا فخرًا أنه خلص أمة ذليلة دموية من مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح على وجوههم طريق الرُّقي والتقدم، وأن شريعة محمدٍ ستسود العالم لانسجامها مع العقل والحكمة".

وكذلك قال الكاتب والمؤلف الإيرلندي جورج برنارد شو في حقه: "يجب أن يسمّى منقذ البشرية، وفي رأيي أنه لو تولّى أمر العالم اليوم، لوفق في حل مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها".

نعم هكذا هي شخصية محمد (صلى الله عليه وسلم) فهو ليس قدوة للمسلمين فقط كما أسلفنا، وتعجز الكلمات والأسطر عن وصفه وتعريفه لما يحمله من صفات حميدة وأخلاق كريمة ورحمة عظيمة، فأجمل وصف وصفه الباري في كتابه المجيد قائلًا: "وإنك لعلى خلق عظيم". فيا له من وصف وتعريف تعجز الأقلام والكُتّاب عن الإضافة عليه.

يحتفل المسلمون في شتى أرجاء العالم هذه الأيام المباركة بمناسبة ذكرى ولادة هذا الرجل الملهم والذي يوافق الثاني عشر من ربيع الأول من كل عام (ليلة الجمعة على السبت الموافق 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2019). ولما لا، فكيف لا نحتفل بولادة حبيبنا الذي ننتمي إليه وإلى أمته الغراء.

إلا أن احتفالنا لا يكفي وحده دون اتباع النهج المحمدي في حياتنا اليومية، ويكون ذلك بفهمنا لسيرته (صلى الله عليه وسلم) بصورتها الصحيحة والعمل بها وتطبيقها بعد ذلك.

فحياته (صلى الله عليه وسلم) وجميع حركاته وسكناته وأقواله كانت فلسفة عظيمة لمن حوله وللإنسانية جميعًا إلى قيام الساعة. فلو عرضنا كل تلك السيرة الجليلة لما انتهينا منها في هذا المقال الوجيز. ولكنني أود أن أختصر للقارئ الكريم من خلال قراءتنا المتواضعة لسيرته (صلى الله عليه وسلم) ماذا علّمنا قدوتنا الأعلى وذلك في المحاور الستة التالية:

أولًا: علاقتنا مع أنفسنا:

قبل كل شيء علمنا (صلى الله عليه وسلم) أن نكون صادقين في الأقوال وفي الأفعال، وإن من أهم الصدق أن نكون صادقين مع أنفسنا ثم مع غيرنا، فالصدق مصدر كل خير وسعادة. فقد قال عليه الصلاة والسلام: "إنَّ الصِّدقَ يَهْدِي إِلَى البرِّ، وإنَّ البر يَهدِي إِلَى الجَنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا. وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكتَبَ عِنْدَ الله كَذَّابًا".

وإن الصدق أصبح من الصفات النادرة في زماننا هذا، ولكنه ليس من المحال فهناك سيرة شريفة تُرشدنا إليه، هذه السيرة الشريفة ما إن تمسكنا بها اهتدينا.

ثانيًا: علاقتنا مع ربنا:

الأمر الثاني الذي علمنا إياه الرسول عليه الصلاة والسلام هو علاقتنا مع خالقنا عزوجل، الذي خلقنا في أحسن تقويم ثم إليه نرجع مرة أخرى. فذلك اليوم يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتاه بقلب سليم. فقد علمنا عليه الصلاة والسلام أن نؤمن بالله تعالى ونوحده ولا نشرك به شيئًا وأن نعبده أحسن عبادة، وإذا طلبنا شيئًا نطلب منه عزوجل فهو أقرب إلينا من حبل الوريد.

فعن ابن عباس قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: "يا غلام إني أُعلمك كلماتٍ: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفّت الصحف".

ثالثًا: علاقتنا مع والدينا:

الوالدان من أعظم ما يملك الإنسان في الحياة. وخاصة الأم التي تحمل رضيعها في بطنها تسعة أشهر وتصبرعلى تربية وتنشئة أولادها طول حياتها بل إن هذه المشقة سعادة لها. فما يقدمه الإنسان من خدمة لوالديه في حياته لا يساوي جناح بعوضة أمام تضحياتهما.

فقد سأل رجل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: "يا رَسولَ اللَّهِ، مَن أحَقُّ النَّاسِ بحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قالَ: أُمُّكَ قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أُمُّكَ، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أُمُّكَ، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أبُوكَ".

وكذلك قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "رضا الربُّ في رضا الوالدينِ، وسخطُهُ في سخطِهما".

فعلينا ببر والدينا ما داموا في الحياة، فخسارتهم لن تعوض أبدًا. والدعاء والتصدق لهم بعد موتهم، فإن ذلك أيضًا من باب برهم.

رابعًا: علاقتنا مع أسرتنا:

ومن الأمور المهمة في الحياة الأسرة والعائلة. فالفرد يبني العائلة والعائلة تؤسس المجتمع وهذا الأخير يبني الدولة. فالعائلة حلقة وصل بين الفرد من جهة وبين المجتمع والدولة من جهة أخرى، فإذا صلحت العائلة صلح المجتمع والدولة وإذا فسدت فسدتا.

فقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام في حق الأسرة: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي".

وكذلك حسن العلاقة مع الإخوة والأخوات والأبناء والبنات تدخل في هذا المحور.

خامسًا: علاقتنا مع المسلمين:

ومن القضايا المهمة في الحياة هي علاقتنا مع بني آدم، بغض النظر عن أديانهم، سواء أكانوا مسلمين أم غير ذلك، لأنها من حقوق العباد، والله تعالى لا يغفر لذنب ارتكب في حق العبد إلا أن يعفو العبد المظلوم ويتنازل عن حقه.

وقد وضع الرسول (صلى الله عليه وسلم) قواعد وضوابط بين المسلمين أنفسهم، فقال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى".

وقال أيضًا: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره".

ثم قال صلى الله عليه وسلم: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه".

سادسًا: علاقتنا مع عامة الناس:

ثم وضع عليه الصلاة والسلام ضوابط وقيم مع كافة الناس أيًا كان دينهم ومعتقدهم ولغتهم، فقد كان يتعامل مع الناس على كونهم بشرًا ويحترم النفس الإنسانية سواء أكان صاحبها مسلمًا أو غير مسلم. ففي يوم مرَّت به صلى الله عليه وسلم جنازة، فوقف لها، فقيل له: إنَّها جنازة يهودي، فقال عليه الصلاة والسلام: "أليست نفسًا".

وكان جيرانه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة وما حولها أصحاب ديانات مختلفة، فكان منهم اليهود والنصارى والمشركون، وعلى الرغم من ذلك كان يدعوهم إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، ولم يُجبرهم على الدخول في الإسلام، ولم يَعْتَد على حُرماتهم  وأموالهم أبدًا، وترك لهم حرية العبادة مع أن المسلمين كانوا أصحاب الكلمة العليا في المدينة ولم يسفك دمَ أحدٍ منهم.

وكان عليه الصلاة والسلام يزور مرضى غير المسلمين ليطمئن على صحتهم ويسأل عن أحوالهم.

هذه نبذة وجيزة من السيرة الشريفة التي من خلالها نستطيع بناء فلسفتنا الخاصة، وأحببت أن أشاركها معكم في ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم.

نعم فلنحتفل بذكرى مولد فخرنا وقدوتنا عليه أفضل الصلاة والسلام، وفهم ما علمنا وأوصانا به بالصورة الصحيحة واتباع نهجه الشريف. فهو خير قدوة وخير معلم وخير مرشد للإنسانية جميعًا.

فاللهم صلِ وسلم على هذا النبي الكريم والمرشد الحكيم وخير داعٍ إلى صراطٍ مستقيم.

عن الكاتب

مصطفى واجد آغا أوغلو

طالب دكتوراه في مدينة بورصة


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس