الأناضول

-آق شمس الدين علم محمد بن مراد عددا من العلوم الإسلامية واللغات والرياضيات والعلوم العسكرية، وكان من أبرز العلماء الذين أحاطوا به عندما أوكل إليه السلطان الأب إدارة مغنيسيا وهو صغير، ما زاد في سعة أفقه وقوة إدراكه.

-كان لخطب آق شمس الدين أثر بالغ في نفس السلطان ونفوس الجند لتحفيزهم على الاستمرار في محاولة الفتح خلال الظروف العصيبة التي مر بها العثمانيون أثناء حصار القسطنطينية.

قد يبدو العنوان غريبًا بعض الشيء، حيث أن فتح القسطنطينية مرتبط قطعًا بالسلطان العثماني محمد بن مراد الثاني الملقب بـ"الفاتح"، إلا أننا لم نجاوز فيه الصواب، حيث أن العالم الشيخ آق شمس الدين، هو الفاتح المعنوي لهذه المدينة التاريخية.

نعم هو الفاتح المعنوي، بالنظر إلى دوره البارز في تعبئة الأمة التركية وراء هذا المشروع من ناحية، ومن ناحية أخرى إشرافه على تربية محمد بن مراد منذ الصغر، وتنشئته على الرغبة الجامحة في أن يكون فتح القسطنطينية على يده.

اسمه محمد شمس الدين بن حمزة، ويعرف بآق شمس الدين، ووفقا ما قاله المؤرخ محمد حرب، فإن الرجل يتصل نسبه للخليفة الأول أبي بكر الصديق، ولد في دمشق عام 792هـ/1389م.

حفظ القرآن الكريم وهو في سن السابعة، ودرس في أماسيا ثم حلب ثم أنقرة.

كانت بداية علاقته بمحمد بن مراد، عندما طلب السلطان الأب مراد الثاني من الشيخ حاجي بايرام أن يرشح له أحد العلماء ليكون مربيا ومؤدبا لولده محمد على عادة سلاطين الدولة العثمانية، فرشح له آق شمس الدين، أحد أبرز الأسماء التي أسهمت في تكوين شخصية محمد الفاتح.

قام آق شمس الدين بتعليم الصبي محمد عددا من العلوم والمعارف، حيث درّس له القرآن الكريم والسنة النبوية والفقه وعددا من العلوم الإسلامية.

كما علمه أشهر اللغات التي يتكلم بها المسلمون (العربية، الفارسية، والتركية)، إضافة إلى تعليمه الرياضيات والفلك والتاريخ واستراتيجيات الحروب.

كان محمد غلاما صغيرا حينما أوكل إليه والده إدارة مغنيسيا بهدف التدريب على الإدارة ونظام الحكم، ونظرا لصغر سنه، فقد أحاطه السلطان في رحلته هذه بجمع من العلماء والمربين أبرزهم آق شمس الدين، ما زاد في محمدٍ سعة الأفق وقوة الإدراك والعبقرية.

طيلة هذه الفترة، كان آق شمس الدين يغرس في محمد حلما عظيما للمسلمين، وهو فتح القسطنطينية، ويسرد على أسماعه حديثا نبويا يتضمن نبوءة بفتح هذه المدينة (لتفتحن القسطنطينية، ولنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش)، ويقنعه بأنه ذلك الأمير الذي يحقق حلم المسلمين، حتى كبر محمد، وتعاظم في نفسه ذلك الحلم.

تُوّجِت جهود الشيخ آق شمس الدين في تحقيق هذا المشروع بتولي تلميذه محمد بن مراد الحكم بعد وفاة أبيه، والذي توجّهَ بهذه التعبئة التراكمية إلى حصار القسطنطينية وفتحها عام 1453م، وهو في الواحدة والعشرين من عمره.

ففي مارس/آذار 1453م، زحف السلطان العثماني بجيشه إلى القسطنطينية بعد أن أتم استعداداته، وفي طليعة الجيش جمْع من العلماء منهم آق شمس الدين، يدعون ويبتهلون إلى الله بالنصر، الأمر الذي زاد من حماسة الجنود تجاه الفتح.

وأثناء الحصار الذي ضربه محمد بن مراد الثاني على القسطنطينية لمدة تزيد عن خمسين يوما، اخترقت أربع سفن (وقيل خمس) الدفاعات العثمانية، ودخلت من الخليج، كان البابا قد أرسلها دعما للبيزنطيين، الأمر الذي رفع معنويات الحاميات في القسطنطينية، بينما كان له أثر سلبي في نفوس العثمانيين.

ويذكر أمير حسين أنيسي في كتاب "مناقب آق شمس الدين"، أن الأمراء والعلماء العثمانيين اجتمعوا على إثر ذلك بالسلطان، وقالوا: "إنك دفعت بهذا القدر الكبير من العساكر الى هذا الحصار جرياً وراء كلام أحد المشايخ -يقصدون آق شمس الدين- فهلكت الجنود وفسد كثير من العتاد ثم زاد الأمر على هذا بأن عونا من بلاد الإفرنج داخل القلعة، ولم يعد هناك أمل في هذا الفتح".

فلما أرسل السلطان إلى آق شمس الدين، رد عليه الأخير برسالة قال فيها: "هو المعزّ الناصر ... إن القضية الثابتة هي: أن العبد يدبر والله يقدر والحكم لله، ولقد لجأنا إلى الله وتلونا القرآن الكريم، وما هي إلا سنة من النوم بعد إلا وقد حدثت ألطاف الله تعالى فظهرت من البشارات مالم يحدث مثلها من قبل".

كان لهذه الرسالة أثرها القوي في نفس السلطان وجنوده، فقرر مجلس الحرب المضي في طريق الفتح، فدخل السلطان على آق شمس الدين فقبل يده، وطلب منه أن يعلمه دعاء يدعو به لينال التوفيق من الله، فعلمه، فخرج من عنده يعطي الأوامر بالهجوم العام على القسطنطينية.

وأراد السلطان أن يكون الشيخ آق شمس الدين إلى جواره أثناء القتال، فأرسل أحد رجاله إلى خيمة الشيخ، فمنعه الحراس بناء على أوامر آق شمس الدين ذاته، فغضب السلطان وذهب بنفسه إلى الخيمة، فمنعه الحراس.

وفي هذا دلالة واضحة على عظم مكانة آق شمس الدين لدى السلطان، بلغت إلى الحد الذي لم يجعله يبطش بحراس الشيخ الذين رفضوا دخوله.

شق السلطان الخيمة بخنجره في أحد جوانبها، فدخل على آق شمس الدين، فوجده يسجد لله سجدة طويلة، تدحرجت فيها عمامته على الأرض وتدلى شعره الأبيض، ثم قام من سجدته والدموع تملأ عينيه تضرعا لربه بالنصر، فتركه السلطان ليتابع سير المعركة، فإذا بجنوده يفتحون الثغرات في أسوار القسطنطينية ليتدفق منها الجند الفاتحون".

لكن آق شمس الدين لم يترك تلميذه فريسة لنشوة النصر، فجعل يعظه أثناء الدخول بأحكام الإسلام السمحة في الحرب، وحقوق البلاد المفتوحة كما قررتها شريعة الإسلام.

وهنا يسجل الإمام الشوكاني العالم المعروف في كتابه "البدر الطالع بمحاسن مَن بعد القرن السابع"، تلك العبارة التي نطق بها السلطان محمد الفاتح على إثر النصر المبين: "لَيْسَ فرحي لفتح القلعة إنما فرحي بِوُجُود مثل هَذَا الرجل فِي زمني" يعني آق شمس الدين.

وأفضى السلطان بحديث جانبي إلى وزيره محمود باشا عن الشيخ آق شمس الدين، قائلا: "إن احترامي للشيخ آق شمس الدين، احترام غير اختياري. إنني أشعر وأنا بجانبه بالانفعال والرهبة".

وبعد أن قام السلطان بتحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد، كانت أول خطبة جمعه تقام فيه من نصيب آق شمس الدين.

أقام السلطان مأدبة لجنوده بمناسبة الفتح على مدى ثلاثة أيام، كان يقوم بنفسه على خدمتهم، فقام الشيخ آق شمس الدين يخطب في الجنود مذكرا بهذه النعمة وموصيا ببذل الخير لأهل القسطنطينية.

وقال الشيخ في خطبته: "يا جنود الإسلام، اعلموا واذكروا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في شأنكم: (لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش). ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا ويغفر لنا".

وأكمل: "ألَا لا تسرفوا في ما أصبتم من أموال الغنيمة ولا تبذروا وأنفقوها في البر والخير لأهل هذه المدينة، واسمعوا لسلطانكم وأطيعوه وأحبوه".

ثم التفت الى الفاتح وقال له: "يا سلطاني، لقد أصبحت قرة عين آل عثمان فكن على الدوام مجاهداً في سبيل الله. ثم صاح مكبراً بالله في صوت جهوري جليد".

وقد اهتدى الشيخ آق شمس الدين الى قبر الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري، والذي استشهد حول أسوار القسطنطينية في محاولات المسلمين الأولى لفتحها، وكان يوما مشهودا في تاريخ فتح القسطنطينية.

لم يكن الشيخ آق شمس الدين مجرد عالم في الشريعة أو واعظ يحمس الجند ويبين أحكام الحلال والحرام، بل كان رجل دولة، ومدركا لأبعاد السياسة الشرعية.

وتروي كتب التاريخ أن السلطان أراد أن يدخل معه خلوته للذكر والتعبد، فرفض آق شمس الدين، وغضب السلطان، واعترض على الشيخ بأنه يُدخل عليه الأصاغر من الناس ويأبى أن يدخل معه السلطان.

فأجابه الشيخ إجابة تنم عن سعة أفقه وبعد نظره: "إنك إذا دخلت الخلوة تجد لذة تسقط عندها السلطنة من عينيك فتختل أمورها"، فهو يدرك أن من يدير الدولة ليس مكانة في الخلوة والبعد عن الناس.

وحرص الشيخ آق شمس الدين بعد الفتح على ألا يقع السلطان في فخ الزهو والغرور، فأعطاه درسا آخر في موطن الظفر، حيث أن السلطان أمر له بأموال فرفضها، ولما خرج من خيمته لم يقم له الشيخ.

أثّر ذلك في نفس السلطان، فشكا إلى بعض رجاله من صنيع آق شمس الدين، فقال له: "لعله شاهد فيك من الزهو بسبب هذا الفتح الذي لم يتيسر مثله للسلاطين العظام فأراد بذلك أن يدفع عنك بعض الزهو".

ورغم تعمقه في علوم الشريعة، إلا أن ذلك العالم لم يقتصر عليها، بل كان عالما في الطب والصيدلة والطب النفسي والنباتات واستخلاص الأدوية منها والمداواة بها، ومن فرط براعته في ذلك تداول الناس مثلا ، يقولون إن النبات ليحدث آق شمس الدين.

وكانت الأمراض المعدية التي يموت بسببها الآلاف محل اهتمام آق شمس الدين، وألف كتابا عن ذلك بعنوان "مادة الحياة"، وقال فيه إن العدوى صغيرة ودقيقة إلى درجة عدم القدرة على رؤيتها بالعين المجردة، لكن هذا يحدث بواسطة بذور حية.

فلذلك يعتبر آق شمس الدين أول من وضع تعريفا للميكروب في وقت لم يخترع فيه الميكروسكوب بعد، وهذا ما توصل إليه الكيميائي والبيولوجي الفرنسي لويس باستر بعدها بأربعة قرون.

كما اهتم آق شمس الدين بمرض السرطان، وألف فيه كتابي "مادة الحياة"، و"كتاب الطب"، وله عدة مؤلفات باللغة العربية منها: "حل المشكلات"، "الرسالة النورية"، تلخيص المتائن"، مقالات الأولياء"، وغيرها.

ورغم إصرار السلطان على بقاء الشيخ آق شمس الدين في إسطنبول، إلا أن الأخير شعر بالحنين إلى موطنه، فاستجاب السلطان لطلبه، فارتحل إليها، ومكث هناك حوالي ستة أعوام حتى وافته المنية عام 863هـ/1459م.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!