محمد حسن القدّو - خاص ترك برس

الوقف هو مصطلح إسلامي، لغويا يعني الحبس أو المنع، واصطلاحاً هو "حبس العين عن تمليكها لأحد من العباد والتصدق بالمنفعة على مصرف مباح". ويشمل الوقف الأصول الثابتة كالعقارات والمزارع وغيرها، ويشمل الأصول المنقولة التي تبقى عينها بعد الاستفادة منها كالآلات الصناعية والأسلحة أما التي تذهب عينها بالاستفادة منها فتعتبر صدقة كالنقود والطعام وغيرها. ويختلف الوقف عن الصدقة في أن الصدقة ينتهي عطاؤها بانفاقها، أما الوقف فيستمر العين المحبوس في الانفاق في أوجه الخير حتى بعد الوفاة (1).

امتدت أراضي الإمبراطورية العثمانية في ثلاث قارات شملت مساحات واسعة من اسيا وأوربا وافريقيا ولمدة زمنية قاربت الستة قرون ووصفت بأنها أطول فترة في تاريخ عمر الحضارات والإمبراطوريات في العالم.

لم تكن هذه الفترة الزمنية تكن مجرد رقم عابر في تاريخ الإمبراطوريات التي تنشأ والتي قد تستمر لعشرات السنين وتفرض سيطرتها بالقوة العسكرية لفترة ما حتى إذا ما فشلت في تسويق سياستها تبدأ معها فترة انكسارها واضمحلالها ونهايتها.

إنّ إمبراطورية تستمر كل هذه الفترة في هذه المساحات الشاسعة وبأساليب اتصال قديمة بين أقطارها، لا بد أن تكون قد أمّنت لديمومتها ما تغني عن ضعف الاتصالات السائدة في ذاك الزمن بين المركز وبين ولاياتها ومدنها طيلت هذه القرون والتي تربعت بها على عرش القوة العالمية بلا منافس.

ولهذا لا بدّ من وجود أسباب القوة في الدولة العثمانية سواء قوة السلاطين العثمانين المؤسسين والذين خلفوهم وكذلك المنهج الذي ساروا عليه(2) في إدارة شؤون الدولة، وكذلك وجود العوامل التي ساهمت في بناء الدولة العثمانية، وأخيرا لا بد من وجود الكفاءات من المعيّنين كالوزراء والولاة والقضاة الذين عينوهم وهيأهم السلاطين العثمانيون وهم الذين كانوا على ظهور الخيل منشغلين بالفتوحات وحماية المدن الإسلامية تاركين هذه النخب هي التي تتولى ديمومة الحياة الانسانية للمواطن بمختلف أطيافه وأجناسه وانتمائاته العرقية.

إنّ الذي نحن بصدد دراسته بصورة وجيزة هو معرفة المنهج الذي ساروا عليه ودقة تنظيم وشمول كل مرافق الحياة الاجتماعية والاقتصادية والقضائية.

لكن مانريد ان نعرفه هو ما ميز الإدارة العثمانية في بعض الجوانب الحياتية والتي سبقت بها كل أقطار أوروبا بعدة قرون من حيث دقة التنظيم والأساليب والوسائل المتطورة في معالجة شتى شؤون الحياة، صحيح أنّ المنهج هو إسلامي في الأساس لكن كيف استطاع العثمانيون من توظيفه  وتطويره في صالح الإنسان القاطن في الولايات والمدن العثمانية وسنتناول في هذه المقالة بحثا حول الوقف العثماني.

ماهو الوقف الإسلامي

أُسِّست الأوقاف في العهود الاسلامية من أجل  تقديم الخدمات المختلفة إلى الإنسان وكذلك الحيوانات، وكانت مؤسسات الأوقاف واحدةً من العناصر المؤثرة التي استطاعت الارتقاء بأنماط العيش وتأمين الحاجات الاجتماعية للناس الذين يعيشون في هذه البلدان الإسلامية.

بعد تأسيس الدولة العثمانية أقيمت أول مؤسسة للوقف العثماني في عهد أورخان غازي 724 -761هجري 1324- 1360 ميلادي وهوثاني  السلاطين العثمانيين، ويعتبره المؤرخون المؤسس الحقيقي للإمارة العثمانية (3). واستمرت هذه المؤسسة وتطورت وسدت لها الاموال مع تطور الامكانات المادية للدولة وغطت هذه المؤسسة جوانب من الحياة مماعملت على تقوية أركان الدولة ونموها ألا وهي الإنفاق على طلبة العلم وتأمين الاقامة لهم بالاضافة الى تبني مسألة التدريب المهني لتخريج الكوادر المتدربة، وشملت النواحي التي كان الوقف العثماني هو المسير لها والتي عدها المؤرخون مالم يخطر على البال وهي كثيرة نذكر منها:

1-بناء المدارس 2-التدريب المهني 3- تقديم الأموال لليتامى والأرامل  4- رعاية الكبار والعاجزين 5- تأمين الأموال للغارمين المدينين 6-تأمين إرضاع الأطفال 7-رعاية الكبار العاجزين 8-تجهيز البنات للزواج  9-تأمين حاجيات المسافرين 10-تأمين العمل للعاطلين 11- تزويج الشباب الغير متمكن من تسديد نفقات لزواج 12-شق قنوات المياه 13- إنشاء القناطر  14- بناء سبل المياه داخل المدن والطرقات الخارجية  15- بناء الخانات والحمامات والطرق وحفر الآبار  16- تقديم الطعام لأبناء السبيل والمسافرين والفقراء والمساكين.17-إطعام الطيور ... وغيرها

ونحن إذ نذكر هذه المهمات الرئيسية للوقف والتي تعتبر سائدة في جميع الولايات العثمانية يجب أن نذكر أن بعض أوقاف الولايات العثمانية كانت تقوم بمهمات أخرى غير تلك التي ذكرناها تبعا لما تتوفر لها من موارد عن طريق جباية ضريبة بعض المحاصيل أو عن تبرعات الملاكين والأغنياء أو غيرها من الموارد، نرى أنّ بعض الولايات كانت توزع الفواكه والخضار للمتعففين بل إنّ بعض وقف الولايات كانت تؤمن الالعاب للأطفال، وأخرى تأمن بدل الأواني والصحاف التي يكسرها الخدم كي لا يتعرضوا للعقاب من أسيادهم.

وفي العصور المتأخرة قامت مؤسسة الأوقاف ببناء دور المرضى والمستشفيات وكانت تقدم الخدمات المجانية للمحتاجين وكانت تؤمن أجور الأطباء والدواء.

إذن إنّ مهمة الاوقاف في العهد العثماني كانت تُعنَى بجميع مرافق الحياة. وعندما نذكر بناء القناطر وشق الطرق وشق القنوات وحفر الآبار وبناء المدارس ودور العلم وتأمين احتياجاتها وكذلك بناء المستشفيات  يعني لنا بصورة جلية أنّ الأوقاف كانت هي المساهمة الأولى بل الوحيدة في تمويل كافة أركان البنى التحتية لضمان إدامة كل أركان الحياة المجتمعية، وعليه فإنّ هذه الأعمال بحاجة إلى أموال طائلة لتمويلها.

كانت الدولة العثمانية دولةً زراعية في أغلب أزمانها. ولهذا فإنّ التمويل للوقف العثماني كان مورده الأساس هو ما يوفره القطاع الزراعي من مبالغ لغرض التمويل، وقد قامت الدولة بتخصيص 20% من الأراضي الزراعية لغرض استغلالها في تمويل الوقف العثماني.

وبالإضافة الى المورد الزراعي للأوقاف والتي هي مؤسسة خيرية بالأساس، ساهم الكثير من المواطنين بدعم الوقف العثماني وهم الذين يلتمسون الأجر والثواب من الله.

وسنتطرق في مقالة أخرى إلى مساهمة الأوقاف العثمانية في بعض الولايات والمدن لكنّنا هُنا في هذه المقالة ننقل فقط وباختصار ما ذكره أحد الاساتذة الباحثين(4) حول اتساع رقعة مساهمة الأوقاف في البلدان التي كانت تحت سيطرة العثمانيين. فعلى سبيل المثال لا الحصر تم جرد أكثر من 3339 وقفاً في بلغاريا عام 1982، منها 2356 مسجد وجامع، و142 مدرسة، و273 جسراً، و16 خانا للمسافرين في مختلف مدنها. أما في إسطنبول عاصمة السلطنة فقد كانت تحوي على 2517 وقفا من مدرسة ومسجد وجامع ومستشفى وجسر ومكتبة وحمام وكلها تابعة للأوقاف العثمانية.


الهوامش:

(1) كمال الحوت، (الوقف وأحكامه)، مقالة، جمعية الاشراف

(2) محمد علي الصلابي، (الدولة العثمانية عوامل النهضة وأسباب السقوط)، دار التوزيع، ط1، بورسعيد، مصر، 2001

(3) سيّد محمد السيد محمود، (تاريخ الدولة العثمانية  النشأة - الازدهار)، مكتبة الآداب، ط1، القاهرة، 2007

(4) عيسى القدومي، (الوقف وسيرة الحياة)، الأوقاف العثمانية نموذجاً، مجلة الفرقان الكويتية، 5/12/2011

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس