د. سمير صالحة - أساس ميديا

تتقدّم أنقرة بحذر ودقّة وهي تتعامل مع الملفّ الأفغاني اليوم، بعدما باتت تسيطر طالبان على المشهد السياسي والأمنيّ هناك. وتعرف طالبان أكثر من غيرها استحالة قبولها إقليميّاً ودوليّاً قبل الكشف عن خياراتها وممارساتها، وإعلان خارطة طريقها بشفافيّة ووضوح أمام المجتمع الدولي.

قال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في أواخر الشهر المنصرم إنّ طالبان لم تنجح بعد في تشكيل إدارة جامعة وشاملة في أفغانستان. لكنّ وفد طالبان برئاسة القائم بأعمال الخارجية الأفغانية أمير متّقي نجح في الحصول على موعد من رأس الدبلوماسية التركية في أنقرة والقيام بزيارة. لم يقُل متّقي من أنقرة إنّ إضعاف طالبان لن يحقّق فائدة لأحد، بل قال إنّ إضعاف أفغانستان لن يحقّق فائدة لأحد. هو يدعو الجميع إلى قبول حقيقة المشهد القائم اليوم في أفغانستان والتعامل معه على هذا الأساس.

تقول القيادة التركية إنّها قدّمت لوفد طالبان مجموعة من التوصيات دعته إلى الأخذ بها إذا ما أراد إخراج أفغانستان من أزمتها. وطالبان، التي دعت تركيا إلى سحب جنودها قبل 3 أشهر، تحاول استرضاء أنقرة هذه المرّة بعروض شراكة وتعاون. فهل تقبل أنقرة فتح أبوابها أمام القيادات الأفغانية الجديدة بهذه السرعة والسهولة؟

يقول متّقي إنّ تركيا دولة تملك قوّة اقتصادية مهمّة وحكومة فعّالة، وأثبتت نجاحها دبلوماسياً وسياسياً في العالم، وتحديداً بين الدول الإسلامية. فما الذي يريده متّقي من أنقرة مقابل الدور الجديد الذي يعرضه عليها في كابول؟ وقيادات الحركة هي التي كانت تدعو تركيا إلى سحب جنودها من العاصمة الأفغانية لأنّها تقف على مسافة واحدة من القوات التركية ومن بقيّة القوات الأجنبية الموجودة هناك. وهل ستكتفي أنقرة بما يردّده متّقي عن قدرات تركيا التي تؤهّلها للمساهمة في بناء أفغانستان الجديدة، والاستفادة من أكثر من فرصة تعاون وتنسيق في قطاعات كثيرة؟ وما الذي تبدّل حتى استقبلت القيادات التركية قبل أيام وفد طالبان على هذا النحو السريع والمفاجىء؟

انفتاح تركي على طالبان؟

قيادات طالبانيّة على لوائح الإرهاب الأميركي والدولي، وجوائز ماليّة ضخمة مخصّصة لِمَن يساهم في القبض عليها، تصول وتجول في العواصم كما تشاء، وتفرش لها القيادات السياسية والحكومات السجّاد الأحمر لتعبر عليه. نجحت دبلوماسيّة القيادات الطالبانية في أخذ الكثير ممّا تريده بعد مرور أشهر على سيطرتها بقوّة السلاح على المدن الأفغانية، وإسقاط حكومة شرعيّة معترف بها دوليّاً، كانت تعيش تحت الحماية والوصاية الأميركيّتين منذ سنوات.

هي ناورت الجميع مع الأخذ بعين الاعتبار مصالح كلّ طرف وأولويّاته وأهدافه في أفغانستان. كسبت المزيد من الفرص والوقت لإنهاء تمركزها السياسي والأمنيّ وسيطرتها على مرافق الدولة. نجحت في تفتيت التنسيق الإقليمي والدولي ضدّها عبر مفاوضات علنيّة وسرّيّة وعروض ومغريات سياسية واقتصادية في بناء أفغانستان الجديدة. ولعبت ورقة هجمات داعش الأخيرة في كابول، فتكاد تأخذ ما تريده من كسب تعاطف المجتمع الدولي ودعمه في مواجهة مجموعات داعش.

أسباب قبول أنقرة لوفد طالبان هي البراغماتية السياسية التركية التي تأخذ بعين الاعتبار الواقع الميداني والسياسي الجديد في أفغانستان، وتحرّك طالبان في اتّجاه أكثر من لاعب إقليمي، واستعداد عواصم كثيرة للانفتاح عليها في إطار مصالح مشتركة، إلى جانب ضرورات المصالح التركية في آسيا الوسطى التي تلتقي مع المصالح الروسية والصينية أحياناً، وتتضارب معها أحياناً أخرى. وكان الرئيس التركي قد قدّم اقتراحاً في قمّة قادة مجموعة العشرين الاستثنائية المنعقدة لمناقشة التطوّرات في أفغانستان، دعا فيه إلى تشكيل مجموعة عمل من أجل أفغانستان ضمن بنية المجموعة، معرباً عن رغبة بلاده في رئاستها. وكان هذا الاقتراح في صلب المحادثات التركيّة مع طالبان.

المؤكّد أنّ أنقرة لن تفاوض طالبان في الاعتراف الرسميّ بها قبل التأكّد من نواياها في الداخل والخارج، ومن كيفيّة التعامل إقليمياً ودولياً مع هذه المجموعات. الواضح أيضاً أنّ أنقرة لا تريد عقد أيّة صفقة تفاهمات مع حركة طالبان من دون معرفة شكل مسار العلاقات المستقبلية ومدى استعداد الحركة للالتزام بتعهّدات يطالبها بها المجتمع الدولي لتبريد الأجواء السياسية والأمنيّة في أفغانستان. لكنّ الواضح أيضاً أنّ أنقرة لا تريد تفويت فرصة عقد اتّفاقيّات مع هذه المجموعات التي بدأت تفاوض العديد من العواصم على تقاسم المصالح والنفوذ. طبعاً سيكون هناك حذرٌ تركيٌّ، إنّما لا يمكن إنكار أنّ معادلات جديدة ستظهر قريباً إلى العلن في التعامل مع الملفّ الأفغاني محلّيّاً وإقليميّاً، ولا يمكن لتركيا البقاء بعيدة عنها.

صحيح أنّ طالبان تحاول تلميع صورتها أو تذكير المجتمع الدولي أنّها ليست داعش أو القاعدة. فهي حتّى لو كانت شعاراتها إسلامية وتريد بناء إمارة إسلامية في أفغانستان، لكنّها تتحرّك من منطلق وطني، كما تقول، وتبحث عن اعتراف المجتمع الدولي بها. بعكس مجموعات داعش التي تعتبر كلّ بقعة جغرافية ساحة لعمليّاتها وأهدافها. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ تركيا لن تتعامل مع طالبان بطريقة مختلفة. وهي تعرف أنّ معطيات وأجواء اليوم المرتبطة بها تقول إنّ الحركة لم تتغيّر على الرغم من كلّ ما تقوله عن نفسها. الشعارات والمطالب والأهداف المعلنة في منتصف التسعينيّات هي نفسها تقريباً. تقدِّم طالبان نفسها على أنّها مجموعات تحارب إرهاب داعش الذي يستهدف المدن الأفغانية. لكنّها إذا لم تنجح في الخروج من تحت عباءة توصيفات الإرهاب وتصنيفها الدولي هناك، فهي لن تُقنع أحداً بقبولها ودعمها أو الاعتراف بشرعيّتها.

ماذا عن موسكو؟

نتائج اجتماعات موسكو المنعقدة في هذه الآونة هي التي ستساعدنا أكثر فأكثر على اكتشاف حجم التنسيق التركي – الروسي في الملفّ الأفغاني الذي وضعت أسسه قمّة إردوغان – بوتين الأخيرة في سوتشي. فهل تدعم قمّة أفغانستان الروسيّة الطلب التركي في إطار تلاقي المصالح والأهداف في أفغانستان؟

تقاطعت مواقف البلدين السياسية حول خارطة الحلّ هناك التي تقول إنّ التطوّرات في أفغانستان سيكون لها تداعيات اقتصادية وماليّة وأبعاد سياسية وإنسانية لا بدّ من التعامل معها بجدّيّة، وإنّ هناك حالة أفغانية تتطلّب مواجهة واقع جيوسياسي جديد، وإنّ ضمان الأمن والاستقرار في أفغانستان أمر بالغ الأهميّة على المستويين الإقليمي والدولي.

ومن أجل ذلك لا بدّ من دفع طالبان نحو تشكيل حكومة شاملة، من خلال إبقاء قنوات الحوار مفتوحة معها، وتذكير قيادات طالبان أنّ مسألة الاعتراف تمرّ عبر مراحل سياسية وقانونية وتقنيّة عديدة لا بدّ منها أوّلاً. وهي مرتبطة مباشرة باستعداد المجموعة لمراجعة مواقفها وأساليبها، وإشراك بقيّة شرائح المجتمع في إدارة شؤون البلاد، وتبديد حالة الخوف والقلق في صفوف النساء والأطفال والمعارضين السياسيين، وإعلان خطط عمليّة سريعة في مواجهة المجموعات الإرهابية المتشدّدة التي انتقلت إلى أفغانستان في الأسابيع الأخيرة، وطرح خطّة أمنيّة عاجلة للحرب على تجارة المخدِّرات التي حوّلت أفغانستان إلى معبر إقليمي استراتيجي لها في السنوات الأخيرة.

ستساعدنا حتماً منصّة موسكو حول أفغانستان على معرفة مسار الأمور في الملفّ الأفغانيّ، خصوصاً أنّ العديد من الدول الفاعلة والمؤثّرة في الملفّ ستكون حاضرة باستثناء أميركا التي أعلنت أنّها لن تشارك.

لم تعطِ أنقرة طالبان ما أرادته خلال استقبال الوفد القادم بصفته ممثّل أفغانستان الشرعي الجديد، بل اكتفت بالإعلان أنّها تستضيف وفد طالبان الأفغاني. خصوصاً أنّ المعارضة التركية تطارد سياسة "العدالة والتنمية" الأفغانية عن قرب، وتذكِّرها أنّ الوفد الأفغاني، الذي زار العاصمة قبل أيّام، ضمّ 18 شخصاً، من أصل 31 حضروا، أسماؤهم مدرجة على لوائح الإرهاب التابعة للأمم المتحدة. رئيس الوفد متّقي نفسه هو الرقم 26 في هذه اللائحة.

خلال 4 أشهر بدّلت أنقرة سياستها الأفغانية أكثر من مرّة، وهي لا تزال تفعل ذلك حتى اليوم. أعلن إردوغان أنّ وفد طالبان طلب المساعدة التركية، وأنّ أنقرة ستفعل ذلك، لكنّه لم يحدّد شكل هذه المساعدة وأبعادها وأهدافها. طلبت طالبان الدعم الإنساني والماليّ، وربّما الصحّي، لكنّ أنقرة لا تزال تعوِّل على خطة المشاركة مع قطر في الإشراف على تشغيل مطار كابول، وهو العرض الذي رفضته طالبان أكثر من مرّة.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس