صالح عوض - خاص ترك برس

رجاء الهدوء والتثبت فالمطلوب ليس الحكم بل الفهم.. الموضوع ليس حبا أو كرها في أردوغان فالحب والكره في السياسة لا يقدم ولا يؤخر.. نعرف كل ما يمكن أن يقال عن أردوغان بحق أو باطل ونعرف أن بعضنا يحمّله أوزار ما حصل من كوارث في العالم الإسلامي، وبعضنا الآخر يرى فيه الخليفة الذي سيوحد الأمة ويحقق نهضتها.. وليست مهمتي هنا ترجيح أحد الرأيين إنما أحاول الالتزام بقوله تعالى: "لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوى".. فالموضوع أكبر بكثير.. إنه يتعلق بمستقبل تركيا، وبموازين القوى فيها وحولها.. فاكرهوا أردوغان أو أحبوه!! اتهموه او قدسوه!! ليس هذا المهم.. السؤال أين يقع أيا صوفيا في سياق العلاقة مع الغرب وما هي تداعياته؟ وما هو وجه الحق والحكمة أو الباطل والتعجل فيما قام به أردوغان؟
تحريك الراكد

هزة كبيرة في الوعي الجمعي والموقف الرسمي أعقبت خطوة الرئيس التركي بافتتاح أيا صوفيا في 24 جويلية الحالي للمصلين بعد أن ظل متحفا يؤمّه السائحون، و للخطوة دلالات سياسية كبيرة فضلا عما يمكن أن تبعثه من مشاعر وتؤجّجه من تفاعلات.. فليس فقط الموقف الفرنسي الذي تأسف بخصوص القرار التركي بل تبعه الموقف الروسي الذي عبرت عنه الكنيسة الأرثوذكسية بنقدها للخطوة التركية أما واشنطن فقد أعربت عن خيبة أملها لتحويل المتحف الى مسجد وفي السياق نفسه اعتبرت اليونان أن القرار مستفز.. ولم يتوقف النقد على الأوربيين والعالم المسيحي بل امتد إلى الساحة الإسلامية بمكوناتها الثقافية والمذهبية المتعددة وحصل الشرخ الكبير في التعامل مع القرار التركي فمن منتصر لأردوغان على اعتبار انه حامي الإسلام مذكر بانجازاته الاقتصادية وبنائه قوة عسكرية، إلى ناقد مذكر بعلاقات أردوغان مع الكيان الصهيوني وبعلاقته بالربيع العربي والحلف الأطلسي.. فأصبح التعامل مع الحدث بهذه  الخلفيات اجترارا للمواقف السابقة، وهذا منهجيا يفقدنا أحد أهم معطيات الوعي: التطور والتغير وتجدد الشروط والمحددات..على كل حال فإن الحدث حرك المياه الراكدة لتطرح كل الأسئلة التاريخية دفعة واحدة: ما هو الموقف من الوجود العثماني في بلاد العرب خلال أربعة قرون؟ ما هي حقيقة علاقة العثمانيين ببلادنا هل كانوا مستعمرين أم حلفاء؟ ثم مدى مسئوليتهم عن تخلف الأمة وهزيمتها؟ وهكذا تتدفق الأسئلة نحو أسئلة الواقع حول الدور التركي في الربيع العربي في سورية وليبيا ومصر وتونس؟ ومدى جدية تركيا في التعامل مع الملف الفلسطيني؟ وماذا تريد تركيا بالضبط؟ هل هي بصدد تجديد دورتها العثمانية أم أنها تريد دولة محورية إقليمية فاعلة وموجهة؟.. كل هذه الأسئلة طرحت دفعة واحدة على العقل العربي فتشتت في إجاباته المتناقضة والمضمنة برؤية أحادية داخل البلد الواحد.. من هنا كان لابد من طرح الحدث في سياقه التاريخي الموضوعي لترتيب الإجابة.

آيا صوفيا

آيا صوفيا هو مسجد تاريخي مشهور في الضفة الأوروبية من مدينة إسطنبول، وقد كان كاتدرائية أرثوذكسية شرقية سابقًا، ثم اشتراها السلطان العثماني محمد الفاتح وحولها إلى مسجد ودفع الثمن كاملا من حرّ ماله للرهبان الأرثوذكس، ليوقفه والأراضي المحيطة به وما عليها من مبانٍ لصالح المسلمين في كافة أنحاء العالم الإسلامي، وبني في المكان ما جعله قمة في الروعة والاتساع.. واستمر المسجد هكذا دون اعتراض من أحد حتى انهزمت الخلافة العثمانية وكانت شروط الأوربيين ضمن اتفاقية وقعت في لوزان بسويسرا سنة 1923: أن يتحول المسجد إلى متحف وان يتغير الحرف العربي إلى حرف لاتيني وتتغير لغة الآذان من العربية إلى التركية وأن يتم استبدال الشريعة بدستور علماني وأن يحرم على تركيا التنقيب عن المعادن والنفط وأن تسلم تركيا بالتنازل عن مناطق إستراتيجية كانت في إطار سلطانها وأن يمنع عليها مساعدة أي دولة إسلامية وان يمنع عليها اخذ الضرائب على السفن التي تمر بمضيق البوسفور.. فخضع أتاتورك و حوّل المبنى إلى متحف ديني عام 1935.. قبل أيام قليلة أصدرت المحكمة العليا في إسطمبول بطلان قرار الحكومة التركية بتحويله إلى متحف ووقع الرئيس أردوغان على القرار وبذلك تمت إعادته إلى طبيعته كمسجد قبل تحويله إلى متحف.

اتفاقية لوزان

من المهم تحسس المناخ الذي تأسست فيه الدولة التركية الحديثة بعد أن بلغ الإعياء ذروته في جسم السلطنة العثمانية فلم يكن تحويل أيا صوفيا إلى متحف بعد أن كان مسجدا لعدة قرون إلا الرمز لحالة الإنهيار التام للدولة العثمانية.. وذلك على إثر انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918 حيث أبرمت الدول المتحالفة المنتصرة فيها "معاهدة سيفر" يوم 10 أغسطس/آب 1920 تقاسمت بموجبها أراضي الدولة العثمانية "الرجل المريض"، ولكن الأتراك بقيادة كمال أتاتورك رفضوا هذه المعاهدة وخاضوا حربا شرسة ضد الحلفاء حتى انتصروا عليهم انتصارا كبيرا، وخاصة على اليونان خلال حرب 1922-1923.. وفي أعقاب ذلك عُقد "مؤتمر لوزان" الثاني الذي استمرت أعماله ثلاثة أشهر، وُقعت معاهدة لوزان للسلام باللغة الفرنسية في 24 يوليو/ تموز 1923، في مدينة لوزان السويسرية من قبل حكومة أنقرة التي كانت منافسة لحكومة إسطنبول بقيادة الصدر الأعظم المسؤول أمام السلطان العثماني، و"بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان واليونان ورومانيا والبرتغال وبلغاريا وبلجيكا ويوغسلافيا" من جهةٍ أخرى.. ، إذ تم إلغاء الخلافة كنظام سياسي، ونفي الخليفة وأسرته خارج تركيا، ومصادرة جميع أمواله، وإعلان علمانية الدولة، وبذلك تأسست الدولة التركية الحديثة بقيادة مصطفى كمال أتاتورك وعاصمتها أنقرة.. وفي السياق ومع انتهاء الحرب العالمية الأولى كانت البلاد العربية المشرقية المقتطعة من أراضي السلطنة تقسم باتفاقية سايكس بيكو ويتم توزيعها على الاحتلال الفرنسي والبريطاني ويتم الوعد بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.

تضمنت "معاهدة لوزان" 143 مادة موزعة على 17 وثيقة ما بين "اتفاقية" و"ميثاق" و"تصريح" و"ملحق"، وتناولت هذه المواد ترتيبات الصلح بين الأطراف الموقعة على المعاهدة، وإعادة تأسيس العلاقات الدبلوماسية بينها "وفقا للمبادئ العامة للقانون الدولي"..كما نظمت استخدام المضايق المائية التركية وقواعد المرور والملاحة فيها زمن الحرب والسلم، وإعادة النظر في وضعية الدولة العثمانية ومآل الأراضي التي كانت تابعة لها قبل هزيمتها في الحرب العالمية الأولى خلال 1914-1918.، ورسّمت حدود اليونان وبلغاريا مع الدولة التركية التي حافظت على ضم إسطنبول وتراقيا الغربية،.. وقضت بتخلي تركيا عن السيادة على قبرص وليبيا ومصر والسودان والعراق وبلاد الشام، باستثناء مدن كانت تقع في سوريا مثل أورفا وأضنه وغازي عنتاب وكلس ومرعش، وبتنازل الدولة العثمانية عن كافة حقوقها السياسية والمالية المتعلقة بمصر والسودان اعتبارا من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1914.. تسليم تركيا جزر إيجة لإيطاليا، واتجاه إيطاليا نحو نزع السلاح في الجزر القريبة من الحدود التركية..سيطرت دول التحالف على هذه الجزر ـ يبلغ عددها 12 ـ عام 1945، وسلمتها عام 1947 لليونان. وإلى اليوم تشكل هذه الجزر موضوع خلاف رئيسي بين تركيا واليونان..تقسم ديون الدولة العثمانية بين الدول المنفصلة عنها. وبموجبه تدفع تركيا القسم الواقع عليها بالفرنك الفرنسي..

انتقد الرئيس التركي  طيب رجب أردوغان من يرى في اتفاقية لوزان نصرا " و قال إن “خصوم تركيا” أجبروها على توقيع “معاهدة سيفر” عام 1920، وتوقيع “معاهدة لوزان” عام 1923".. وقد ألف الكاتب التركي "قدير مصر أوغلو" كتاباً بعنوان "معاهدة لوزان، انتصار أم خدمة؟!" ينتقد فيه المعاهدة والقائمين عليها من الطرف التركي حيث يقول إن الأتراك (في توقيع معاهدة لوزان) تخلوا عن قيادة المسلمين ورضوا بقطعة صغيرة من الأرض. وفي ديسمبر 2017، لدى زيارة الرئيس التركي أردوغان لليونان، في أول زيارة لرئيس تركي منذ 65 عاماً، وخلال مؤتمر صحفي مع نظيره اليوناني پروكوپيس پاڤلوپولوس بدأ بتوجيه انتقادات لاذعة لاتفاقية لوزان التي رسمت حدود تركيا الحديثة وحدودها مع اليونان، وطالب بتعديلها.. طرح النقاط الخلافية بقوة ومنها اتفاقية لوزان مشيراً إلى ضرورة تحديثها ومسألة قبرص والجزر المتنازع عليها والسيادة على بحر إيجه وقضية مسلمي تراقيا الذين اتهم أثينا بالتمييز ضدهم. ..معتبراً أن الهدف "أن نجد حلًا دائمًا وعادلاً للأزمة القبرصية، وكذلك بالنسبة لبحر إيجة". وقال الرئيس اليوناني إنّ "معاهدة لوزان"، تشكّل حجر الأساس في العلاقات القائمة بين بلاده وتركيا، وأنها غير قابلة للنقاش أو إعادة النظر.. 

يكرر الأتراك انه بحلول 2023 تنتهي مدة المعاهدة التي يكون قد مر عليها مائة عام، أو على الأقل أنهم سيتحررون منها من طرف واحد ومن هنا تفهم تصريحات أردوغان، أن تركيا ستدخل عهدا جديدا، وستشرع في التنقيب عن النفط, وحفر قناة جديدة تربط بين البحرين الأسود ومرمره تمهيدا للبدء في تحصيل الرسوم من السفن المارة.

أردوغان و عسكر تركيا

أخذ الجيش التركي على عاتقه مسئولية حماية علمانية الدولة وحراسة الجمهورية وظل عقودا طويلة المتحكم في الحياة السياسية.. حتى جاء أردوغان الذي بدأ عمله السياسي بمغازلة الغرب وتكرار المطالبة بالالتحاق  للنادي الأوربي واستعداده تحويل تركيا إلى دولة مدنية وتحت هذا الغطاء استطاع حزب أردوغان أن يكسب الجولة ويصفي نفوذ المؤسسة الأمنية من عصب الحياة السياسية والإعلامية مكرسا سلطان الصندوق معززا بموقفه في إطلاق مشاريع كبرى رفعت مستوى المعيشة وارتقت بالاقتصاد التركي إلى اقتحام نادي العشرين، وفي المجال الصناعي صنعت تركيا دبابة مصفحة و ناقلة جوية وطائرة حربية بدون طيار وقمرا صناعيا وحاملة طائرات وغواصتين نوويتين، واشتركت في صناعة منظومة اس 400، وفي عشر سنوات تم بناء 125 جامعة و198 مدرسة و510 مستشفى، وشيدت مطار إسطنبول الجديد، بالإضافة إلى التوسع في قطاع العقارات والمرافق السياحية وترافق ذلك بإطلاق إصلاحات بنيوية في المؤسسات عززت صمود تركيا أمام هزات اقتصادية عنيفة استهدفت قيمة الليرة..

تحرك أردوغان ضمن المسموح في مجال لعب الأدوار في الإقليم، فوجود دولة إيران "الشيعية" ومحاولتها انتزاع دور إقليمي دفع مقرري السياسات الغربية إلى إحداث توازن ما في المنطقة فتركوا لتركيا التحرك الضد في مجالها الحيوي التاريخي مستفيدة من الروابط العثمانية مع جيرانها وتقدمت من خلال تحالفات مع التيار الإسلامي المعجب بانجازاتها والمسكون بعلاقة وجدانية مع ماضيها.. ورغم انها كانت مصدر قوة كبيرة له ولكنها أيضا مصدر قلق واستفزاز غير محدود للأنظمة العربية المعادية له كالإمارات التي لا تدخر جهدا في محاولة إسقاط النموذج التركي والأخواني.. حتى غدت المسألة مسألة حياة أو موت.

شهد العقدان الأخيران حضورا إقليميا متميزا لتركيا التي حاولت لعب أدوار وساطة بين سورية والكيان الصهيوني و تقدمت خطوات في علاقة مع الفلسطينيين وتبنت الدفاع عن الربيع العربي و دخلت في معركته حتى النهاية في مصر وسورية وتونس وليبيا، ومع فشل الربيع العربي في أكثر من مكان تحملت أعباء ملايين النازحين ولكنها أدمجتهم في الاقتصاد التركي.. من الواضح صعوبة القول أن تركيا فشلت في إسنادها للربيع العربي فهاهو حضورها في ليبيا كسر حدة هجوم الإمارات ومصر وروسيا.. وها هو رأيها يصبح ضروريا في الملف السوري بعد أن استطاعت إدارة علاقة معقدة مع روسيا استفادت منها في مجالات إستراتيجية لاسيما مجال التصنيع العسكري كما أن تواجدها في أكثر من مكان يعزز توجهها إلى خطوة إستراتيجية كبيرة.. من هنا جاء الكلام المتكرر من قبل أردوغان وماكينته الإعلامية بأن عام 2023 سيشهد ميلادا جديدا لتركيا.. ولعل أيا صوفيا المسجد بما يمثله من دلالات رمزية نقطة الانطلاق على أكثر من صعيد كالاتفاقية العسكرية الأمنية مع ليبيا وترسيم الحدود البحرية والتي كان ممنوعا على تركيا اتخاذها بموجب اتفاقيات لوزان.

تحديات وخطورة

إنه من السهل التقاط ذلك لدى مؤسسات صنع القرار في الغرب.. قد يكون أردوغان أحس بترهل الدول الأوربية وعدم قدرتها دخول معارك طويلة الأمد وعدم استعدادها لتوترات أمنية بعد أن استقرت مجتمعاتها في حالة سلم اجتماعي.. ومستفيدا من كونه عضوا أساسيا في الحلف الأطلسي، ويكون أردوغان مع إحساسه بأنه يمثل كومنولثا إسلاميا وتيارات شعبية منتشرة في أسيا الوسطى وأوربا الشرقية قادر على إطلاق شرارة الانبعاث نحو محور إقليمي كبير يقف خلفه السنة.. ولكن هذا بلاشك سيواجه بمقاومة أوربية شرسة وبمقاومة إقليمية لا يستهان بها.. وتبقى الأسئلة الكبيرة أمامه ما هو مصير العلاقة مع الكيان الصهيوني؟ و هل يستطيع كسب ثقة الشارع العربي بعد تدخلاته الفاشلة في سورية و غيابه عن نصرة العراق و ارتباكه في العلاقة بمصر وعدم قدرته نصرة اليمن؟ هذه أسئلة تمثل تحديا كبيرا له..نعم أيا صوفيا شرارة مشروع الانفكاك من شروط اتفاقية لوزان، فهل يمتلك أردوغان رؤية ومنهج وقدرة تجنب تركيا أخطار المغامرة؟.. والله غالب على أمره.

عن الكاتب

صالح عوض

إعلامي وباحث سياسي فلسطيني له عدة مؤلفات في التاريخ الاسلامي والصراع الحضاري. مدير مركز البشير للدراسات الحضارية غزة.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس