ترك برس

تقيم غولشين أوزتبه، أول امراة تركية عملت في حراسة الوطن في ولاية هكاري جنوب شرق تركيا، حيث ناضلت في التسعينات ضد الإرهابيين الذين أرادوا تغيير مصير مدينة هكاري، ويواصل اليوم أبناؤها مع زوجاتهم القيام بواجبهم في حراسة الوطن.

تجاور جبال مدينة هكاري الشاهقة السماء، ومنها تتدفق منه مياه نهر "زاب" بسرعة عبر الوديان العميقة، وينتشر فيها الهواء النظيف، كما يشتهر أهلها بإكرام ضيوفهم بتقديم الشاي بالعسل.

يرتبط اسم هذه المدينة وما حولها بذكرى أعوام الإرهاب، حيث ناوب الجنود الأتراك على حدودها وجبالها التي تعرف بصعوبة اختراقها وجمال طبيعتها، وفيها يستمتع عشاق الطبيعة خاصة بالمشي في منطقة "جيلو" وبالتجديف في مياه نهر "زاب".

واليوم لم يعد السكان يسمحون بعبور المنظمات الإرهابية، التي لم يروا منها إلا الظلم، خاصة بعد نضال الآباء والأمهات في التسعينيات بكل شجاعة دون أن يغمض لهم جفن، ولم يرضخ أي منهم لتهديد الإرهابيين المتسللين إلى القرى والأحياء. وقد تجول مراسل قناة "TRT Haber" بين قرى المنطقة بهدف لقاء الأمهات في هذه الأراضي التي تفوح منها رائحة الجنة، وكانت إحداهن الأم "غولشين أوزتبه"، التي تعد أول حارسة تركية من حراس الوطن، وتبلغ من العمر 65 عاما، وتقيم في قرية "سوستو" بولاية هكاري.

تولت أوزتبه، مهمة صعبة لم يرغب الرجال بالقيام بها في ذلك الوقت، بسبب خوفهم من التعرض للهجمات الإرهابية، فقد طلب منها قائد الجيش في هكاري تولي هذه المهمة في التسعينات، حيث كانت تعتني بالجنود القادمين إلى القرية كأبنائها، ولا ترسلهم دون أن تطعمهم وتسقيهم.

تتذكر أوزتبه لحظة توليها هذه المهمة بقولها: "قالت لي ابنتي الكبرى (تعالي يا أمي، اتركي الماء وتعالي بسرعة)، قلت لها: (لماذا، ماذا حدث؟)، فقالت لي: (الباشا في هكاري يستدعيك يا أمي)، فذهبت إليه وقلت له: (سأفعل كل ما تأمرني به)، فقال لي: (ستكونين حارسة تركيا)، فتفاجأت بكلامه، وقلت له: (لا أستطيع أن أكون ذلك) ثم فكرت وقلت: (حسنا سأكون حارسة)، من أجل دولتنا وجنودنا وشهدائنا".

علقت أوزتبه العلم التركي على التلة الأكثر ارتفاعا في القرية قبل 40 عاما، وحملت سلاحها بيدها لحماية وطنها وتغيير مصير المكان الذي عاشت فيه بالتسعينات، وفي الوقت نفسه قامت بتربية أبنائها السبعة، ولم تسلم من تهديد الإرهابيين ومهاجمتهم لمنزلها عدة مرات، ولم ترضخ بل واصلت نضالها ومحاربتها للإرهابيين، وكانت تقاوم مخبئة أطفالها تحت الحجارة، ومواصلة حراسة قريتها ليلا ونهارا.

وبالرغم من إطلاق الإرهابيين النار عليها ثلاث مرات، إلا أنها علقت العلم مرة أخرى في اليوم التالي، فقالوا لها: "سنأخذك إلى قرية أخرى، فلتنزلي العلم، وإلا سنقتلك"، لكنها لم تحني لهم رقبتها وقالت: "لن ينزل هذا العلم"، وبالفعل بقي علم النجمة والهلال مرفرفا بكل مجد وفخر منذ 40 عاما في قرية "سوستو"، وفي حال اتسخ العلم أو تضرر بفعل الرياح كانت الأم غولشين تجدده على الفور.

وصفت الأم غولشين، بصوت مليء بالحماس، العلم والجنود الأتراك قائلة: "إنهم أرواحنا ودماؤنا"، وقد أصبحت مع مرور السنين صديقةً وأمًا للجنود الأتراك الذين قاتلت بجانبهم، وتدعو لهم من كل قلبها عندما تشاهد قتالهم الآن في شمال العراق في كل يوم وكل دقيقة، وقد قالت بصوت مرتجف: "كأنهم كلهم أولادي الأعزاء، ينفطر فؤادي عند سماعي خبر استشهاد أحدهم".

لم تكتفي غولشين، بمحاربة الإرهابيين، بل قامت بتوعية أهالي وشباب منطقتها بأهمية الدولة والعلم والوطن، وقالت لهم: "من على هذا الجبل، لا علاقة للإرهابيين بالأكراد"، البعض فهم والبعض خاف ولم يتقبل ذلك.

وبالرغم من بلوغ غولشين اليوم عمر 65 عاما، وكبر سنها إلا أنها لا تزال تحمل تفس العزيمة، كما يؤدي أبناؤها وزوجاتهم نفس وظيفتها، ونشأ أحفادها على حب العلم والوطن. تقول غولشين: "يصعب على ابنتي البقاء واقفة هنا، لخوفها من ذلك، فلا يستطيع الجميع التعامل مع هؤلاء الإرهابيين. وبالطبع ظهر بعض الخونة، وبقي البعض صامتا من الخوف".

تقارن الأم غولشين، الماضي بالحاضر بآهات عميقة قائلة: "في الواقع كان من المهم وقوفي إلى جانب دولتي، والحمد لله دولتنا اليوم قوية وقد قلّ الإرهاب، وأصبح الجميع حارسًا للوطن ولا يخاف. في زماننا كنا خمسة حراس فقط في القرية، وكانت الغالبية تخاف ولا تقترب".

هذه الأراضي هي جراح الأمهات المصابات اللواتي قضين عمرهن بمراقبة الطرق، يرثين أحباءهن بدموع عيونهن مضحين بحياتهن، ولا يأبهن لبرودة الشتاء، ولدى كل أسرة في القرية قصة مختلفة، يذكرن قصة حياتهن للمراسل وهن يشربن الشاي الساخن، ولديهن زوج من العيون، عين على الأرض التي يكسبن رزقهن منها وعين على الأبناء.

يبدأ عملهن مع بزوغ الصباح بنشاط في أرضهن الغنية، التي يجمعن فيها الحليب، ويحصدن القمح، ويخبز الخبز، ويعرف أبناء هذه الأرض لحظات المعاناة التي عاشتها هذه المنطقة، فقد تضررت حياتهم بشدة لمعاصرتهم المداهمات والظلم عن قرب، كما عاشوا لحظات اتكأت فيها ظهورهم وشعروا فيها بالسلام والأمان بكل راحة.

وبغض النظر عن المكان الذي تعيش فيه الأمهات، فإن لديهن نفس الجرح الواحد، فهن لا يردن التضحية بأبنائهن الذين قمن برعايتهم وتربيتهم بجهود كبيرة، وقد قاتلن بقلب الأم الذي لا يخاف، لحماية منازلهن وأرضهن. ينشغل بعضهن بالحديث بعلم ومعرفة، والبعض الآخر لا يمتلك سوى الدعاء، لكن الأمهات في ديار بكر شرق تركيا والأمهات في إزمير غرب تركيا يهتفن بنفس الكلمة "فلينتهي الإرهاب".

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!