توران قشلاقجي - مركز أمية للبحوث والدراسات الاستراتيجية

أطلقت المملكة العربية السعودية حملة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، غير معلن عنها رسميا، لمقاطعة البضائع التركية. لم تصدر تصريحات من أي مسؤول سعودي تنفي هذه الحملة، التي قابلتها أخرى مؤيدة لتركيا، من قبل شعوب كثير من البلدان العربية، مثل «الحملة الشعبية لدعم تركيا» وبدأت شركات عربية كثيرة تزور تركيا، من أجل التعاون مع نظيراتها التركية. لقد أدّت الحملة السعودية إلى زيادة الإقبال أكثر على البضائع التركية في الجمهوريات التركية، والبلدان الإسلامية.

شهدت دول كثيرة حول العالم خلافات سياسية في ما بينها منذ العصور القديمة، إلا أنها لم تسمح أبدًا بأن ينعكس ذلك على الشعوب، لأن هذا يعد إحدى القواعد المهمة في العلاقات بين الدول. والإسلام يدعم هذا الرأي، عبر مفهوم «إيلاف» الوارد في «سورة قريش» أي أن الدول لا تسمح للمناوشات السياسية القائمة بينها بتعطيل الحوار والتجارة بين شعوبها.

وحتى في يومنا هذا، تعيش دول في مختلف أنحاء العالم مشاكل سياسية مع بعضها بعضا، لكن نادرا ما تكون لها انعكاسات سلبية على مستوى الشعب، أو العلاقات التجارية. ولا شك في أن البلدان التي تعكس المشاكل على شعوبها، لا تتمتع بثقافة الدولة العريقة. فتركيا لديها مشاكل مع بلدان أخرى، مثل السعودية إلا أنها لا تتبنى مواقف صبيانية كهذه، وتعد إيران وألمانيا واليونان من أهم الأمثلة على ذلك، بالإضافة إلى ذلك، تواصل وسائل إعلام عربية منذ أعوام نشر عناوين وتصريحات تزعم «انهيار أو إفلاس الاقتصاد التركي» وهي تقارير موجهة، ونجدها في الإعلام الغربي أيضا بين الحين والآخر. قال لي أحد الصحافيين الغربيين مؤخرًا، إن الوسيلة الإعلامية التي يعمل فيها، تنشر منذ 5 أعوام أخبارا من قبيل «أردوغان على وشك السقوط، والاقتصاد التركي ينهار» وإنه عندما جاء إلى تركيا وشاهد الحقائق في هذا البلد، أدرك أن تلك التقارير كلها، عبارة عن آمال وأخبار موجهة.
مع كل ارتفاع في قيمة الدولار أمام الليرة التركية يخيب أمل المساكين الذين ينتظرون انهيار الاقتصاد التركي منذ عدة أعوام، علما أن ما يحدث هو عبارة عن ألاعيب تشرف عليها بعض البنوك الآسيوية والغربية. يعجز هؤلاء عن رؤية التحول الاقتصادي الكبير الذي يشهده العالم، إلى جانب التغيّر السياسي الكبير. فقد استحوذت الصين اليوم على محرك الاقتصاد العالمي. ويشهد العالم أكبر كساد اقتصادي في التاريخ. البلدان الغنية تصبح فقيرة بسرعة، والبطالة تزداد يوما بعد يوم. أمّا تركيا التي تنبأت بذلك، فإنها تموضعت مثل جدار فولاذي ضد الانقلابات الاقتصادية، مثلما هو الحال بالنسبة إلى الانقلابات السياسية والعسكرية. إن السبب الرئيسي وراء تحول آمال البعض إلى خيبة أمل منذ سنوات، هو عجزهم عن رؤية هذه الحقيقة. تنبأت تركيا قبل وقت طويل، بالتغيرات الكبيرة التي ستطْرأ على الاقتصاد العالمي، لذلك حرصت على اتخاذ خطوات ملموسة في العديد من المجالات بغية إعادة هيكلة سياستها واقتصادها ومجتمعها، وهو ما تدعمه جميع الشرائح في البلاد، وليس المحافظين فقط.

شهدت دول كثيرة حول العالم خلافات سياسية في ما بينها، إلا أنها لم تسمح أبدا بأن ينعكس ذلك على الشعوب

ترى تركيا أن التقاسم العادل للقيم والجماليات التي تقدمها الأرض، والتي أنتجها الجهد البشري، ليس مجرد شرط يقتضيه الحس الإنساني، بل هو واجب أخلاقي في الوقت نفسه. ومن هنا تنبع مشاريع تركيا للتنقيب عن الغاز الطبيعي والنفط، في كل من البحر الأبيض المتوسط ​​والبحر الأسود. كما أنها تعمل على نماذج اقتصادية أكثر شمولاً وإنصافاً، بحيث تعود بالنفع على عامة الناس والمجتمع ككل، وليس على أقلية واحدة فقط. تلك الدول العربية التي تعجز عن قراءة التغيّر الراهن في تركيا، سترى قريبًا جدًا مدى قوة الوجود التركي في السياسة والاقتصاد عالميًا.
للأسف، تواصل بعض البلدان العربية العاجزة عن رؤية هذا التغيير تحركاتها المناوئة لتركيا عبر نظريات سياسية واقتصادية، أنتجتها الظروف السياسية السائدة في القرن التاسع عشر، وذلك تماشيًا مع المسؤوليات التي فرضتها عليها القوى الإمبريالية. لكن عندما تتبدد الغيوم الضبابية التي تعم السياسة العالمية، بعد بضع سنوات، سوف تستيقظ هذه البلدان، وعندما ترى أن القطار قد فاتها منذ وقت طويل، ربما ستتحول دولها إلى سراب على يد القوى الإمبريالية.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس