علي حسون - خاص ترك برس

يحكم لبنان منذ تأسيسه قبل ١٠٠ عام سياسة المحاور، ويستقوي فيه الفرقاء السياسيين على بعضهم بالخارج ويُحمِّلون البلد في كل مرّة فاتورة قتال الآخرين على أرضهم. ويبدو أن السعودية أقرّت بخسارة معركة كبح النفوذ الإيراني ولكنها لم تقبلها، فانتقلت الى خطة العقوبات وألزمت حليفها سعد الحريري تعليق العمل السياسي في ظل انهيار غير مسبوق تعيشه البلاد وعلى مسافة أشهر من الاستحقاق النيابي الذي  يصرّ المجتمع الدولي على احترام مواعيده عند كل مناسبة وكان آخرها بيان مجلس الأمن في الرابع من شباط/فبراير الجاري.
ولأن قواعد الاشتباك بين أركان السلطة، منذ انتقال متاريس الحرب الأهلية (١٩٧٥-١٩٨٩) من خطوط التماس الى المؤسسات الدستورية، اقتضت أن يجمع اللاعبون الأساسيون على الساحة الداخلية بين الراعي الخارجي والتمثيل الداخلي، حصل الخروج المدوي لزعيم تيار المستقبل بفقدانه المظلة السعودية رغم تصدره استطلاعات الرأي، وهو ما أربك المشهد الداخلي و نسف التوازن المختل أساسًا لصالح حزب الله وحلفاءه.
فهل يُصلح الدخول التركي ما أفسده  خروج الحريري؟

العلاقة بين البلدين..حُبّ من طرف واحد

منذ استقلال لبنان عن فرنسا ١٩٤٣ وحتى صعود حزب العدالة والتنمية الى الحكم في تركيا اتسمت العلاقة بين البلدين بالتواضع ولم يخرق الهدوء سوى محاولة الرئيس اللبناني الأسبق كميل شمعون الانضمام الى حلف بغداد (حلف بين تركيا والعراق وباكستان محسوب على الغرب) وزيارته لأنقرة في نيسان/أبريل من العام ١٩٥٥. ولكن بعد عام ٢٠٠٢ وعودة تركيا تدريجيا لدورها الاقليمي وقوتها الاقتصادية ومن ثم تبنيها سياسة "العمق التاريخي" والمصالح المتبادلة القائمة على الحرص على الأمن والاستقرار في المنطقة عملت بقيادة الرئيس "رجب طيب أردوغان" على تطوير العلاقات مع لبنان على كافة المستويات:

صحيا واجتماعيا؛ عبر بناء المستشفى التركي للحروق والمساعدات لمواجهة تداعيات وباء كورونا وأخرى بعد كارثة انفجار المرفأ وانفجار " التليل" في عكار 

عسكريا وأمنيا؛ عبر المشاركة في قوات اليونيفيل منذ العام 2006 وادراج الجيش اللبناني في  "برنامج المساعدة العسكرية الخارجية التركي" منذ عام 2015 بالإضافة الى ارتفاع مستوى التنسيق الأمني 

اجتماعيا وثقافيا؛ عبر المساعدات العينية والمنح الجامعية وترميم وتأهيل المباني الأثرية والمجمعات التعليمية وافتتاح المراكز الثقافية وفتح المجال أمام الحصول على الجنسية التركية وتسهيل إقامة اللبنانيين  والحصول على العمل والرعاية منذ اندلاع ثورة 17 تشرين 2019
اقتصاديا؛ بلغ التبادل التجاري بين البلدين 1،8 مليار دولار العام 2021 وقفزت الصادرات التركية من ١،٣٪؜ عام ١٩٩٣ الى قرابة 8% عام 2021 والصادرات اللبنانية بلغت 275 مليون دولار في عام 2011 ولكن تداعيات الحرب السورية كبحت هذا المسار التصاعدي، كما أن التأشيرة رفعت بين البلدين وتم توقيع اتفاقية للتجارة الحرة 2010 ( لم تدخل حيز التنفيذ حتي الآن لأسباب لبنانية) 

في المقابل انتهزت السلطة في  لبنان كل فرصة  لتعكير صفو العلاقات الثنائية ، من اعترافها بمزاعم وادعاءات الأرمن في العام ٢٠٠٠  الى تصريح رئيس الجمهورية ميشال عون عام ٢٠١٩ بحق الدولة العثمانية في احتفال مئوية لبنان الكبير وما بينهما من اتهامات يطلقها محور حزب الله حينا كما فعل وزير الداخلية السابق محمد فهمي بالحديث ضبط اموال تركية في المطار لتمويل مجموعات تابعة لها ولائحة مزعومة بمؤسسات تعمل بأجندة تركية تُنشر بإيعاز من سلفه نهاد المشنوق  الذي كان محسوبا على تيار المستقبل دون السهو عن اختطاف الطيارين التركيين من قبل اتباع حزب الله في ال2012 والتطاول على سفارة أنقرة في بيروت والهجمات الإعلامية بين الحين والآخر .

جحود أحزاب السلطة والمزاج الشعبي

تحتل تركيا مكانة خاصة في وجدان الشعب اللبناني وأبلغ تعبير عنها  الأعلام التركية وصور الرئيس أردوغان المنتشرة في المناطق اللبنانية والتضامن مع الشرعية في محاولة الانقلاب الفاشلة 2016 والهرولة الى الصرافين لشراء العملة التركية 2018 وال400 الف سائح لبناني الذي زاروا تركيا في العام 2019 او الآلاف الذين يسعون الى الحصول على الجنسية التركية سواء عبر الاستثمار او إثبات اصولهم، ولكن الأسباب الحقيقة الكامنة وراء جحود أهل الحكم كالتالي: 

أولًا : القوات والتيار الوطني الحر الذين يسعون الى ارضاء الأرمن في الداخل وفرنسا والغرب في الخارج 

ثانيا : ثنائي أمل وحزب الله المحسوبين على محور ايران التي انخرطت عبر ميليشياتها في الحرب على الشعب السوري وثورته وهو ما يناقض التزام الدولة التركية دعم حقوق السوريين

ثالثا : كوادر المستقبل وسُنّة الخليج نتيجة التباعد بين السعودية والامارات ومصر من جهة وتركيا من جهة أخرى بسبب الموقف الثابت لحكومة أردوغان من احترام قرار الشعوب ونتائج صناديق الاقتراع.

ولكن السبب الأهم يتمثل في رفض أنقرة دعم أي فريق أو طرف على حساب طرف آخر وتحصر علاقاتها في إطار المؤسسات الدستورية وتدعم مشروع الدولة وهو الذي يتناقض مع فلسفة وجود هذه الأحزاب التي تعمل على حماية نظام المحاصصة الطائفي الذي تقتات عليه.

المصالح تفرض التعاون

كثيرة هي المصالح التي تجمع لبنان بتركيا وتدفعه الى تطوير علاقته معها ولكن أهمها على الاطلاق ما هو متصل بقضية اللاجئين حيث أن التنسيق مع الدولة التركية سيضاعف الفرص في تنفيذ المجتمع الدولي لتعهداته وبالتالي تخفيف الأعباء الملقاة على عاتق الدولة اللبنانية في هذا الملف. كما أن التعاون مع الجانب التركي فيما يتعلق بترسيم الحدود البحرية وحقوق لبنان في ثروات البحر المتوسط شديد الأهمية والتجربتين الليبية والمصرية تقولان ان الرابح في هذا الملف هو من يتعاون مع أنقرة، في ظلّ المعادلة التي أرساها الرئيس أردوغان بارتباط نجاح اي اتفاق لتقاسم الثروات او تصدير الغاز بتركيا . أضف الى ذلك الحاجة الماسة الى الدعم العسكري والتعاون الأمني وتحديدا في هذا الظرف الشديد الخطورة، ولا ينبغي أن نتغاضى عن حاجة لبنان الى جميع الخبرات لتطوير قطاعه الصناعي لانقاذ اقتصاده المتهالك.

لا كفيل ولا وكيل

عند الحديث عن الدور التركي يتبادر الى الذهن النجاحات التي حققتها تركيا في تحرير أذربيجان والحفاظ على حقوق الشعب الليبي وشرعيته وحماية قطر الدولة والشعب، على أن القاسم المشترك بين جميع الملفات أن تركيا لا تتدخل إلا كدولة بناء على اتفاق مع دولة أخرى وفقا لاتفاقيات موقعة تحفظ حقوق الطرفين مبنية على شرعية شعبية، وأن لا مكان للتدخل في الشؤون الداخلية للدول في سياستها الخارجية ولا مجال لفتح علاقات مع تنظيمات أو أحزاب ولا دعم مرشحين.

وبالتالي فإن على الخائفين أو الآملين من تطور الدور التركي في لبنان، التيقن أنه لن يكون إلا عبر الحكومة اللبنانية والمؤسسات الشرعية، وسيكون على اساس الاحترام والمصالح المتبادلة، فتركيا لا تصدر تكليفا شرعيا ولا تنصب نفسها كفيلا على أحد، تركيا بحجمها وقوتها وتاريخها لا تقبل لعبة المحاور ولكنها تسعى لدور الضامن العادل.

عن الكاتب

علي حسون

صحفي لبناني


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس