احسان الفقيه - التقرير

ظل ذلك الشاب الذي لم يتجاوز العشرين عامًا يسبح بقوة برفقة أخيه الأصغر، وقد أصاب الإعياءُ هذا الأخير؛ فقرر العودة إلى الشاطئ.

ناداه أخوه راجيًا إياه ألا ينخدع بأولئك الذين يقفون على البرّ بأسلحتهم وقد نادوا عليهما يعطونهما الأمان، لكن فرط التعب قد جعل الصغير يجنح إلى الرجوع والتماس النجاة في وعد الأمان.
وبينما كان عبد الرحمن بن معاوية يصرخ في أخيه من قلب الماء؛ إذ بالغلام يصل إلى جند أبي جعفر المنصور.

وذبحوه..

نعم ذبحوه على مرأى عبد الرحمن، والذي أطبقت عليه السماء من فرط الهلع والحزن على أخيه، لكنّه قد واصل طريقه.

طريقه إلى إقامة دولة فتية في الأندلس، ولولا أن الله سخر هذا الرجل للأندلس لانتهى الإسلام فيها بحسب ما ذكر المؤرخون؛ فاستحق اللقب الذي اشتهر به: “صقر قريش”.

ما أروع التمكين بعد الاستضعاف.. وما أجمل قطف ثمار الصبر.

في رائعة من روائع الإمام ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر، يتخيل حوارًا بين الزيت والماء ذلك أنهما كلما اختلطا في إناء ارتفع الزيت على سطح الماء؛ فقال الماء للزيت منكرًا: لم ترتفع علي، وقد أنبتّ شجرتك؟ أين الأدب؟! فقال الزيت: لأني صبرت على ألم العصر والطحن، بينما أنت تجري في رضراض الأنهار على طلب السلامة، وبالصبر يرتفع القدر.

ثرثارة أنا كعادتي معكم.. أعرف.

حسنًا.. دعونا من الزيت والماء، ولنعُد إلى صقر قريش.

لا ريب أنه بعد التمكين جلس يتذكر الماضي وطريق الأهوال، تمامًا كما رأيت أردوغان في خطاب له مؤخّرًا، يسترجع -بعد أن مكَّنه الله- ذكريات الماضي الذي امتلأت صفحاته بالأهوال أيضًا.

مساجدنا ثكناتنا
قبابنا خوذاتنا
مآذننا حرابنا
والمؤمنون جنودنا
هذا هو الجيش المقدس
الذي يحرس ديننا

أطلق أردوغان هذه الأبيات من قلب ميدان ولاية “سيرت” في شرق تركيا، وهي للشاعر التركي “ضياء غوك ألب”.

وللشعر سحر لا يُقاوم، إذا تولد من شعور صادق وانتظم في أبيات لها مكانها في مواقع الكلم، فكما قال بعض أهله: “يسمع المعنى نثرًا فلا يهز له عطفًا، ولا يهيج له طربًا، فإذا حُوِّل نظمًا فرح الحزين، وحرك الرزين، وقرب الأمل البعيد”.

أو هو كما قال الرافعي في وحي قلمه: “إنما الوزن من الكلام كزيادة اللحن على الصوت، يراد منه إضافة صناعة من طرب النفس إلى صناعة من طرب الفكر”.

يبدو أنني قد عاودتني الثرثرة أو عاودتّها..
لا بأس في أن تصبروا على بعض عشوائيتي.

ما يجذب الانتباه في الحدث، أن أردوغان ألقى هذه الأبيات ذاتها في المكان نفسه قبل 18 عامًا، هي الفترة التي كابد فيها ابن حي قاسم باشا ورفاقه المشاق والصعاب، قبل أن يمُنَّ الله على الذين اسْتُضعِفوا ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين.

ولكنّ الحدثين رغم تطابقهما، قد اختلفا في الأجواء والأصداء، ولكل منهما حكاية ورواية، وإشارات ودلالات.

عمدة إسطنبول خلف القضبان:

من كان يصدق أن إسطنبول سوف تكون أنموذجًا راقيًا تتطلع كل بلديات تركيا إلى اللحاق بها؛ فقط لأن العمدة كان ذلك الشاب من حزب “الرفاه”، الذي خطف بريقه كل الأنظار، واتخذ من العمل الجاد شعارًا ومن الإخلاص دثارًا.

لكنّ الآلة العلمانية الجبارة لم تكن لتسمح لهذا الشاب صاحب الجذور الإسلامية بالصعود والتنفّذ؛ فاستغلت يوم أن وقف بولاية سرت في 12 ديسمبر 1997، وألقى تلك الأبيات ذات الصبغة الإسلامية الواضحة، فتقيأت تلك الزمرة من قاذورات مبادئها المتناقضة، وسُجن العمدة!

نعم سُجن أردوغان بتهمة تهديد أمن البلاد وزرع الفرقة واستنهاض مشاعر العداوة، وأوقعوه قسرًا تحت طائلة المادة 312 من قانون العقوبات التركي، كل ذلك من أجل أبيات تعبر عن هويته الإسلامية.

تم سجن أردوغان عدّة أشهر، لكنه أطلق كلمته التي وافقت ما جرت به أقلام القدر: “هذه ليست النهاية، بل البداية”.

وفي يوم تنفيذ الحكم، تصل الحشود الرهيبة إلى منزل أردوغان، وتؤدي معه صلاة الجمعة في مسجد الفاتح، فألقى على مسامعهم خطبته التاريخية وكان مما قال خلالها:

“وداعًا أيها الأحباب، تهانيّ القلبية لشعب إسطنبول وللشعب التركي وللعالم الإسلامي بعيد الأضحى المبارك.

إنني لست ممتعضًا ولا حاقدًا ضدّ دولتي، ولم يكن كفاحي إلا من أجل سعادة أمتي، وسأقضي خلال هذه الشهور في دراسة المشاريع التي توصل بلدي إلى أعوام الألفية الثالثة، والتي ستكون إن شاء الله أعوامًا جميلة، سأعمل بجد داخل السجن، وأنتم اعملوا خارج السجن كل ما تستطيعونه”.

“أستودعكم الله وأرجو أن تسامحوني وتدعوا لي بالصبر والثبات، كما أرجوا ألا يصدر منكم أي احتجاج أمام مراكز الأحزاب الأخرى وأن تمروا عليها بوقار وهدوء، وبدل أصوات الاحتجاج وصيحات الاستنكار المعبرة عن ألمكم، أظهروا رغبتكم في صناديق الاقتراع القادمة”.

وبعد 18 عامًا:

يقف أردوغان في ذات المكان بكل شموخ، ويتلو على مسامع شعبه ذات الأبيات، لكن الأجواء قد اختلفت، بعد أن هبّت رياح التغيير، وأينعت ثمرة الحرية.

” دخلت السجن بسبب قراءتي شعر “ضياء غوك ألب” في هذا الميدان بتاريخ 17 ديسمبر/ كانون الأول عام 1997، رغم أن الشعر موجود في جميع المناهج التعليمية الرسمية ومُصدّق من قبل وزارة التعليم ومجلس التربية.

هل تذكرون ذاك الشعر؟

هل تعرفونه؟

هل نستطيع قراءته مرة ثانية؟

لنرَ سويًا إلى أين وصلت تركيا.. لنعرف معًا معنى الحرية”.

رسائل وإشارات:

هل ترون أنها فكرة قفزت بغتة في ذهن أردوغان أن يسترجع الماضي بتلك الأبيات؟

لا أظن ذلك، فالرجل عهدناه حاد الذكاء، مستثمرًا للأحداث، فأرى أن أردوغان يبعث إلى أصدقائه وأعدائه معًا بعض الرسائل:

لم أتغير ولكني تطورت

تلك هي عبارة أردوغان التي أدلى بها بعدما صار زعيمًا لتركيا، وهي ذات الرسالة التي يبعث بها للجميع: “أنا لم أتغير، ولكني تطورت”.

أراه يؤكد على هويته الإسلامية التي شكك بها البعض ووضعوه في خانة العلمانية والقومية.

يؤكد على أن تركيا مهما صيغ لها من توصيفات، فهي من التراث العثماني الإسلامي وإليه تعود.

إلى بني أتاتورك:

هي رسالة واضحة إلى العلمانيين، بأن عهد الدولة الكمالية قد ولى وانقضى زمانه، فلن تهيمن مبادئ أتاتورك على البلاد ثانية، ولتبقى على الجدران ممثلة في صورة أتاتورك حتى تأكلها الأرضة.

وليس أدلّ على ذلك من أنه في الخطاب نفسه، وجه تلك الصفعة للعلمانيين، عندما انتقد دعوات لرفع الأذان باللغة الكردية، وقال: “إن حزب الشعب الجمهوري، حاول في فترة الحزب الواحد، إبعاد الشعب التركي عن عقيدته، وتاريخه، وحضارته، وبناء مجتمع جديد يناسب “هواجسه الأيديولوجية”، مضيفًا أن “من يدعون إلى رفع الأذان بالكردية، يرغبون في إبعاد الأكراد عن عقيدتهم، وتاريخهم، وحضارتهم، وتحويلهم إلى أسرى لهواجسهم الأيديولوجية”.

وفي معرض انتقاده لتصريح رئيس حزب الشعوب الديمقراطي “دميرطاش” الذي قال فيه: “كعبتنا هي تقسيم” (ميدان وسط إسطنبول)، قال أردوغان: “كعبتنا معروفة”، في إشارة إلى البيت الحرام، مشددًا على أن صناديق الاقتراع القادمة ستكون درسًا لهم.

عهد الحريات:

وكانت تلك رسالة وإشارة من أردوغان، إلى أن عصر الإرهاب والاستبداد وكتم الأنفاس وكبت الحريات قد ولّى، وأن تركيا في عهد العدالة والتنمية اتسعت فيها مساحات الحرية وامتدت، فلن تزج الكلمة المعبرة عن الرأي بصاحبها في السجون.

أردوغان بين شعبه:

وكانت رسالة من أردوغان، إلى أنه يحتمي بشعبه بعد الله تعالى، تلك الجماهير هي ما يعول عليه أردوغان، هي زاده، يعيش بها ولها، وليس هناك من حمى يطمئن فيه زعيم أو رئيس بعد الله من شعبه، لكنّ ذلك لا يكون إلا على مطية العدل والإخلاص.

ويا ليت بعض حُكّام أمتي يفقهون..

عن الكاتب

احسان الفقيه

كاتبة أردنية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس