أحمد البرعي - خاص ترك برس

في علوم الإدارة والاقتصاد تتمحور السياسات والاستراتيجيات حول كيفية تعظيم رضا الزبائن والعملاء فتحاول المنشأة التجارية وبالوسائل المتاحة دراسة طبيعة زبائنها وخصائصهم ورغباتهم وذلك من أجل تلبية هذه الرغبات وإشباعها، وهذا ما أدى بدوره إلى ابتكار العديد من الآليات والمنهجيات لفهم كيفية تفكير الزبائن وتوقع سلوكياتهم، وهو ما يقود في النهاية إلى خلق وسائل التأثير في توجيه هذه السلوكيات واستقطابها، وهو ما سيؤدي بالضرورة للربح الوفير للمنشأة والعاملين فيها.

قد لا تؤدي استطلاعات الرأي والاستبانات العلمية ومراكز الأبحاث الغرض المستهدف والفائدة المرجوة إذ لا تخلو من شوائب في المصداقية وآليات التنفيذ ولذلك لجأ بعض علماء الأعصاب وعلماء النفس إلى ابتكار وسائل جديدة من أهمها ما يعرف بالتسويق العصبي Neuromarketing وهو علم حديث يهف لمسح عصبي لدماغ المستهلك لمعرفة ليس فقط ما يفكر به بل التنبؤ بسلوكه المستقبلي وما ينوي أن يفعله.

وعلم السياسة والاجتماع ليس ببعيد عن علوم الإدارة والتسويق فلو قمنا مثلاً بعملية التصوير الدماغي للناخب التركي أثناء الحملات الانتخابية ورصدنا تأثيرها عليه وآليات اتخاذ القرار ومحدداته لديه، أعتقد أننا سنخلص إلى ظواهر ونتائج مثيرة قد تتصادم مع كثير من أحكامنا المسبقة ونظراتنا النمطية، فكما خلص درو ويستين، الأستاذ في في علم النفس السياسي  والأستاذ في قسم علم النفس والطب النفسي والسلوكي في جامعة إيموري الأمريكية، في كتابه الدماغ السياسي إلى أن "العقل السياسي هو عبارة دماغ عاطفي يتأثر ويستثار وليس مجرد كتلة عصبية عقلانية تعمد إلى التقييم الموضوعي والمنطقي بتوزين الحقائق وحساب الأرقام وتقدير السياسات للوصول إلى القرار الصائب".

ولعل نتائج الانتخابات البرلمانية التركية الأخيرة قد أثارت العديد من التساؤلات، من أهمها ما الذي يثير ويحفز الناخب التركي ويدفعه لانتخاب هذا الحزب أو ذاك؟ هل هي المرجعية الأيديولوجية؟ أم التوجيه الإعلامي؟ أم المرجعية العرقية أو الدينية؟ أم تطلعه لاقتصاد أقوى ومزيد من الحريات والاستقرار والرفاهية؟ أم أن الناخب مسلوب الإرادة وهناك من يوجهه؟ أم هي الميكافيلية السياسية؟ أم ماذا؟؟!!

ثم ما هي الدروس المستفادة؟ ولماذا خسر حزب العدالة والتنمية ما يقارب 8% من الأصوات التي حصل عليها في انتخابات 2011 حيث كان قد حصل على ما يقارب 49% من أصوات الناخبين وشكل الحكومة منفرداً بينما حصل في هذه الانتخابات على 41% ولا يبدو حتى اللحظة أنه قادر على تشكيل الحكومة بمفرده.

لعل المسح العصبي لدماغ الناخب التركي يكشف عن أنماط وأنواع متباينة من الناخبين الذين تتفاوت أولوياتهم ومنطلقاتهم ومحدداتهم في اتخاذ القرار الانتخابي وبالمقابل لا بد على الحزب السياسي إدراك هذه التباينات والاختلافات والعمل على أساسها، إذ ليس من المنطق تعميم الآليات ووسائل الاقناع على الجميع فلكل نوع وفئة من هؤلاء الناخبين مدخل قد يختلف عن الآخرين. فمثلاً هناك الناخب "المتأطر" أو المتحزب وهو ناخب شعاره "ماض وأعرف ما دربي وما هدفي" ويصعب التأثير في هذا النوع من الناخبين فقد حسم أمره واتخذ قراره عن قناعة ومنطلقات حزبية لا تهزها رياح الوعود والحسابات الانتخابية.

ومن الناخبين أيضاً "المتردد" أو ما يسميه المصريون "حزب الكنبة" وهم كثر وأزعم أنهم الفئة الأهم التي تحسم المعركة الانتخابية إن أحسن التعامل معهم، علماً بأنه من الصعب التأثير فيهم إذ إن قسماً منهم قد فقد الثقة في المجتمع ويأس من إمكانية احداث تغيير، وقسم آخر دهسته عجلة الحياة فلم يعد يكترث لهذه المسالة إذ يعتقد أن الجميع يسعى لكرسي الحكم ولتحقيق طموحاته ومصالحه الشخصية ولا يلقي بالاً للمواطن المسحوق ولذا فهو يؤثر النأي بنفسه عن هذا الميدان. أنا هنا لا أدعي أني أقدم آليات وطرق للتواصل مع هذه الفئة واقناعها ولكن على الحزب السياسي اعتبار ذلك والتفكير في كيفية اختراق دماغ هذا الناخب ومخاطبة أولوياته.

وهناك ناخب "مأدلج" يتبنى أيدولوجية فكرية يسارية كانت أو إسلامية أو ماركسية أو علمانية وليس بالضرورة أن يكون متحزباً فمثلاً يكون قد نشأ في بيت أتاتوركي لا يرى سوى أتاتورك مخلصاً وملهماً في كل الأزمان والعصور، فينتخب حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه مصطفى كمال أتاتورك دون إمعان النظر في برامجه وأطروحاته الانتخابية، وآخر يرى أن الأستاذ نجم الدين أربكان وفكره هو الحل فيختار حزب "السعادة" إسلامي التوجه مع العلم أنه من المستحيل أن يدخل إلى البرلمان إذ ورغم تحالفه مع حزب "الوحدة الكبرى" لم يحصل على 2% من أصوات الناخبين.  

وهناك الناخب "الواعي" الذي يقرأ البرامج ويفاضل بين السياسات ويتابع ويتحرى ويدقق ويعتبر الرؤى المستقبلية ويقارن بين الأفكار والأطروحات وغالباً ما يتخلص من النزعة الأيدلوجية أو المرجعية الدينية والعرقية، فمنطلق هذا الناخب الموضوعية وآليته اتخاذ القرار بشكل علمي ومنطقي بعيداً عن المنطلقات الفكرية والتصورات النمطية. قد تختلف أولويات هذه الفئة إذ يرى المراقبون أن الناخب التركي لم يكن دافعه الرئيس في الانتخابات الأخيرة النمو الاقتصادي بقدر ما كان الاستقرار السياسي وانهاء حالة الاستقطاب والاصطفاف التي كانت على أشدها قبيل الانتخابات وأثناء الحملات الانتخابية وهو ما قد يفسر إقبال البعض على التصويت لحزب الشعوب الديمقراطي تجنباً لعواقب وخيمة كان الحزب قد ألمح بالتهديد والوعيد إن فشل في دخول البرلمان ولم يتجاوز نسبة الحسم الانتخابي 10% أن يقوم بعصيان مدني في مدن الشرق التركية.

ومن الناخبين أيضاً "مسلوب الإرادة" وأغلب هذه الفئة من ربات البيوت فهي ترى ما يراه زوجها أو ابنها ومن هذه الفئة كبار السن الذين يقادون إلى المراكز الانتخابية وينتخبون بناء على توصيات وتزكيات أحفادهم أو ابنائهم، ومنهم أيضاً بعض الجماعات الدينية التي تنزل عند رأي شيخها دون تفكير أو تمحيص، فما يوصي به الشيخ هو ما يكون بلا إعمال لعقل أو تدبر فإن نهى الشيخ عن المشاركة امتنعوا وأعرضوا وإن أوصى بالتصويت لحزب يساري علماني هللوا وكبروا!!  ولا شك أن هناك ناخب "مخدوع" يتأثر بالإعلام وحملاته وألاعيبه، والمفارقة أن تجد أن بعضهم يصف أردوغان برائد النهضة التركية ومشعل التقدم الاقتصادي ثم يتهمه بالدكتاتورية والفساد وأن في مرحاض بيته آنية من الذهب والفضة، فهو بذلك يتبنى ما يروج له الإعلام، وهذه الفئة متقلبة وسريعة التأثر بالخطاب الإعلامي وهذا مكمن الخطر لأنهم كثر واستمالتهم سهلة.

ولا تخلو الساحة السياسية من ناخب "ميكافيلي" يرفع شعار الغاية تبرر الوسيلة، فلا ضير أن يصوت مناصرو وأعضاء حزب الشعب الجمهوري في بعض المناطق في مدينة إسطنبول كنيشان تاشي وبيشكتاش وأيضاً في مدينة إزمير والتي تتميز ديمغرافيتها السياسية بالطابع الأتاتوركي، لا ضير من أن يصوتوا لحزب الشعوب الديمقراطي الكردي وذلك فقط لغاية واحدة وهي إفشال العدالة والتنمية وحرمانه من تشكيل الحكومة وتغيير الدستور ولو تحالفوا مع الشيطان من أجل هذه الغاية فلا بأس.

وعليه كان لزاماً على من ارتضى العمل في ميدان الديمقراطية وحرية الاختيار واحترام خيارات الشعب والناخبين أن يخاطب الناس على قدر عقولهم أن ينزل الناس منازلهم فللقلوب مفاتيح وللعقول مداخل فالحزب السياسي المخضرم الواعي يسعى لتنويع خطابه وتجديد آلياته ليغطي هذا الموزاييك من الأهواء والطبائع والتوجهات.    

عن الكاتب

د.أحمد البرعي

باحث ومحاضر في قسم الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة أيدن


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس