ترك برس

صدر مؤخراً النسخة المترجمة للعربية لكتاب الأستاذ الدكتور، إبراهيم قالن، "مقدمة إلى تاريخنا والآخر وما وراء العلاقات بين الإسلام والغرب" والذي يتناول فيه النقاط المشتركة بين العالمين الإسلامي والغربي، ويعتبرها "نقاط تلاقيهما وتفاعلهما".

قالن الذي يعد أيضاً من أبرز الشخصيات في السياسية التركية، ويتولى حالياً منصب الناطق الرسمي للرئاسة التركية، ينطلق في مقاربته هذه من التاريخ المشترك للمجتمعات الإسلامية والغربية، ويبرر المؤلف هذه الانطلاقة من تشابك الحقائق مع التصورات لهذين التاريخين، كما الهوية مع الصورة، والحقيقة مع الخيال.

الشرق شرق والغرب غرب

ويستشهد المؤلف بقصيدة شهيرة للشاعر والقاص البريطاني روديارد كبلينغ (1865-1936م)، أول حائز على جائزة نوبل "الشرق شرق، والغرب غرب.. لن يلتقيا أبدا. كما الأرض والسماء.."

وهو بذلك يعبر عن واحدة من الخصائص الأساسية للشرق في الحس السائد في العالم الغربي. ويشير إلى أن الانفصال بين الثقافتين هو الوضع الطبيعي، فيما أن تقاربهما حالة استثنائية تستدعي التدخل الإلهي.

ويذكر الكاتب أن أرسطو كان يحذر طالبه الإسكندر الأكبر (356-323 ق.م) من الشرق بقوله "إن أسلوب حياة الفرس تحمل في جوهرها بذور الموت والخوف. أما الإغريق فيحملون بذور الحياة والشجاعة"، بحسب ما نقله تقرير لـ "الجزيرة نت."

ويرى قالن أن المجتمعات الإسلامية لم تنظر إلى نفسها على أنها "شرقية" أو "ممثلة للشرق"، فالشرق ليس سوى مصطلح وظيفي تخيلي ظهر للإشارة إلى آسيا على إثر تعريف أوروبا لنفسها على أنها الغرب.

ويقول المفكر حسن حنفي (1935-2021)، إن من الخطأ، وضع التقابل "الإسلام والغرب"، فالإسلام في الشرق وفي الغرب، في آسيا وأوروبا، في اليابان وأميركا، والغرب كنموذج وكمثال موجود في الغرب والشرق، الإسلام والغرب، هو تداخل سكاني وعمراني وثقافي في آن واحد. ورأى المؤرخ وعالم الاجتماع ابن خلدون (1332-1406) أن حركة التاريخ هي بين مجتمعات المدينة الحديثة، ومجتمعات البدو الرحل، ولم يقل إن الأولى غربية ولا الثانية شرقية.

وأشار المؤلف إلى أن العبارة التي وردت في الآية 115 من سورة البقرة "وَللهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ…" لفتت انتباه المفكرين الأوروبيين، إذ استخدمها الشاعر الألماني يوهان غوته (1749-1832)، عنوانا لديوانه الشعري "الديوان الغربي الشرقي" للتعالي على هذا التمييز بين الشرق والغرب (أو ربما للتذكير بهذا التمييز)، أما المستشرق النمساوي والمؤرخ جوزيف فون هامر-بورغستال (1774-1856)، فكان يكثر من الإشارة إلى هذه الآية في كتاباته، وطلب نقشها على قبره قبل وفاته.

الإسلام والغرب.. سحر الكلمات

يرسم المؤلف مخططا لتاريخ تفاعلات الإسلام والغرب، بقوله إن العصور الحديثة أحدثت العديد من الهزات في العالم الإسلامي.

ويرى أن العالم الإسلامي الذي احتلت أراضيه، وحكم على تاريخه وحضارته وثقافته بالتخلف والعبثية، كان عليه أن يحدث ردة فعل ما على الحداثة التي كان مصدرها الغرب.

وذكر الكاتب أنه على مدى قرنين كانت المجتمعات الإسلامية تنظر إلى نفسها كفاعل يتصرف خارج التاريخ، ويعاني من متلازمة التخلف الثقافي، ويضيف أن وصف تاريخ أوروبا ككل كمشروع قائم على تشكيل هوية الآخر هو وصف مبالغ فيه.

ويؤكد قالن أن أوروبا تأثرت في فترة نشأتها تأثرا كبيرا بالثقافات الأخرى في آسيا والعالم الإسلامي وأفريقيا.

ويشير المؤلف إلى أن الإطار الفلسفي لوثيقة إعلان استقلال الولايات المتحدة المعلن في 4 يوليو/تموز عام 1776، قد استقى من القرآن الكريم وبعض المصادر الإسلامية. ويضيف أن نسخة المصحف المعروفة باسم "مصحف جيفرسون" والتي لا تزال محفوظة اليوم في مكتبة الكونغرس الأميركي، هي واحدة من الأمثلة الأكثر وضوحا على هذا التاريخ المتداخل.

ويلفت الكاتب إلى أنه مع الطغيان الاستعماري والإمبريالي على علاقات أوروبا السياسية والدبلوماسية والتجارية والثقافية مع العالم الخارجي منذ القرن الـ17، تم تحديد أطر جديدة للعلاقات وأسلوب كتابة التاريخ.

التحدي الديني اللاهوتي.. المواجهة التاريخية

أظهرت حوادث عديدة في أوائل تاريخ الإسلام علاقة خاصة ومختلفة بين الإسلام والمسيحية كما يرد في الكتاب. وأولى تلك الحوادث أن راهبا مسيحيا يدعى بحيرا (سرجيوس) كان أول من أشار إلى نبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو من رجال الدين المسيحي.

ويتابع المؤلف ذاكرا أنه عند نزول الوحي على النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، ذهب إلى (ورقة ابن نوفل) وهو أحد أقرباء زوجته خديجة -رضي الله عنها- المسيحيين. والذي أخبر النبي أن هذا هو الوحي الإلهي، وأنه بذلك بشر بالنبوة. و"بذلك يكون أول عالم يبشر الرسول بالنبوة، هو عالم مسيحي".

ويقول المؤلف إنه على الرغم من كل ذلك التاريخ المشرق المبكر اشتد الجدل اللاهوتي المعادي للإسلام في القرنين الـ8 و9، وكان من أوائل من تناول الإسلام والقرآن والنبي محمد من علماء اللاهوت المسيحيين بيدا (توفي عام 735)، ويوحنا الدمشقي (توفي عام 749) والمتتلمذ على يديه ثيودور أبو قرة (توفيا عام 820 أو 830)، ويؤكد المؤرخ قالن أن الإسلام والمسلمين أصبحا في مثل هذه الكتابات هدفا لهجمات عنيفة شنها اللاهوتيون المسيحيون.

التهديد الثقافي

ويقول الكاتب إنه بعد القرنين الـ9 و10، بدأ الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية بنشر تأثيرهما مبكرا في أوائل القرن الـ19، خاصة في قطاع المتعلمين في جنوب أوروبا، وعلى الرغم من التهديد اللاهوتي والسياسي، انتقد أسقف قرطبة في عام 854 مريديه قائلا إن "إخوتي المسيحيين يستمتعون بالشعر وقصص العشق العربية، ويدرسون أعمال الفلاسفة المسلمين.. الشباب المسيحيون لا يعلمون سوى العربية.. ويقرؤون الكتب العربية بعناية فائقة وحماس. وينفقون أموالا طائلة على اقتناء الكتب العربية".

ويرى قالن أن ترجمة أعمال الكثير من الجوالة المسلمين من المفكرين والمثقفين، إلى اللاتينية، تسبب في ظهور اتجاهات حركات فكرية جديدة، ومن الأمثلة البارزة على ذلك رواية حي بن يقظان الفلسفية لصاحبها ابن طفيل، وترجمت أعماله إلى اللاتينية على يد المستشرق الإنجليزي إدوارد بوكوك (1604-1691)، في عام 1727، تحت عنوان (Philosphus Autodicticus) أي "الفيلسوف الذي علّم نفسه بنفسه".

كما يؤكد الكاهن الإسباني والباحث في التاريخ الإسلامي ميغيل آسين بلاثيوس (1871-1944) أن "الكوميديا الإلهية" لدانتي، والتي تعد واحدة من أهم الأعمال الأدبية واللاهوتية في العصور الوسطى، تأثرت بكتابات المسلمين حول الإسراء والمعراج.

وأضاف الكاتب أن من بين المفكرين اليهود الذين تأثروا بمبدأ التفكر لدى المسلمين، وألهموا الفكر اليهودي في القرون الوسطى، الفيلسوف ابن ميمون (ت: 1204)، صاحب كتاب "دلالة الحائرين"، والفيلسوف سعديا غاون (توفي عام 942)، وسليمان بن جبيرول (1070)، يحيى بن باقودا (توفي أواسط القرن 11)، وابن كمونة (توفي 1284)، الذي ألف شرحا قيما لكتاب "حكمة الإشراق" لصاحبه شهاب الدين السهروردي (ت: 1191).

ويؤكد إبراهيم قالن أن التفاعل الكبير والحوار مع المسيحيين في عصر النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- كان مشكلا أساسيا لأرضية العلاقات التاريخية والأيديولوجية للعلاقات الإسلامية البيزنطية.

هارون الرشيد وشارلمان

ويذهب المؤرخ إبراهيم قالن إلى أن الصلات السياسية والدبلوماسية التي جمعت بين الخليفة هارون الرشيد (توفي 809)، الذي عرفه القارئ الأوروبي من حكايات ألف ليلة وليلة، وبين شارلمان (748-814) أقوى إمبراطور في أوروبا، تظهر كيف تجاوز فكر الفتح الديني والجهاد مع الواقعية السياسية.

ويوضح المؤرخ قالن أنه ربما بدافع فضول ورغبة شارلمان لمعرفة شخصية نظيره الملقب بـ"سلطان الشرق وأمير المؤمنين"، فقد أرسل وفدا محملا بالهدايا إلى هارون الرشيد في عام 797. ومنذ ذلك الحين بدأ القادة والعلماء المسلمون بنقل الأعمال اليونانية القادمة من الأراضي البيزنطية، بعد ترجمتها وتنقيحها بشكل يلائم ثقافة العالم الإسلامي.

ويتابع أن الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور (714-775)، طلب من الإمبراطور البيزنطي قسطنطين أعمالا تعود للعلم والفكر اليوناني القديم، فأرسل له الإمبراطور كتاب العناصر أشهر أعمال عالم الرياضيات اليوناني إقليدس (323-383 ق.م)، وخلال فترة وجيزة أصبح هذا الكتاب أحد الأعمال العلمية الأساسية في القرون الوسطى.

وأضاف الكاتب أنه بنفس الشكل التمس جابر بن حيان، وهو أحد أهم علماء ومفكري عهد هارون الرشيد، من الأخير أن يحضر له بعض الكتب، وقد ذهب حنين بن إسحاق (809-873) إلى الأراضي البيزنطية وعاد بالعديد من الأعمال اليونانية.

عوالم جديدة من الفن والعمارة والأدب

ويرصد المؤرخ قالن في كتابه تفاعلات مهمة بين المسلمين والبيزنطيين في مجالات الفن والعمارة والأدب إلى جانب التفكير العلمي والفلسفي. وقد عمل الحرفيون البيزنطيون في العديد من الأعمال الإسلامية.

ويلفت المؤلف إلى أن بعض العمال الحرفيين البيزنطيين قد عملوا في ترميم الكعبة في عهد سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، كما أن إنارة المسجد النبوي في المدينة بالمصابيح كان اقتراحا من تميم بن أوس الداري الذي تحول من المسيحية إلى الإسلام، وقد دعا له النبي بالنور في الدنيا والآخرة.

وفي دمشق عاصمة الأمويين، تحول جزء كبير من الكنائس المهجورة إلى مساجد، ومنها المسجد الأموي المشهور في دمشق والذي بني على أنقاض كاتدرائية سيدنا يحيى (القديس يوحنا المعمدان) القديمة ليصبح فيما بعد أحد أعظم أعمال المعمار الإسلامي.

يُذكر أن كتاب قالن "مقدمة إلى تاريخنا والآخر وما وراء العلاقات بين الإسلام والغرب" صدر حديثا عن الدار العربية للعلوم "ناشرون".

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!