د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس
لاشك أن التعمق في القراءات ومقارنة الروايات والوصول للحقائق التاريخية وشرحها بشكل واضح، تعتبر غاية من الغايات المهمة في تعريف الأفراد والشعوب والأمم بماضيها الاجتماعي والثقافي والسياسي والقانوني والحضاري، وإن الموضوعية والحياد هما عاملان من أهم الأسس والشروط التي يجب أن تتوفر في الكُتاب والمؤرخين والباحثين، وهذا ما نحاول مقاربته ما وسعنا ذلك ليس تقرباً من أحد ولا إرضاءً لغايات في النفس – واالله خير شاهد – وإنما هو إرضاء لله تعالى، ومن ثم هو محاولة لحفظ تاريخنا وحضارتنا وقِيمنا وديننا وعقيدتنا من الضياع والتبدد والعبث، وخصوصاً حين يتعلق الأمر بأحداث التاريخ الإسلامي المصيرية، والشبهات التي دارت حوله، إذ كثر الطعن والتشكيك والتشويه لسير خلفائه وسلاطينه وولاته وقادته وأئمته، ورجالات العلم والفكر والمحدثين والدعاة وأهل الإصلاح فيه في سياق الهجمة الشرسة التي تستهدف ماضي الأمة وحاضرها، وأحياناً يكون التشويه غير مقصود من خلال تناول الخبر أو الرواية بانتقائية من قبل أشخاص، فهم ربما قصدوا في طريقتهم الموضوعية في القراءة وفي سردهم التاريخي، ولكن اعتمدوا بعض الروايات دون مقارنة جميعها، وهذا ما يتوجب جهوداً جماعية كبيرة للإنصاف والوصول للحقيقة.
ولقد نال التاريخ العثماني، والذي هو حلقة من حلقات التاريخ الإسلامي نصيباً وافراً من ذلك الطعن والتشويه والمحاولات لرسم صورة قاتمة حول أهم محطاته والقراءة السطحية لأحداثه، وسأحاول في هذا المقال توضيح وقراءة بعض الحوادث التي مرت بالتاريخ العثماني لنعرف حقيقتها، وكنت قد ذكرتها مع أحداث أخرى في سلسلة تفصيلية حملت عنوان "ممالك النار في ميزان حقائق التاريخ"، وبيَّنت حالة الصراع السياسي على السلطة في العهد العثماني، وحقيقة قانون الدفن، وقضايا قانونية وسياسية وأمنية، وكان ذلك في مقالات نشرها عدد من المواقع، وسأُخصص هذا المقال لمناقشة واقعتين مهمتين في التاريخ العثماني، وهما:
أولاً:التحقيق في مسألة قتل دوندار على يد ابن أخيه عثمان؛ روايات متضاربة ومبررات سياسية
لم يتفق كل المؤرخون الذين أرخوا للدولة العثمانية على وقوع حادثة قتل دوندار من طرف ابن أخيه عثمان بن أرطغرل، معتبرين أن حادثة الإعدام وقعت عندما كان عمر دوندار 100 عام! كما يوجد مؤرخون مثل "ديميتري كانتمير" ممن يعتبرون أن دوندار قد توفي قبل مجيئه على سوكوت. إذن فوقوع هذه الحادثة مشكوك فيه لاعتبارات تاريخية كثيرة (آق كندوز، 2008، ص62)، وحتى المؤرخون العثمانيون المتقدمون نوعاً ما مثل العالم والمؤرخ ابن كمال نقل هذه الحادثة معتبراً إياها إشاعة.
وحتى في حالة ما إذا سلَمنا بالروايات الضعيفة التي تأخذ بهذه الواقعة لا بد أن نضعها في سياقها التاريخي والصراع السياسي في تلك الفترة، فقد حدثت صراعات كبيرة في فترة نشوء الدولة العثمانية، تمثلت أساساً في الصراع على السلطة بين عثمان وعمه دوندار، وبدأت تتضح أكثر الآثار السلبية لهذه النزاعات حيث -حسب الرواية التي ينقلها ابن كمال- امتنع دوندار عن القبض على والي بلجيك البيزنطي لذلك عُد باغياً، ونُفد فيه حكم الإعدام، أيّ أقيم عليه الحد الشرعي، لأنه رفع لواء العصيان ضد الدولة. وتنقل هذه الروايات أنه عام 688 ه/ 1289م أو 702ه/1302م كان دوندار على علم بخطة المؤامرة التي رتبها والي بلجيك ووالي يار حصار البيزنطيان لاغتيال عثمان الذي قام بإفشال هذه المؤامرة بخطة بديلة، ثم قام بإعدام عمه المتواطئ مع الأعداء (آق كندوز، 2008، ص62).
إن قصة عثمان بن أرطغرل مع عمه ليست الوحيدة في التاريخ العثماني التي يتم التلاعب بوقاعها وحيثياتها فقد تكرر الأمر ذاته مع السلطان مراد الأول بن أورخان ثالث سلاطين الدولة، والذي قيل عنه أنه قتل ابنه "ساوجي" خوفاً على عرشه دون إبداء السبب الحقيقي لقتله، وهو أن ساوجي تآمر سراً مع الأمير البيزنطي "أندرو نيقوس" للقضاء على السلطان العثمان ( إحسان الفقيه، 2020).
وعلى كل حال، فإنه لابد من التدقيق أكثر في الروايات التاريخية، وعدم التسرع في إطلاق الأحكام دون معرفة السياقات التاريخية والسياسية التي كان تتفاعل مع الأحداث، ولذلك لابد من تسجيل ملاحظتين ختاميتين في هذا الشأن:
إن حوادث القتل على السلطة في الدولة العثمانية تم التلاعب بحقيقتها ودوافعها في كثير من الأحيان، وتم اجتزاء بعضها من سياقها التاريخي، لتُظهر في النهاية أن السلاطين العثمانيين كانوا يقتلون المنافسين المحتملين على السلطة دون مبررات قانونية أو موانع أخلاقية.
في التاريخ البشري كله لم يكن العثمانيون وحدهم من وقعت بينهم حوادث القتل لكي يتم تسليط الضوء عليها بهذه الصورة المغرضة التي ترمي إلى إسقاط فضائل الدولة في عهود سلاطينها العظام.
ثانياً: قانون الدفن في الدولة العثمانية والحقيقة الغائبة
بعد فتح القسطينينة سنة 1453ه، وتحوُّل الدولة العثمانية إلى دولة عالمية، ممتدة الأطراف شعر السلطان محمد الفاتح بضرورة تنظيم الدولة على أسس جديدة، سعى من خلالها إلى ضبط الأمور الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية، وذلك انسجاماً مع الموروث الإسلامي للعثمانيين، وكذا مع ما كانت تقتضيه تحولات ذلك العصر.
إلا أن أهم مسألة تُثار حولها النقاشات الصاخبة، وخاصة في الأوساط الإعلامية هي ما صار يعرف "بقانون الدفن"، والذي يُلوح به المتربصون بتاريخ الدولة العثمانية محاوليين من خلال هذا "القانون" إدانة العثمانيين وسلاطينهم الأقوياء، ووصفهم بأفضع الصفات وأشنع الأوصاف. وخلال هذا المقال سنحاول سريعاً أن نبرز بعض الحقائق المتعلقة بهذا القانون من خلال تسليط الضوء على أبرز النقاشات الفكرية الرصينة التي تناولت هذا الموضوع بالدرس والتحليل.
إن المادة الموجودة في قانون نامه، وهي المادة المتعلقة بقتل الإخوة، والتي أثير حولها الكثير من الجدل جاءت كما يلي"يسَر الله السَلطنة لكل واحد من أولادي ولأجل تأمين استمرارية نظام العالم فإن قتل الإخوة مناسب حتى أن أكثر العلماء أجازوه فليعمل به" (عبد الرحيم بنحادة، 2008، ص88)، ومن أجل عرض هذا الموضوع بطريقة أكثر موضوعية وشمولية، يمكن أن نقسم آراء المؤرخين إلى مجموعتين: الأولى: ترى بأن السلطان محمد الفاتح لم يصدر ضمن تشريعاته قانون الدفن، أما الثانية: ترى أنه قد تم إصدار هذا القانون، لكن هناك مبرراته الفقهية والتاريخية التي تؤطره (السعيدي، 2011، ص48).
قانون الدفن زائف وملفق ولا أساس له
تُنكر المجموعة الأولى هذه القوانين جملةً وتفصيلاً، وترى أنه من غير الائق أو المنطقي إسناد هذا " الظلم" إلى السلطان محمد الفاتح، وقد كان في مقدمة هؤلاء الأستاذ "علي همت بركي" الذي أكد أن قانون الدفن زائف وملفق.كان منطق الذي انطلقت منه هذه المجموعة هو أن مسألة قتل الأخوة المدرجة ضمن القوانين العثمانية- عثمانلي قانون نامه - مخالفة تماما للشريعة الإسلامية، لذلك انكرت انكارا شديدا، وكان اكبر أدلتهم في هذا هو الشبهات الموجودة في النسخة الوحيدة آنذاك والموجودة في المكتبة الملكية في فيينا تحت رقم A.F554، وذكروا أن هذه النسخة مزيفية وأنها اخترعت من قبل الغربيين أعداء الدولة العثمانية، استننادا لوجود بعض الشبهات في أسلوب هذه القوانين ( آق كندوز، 2008ـ، ص 124).
قد يكون هذا الإدعاء غير كافي لدحض مسألة مهمة مثل هذه، لأن هذه القوانين التي كانت توجد منها نسخة واحدة فقط اكتشفت ثلاث نسخ أخرى فيما بعد، أما الإعتراضات التي تخص أسلوب ولغة هذه النسخة فالغالب أنها ليست دقيقة، لأن جميع هذه النسخ ليست النسخة الأصلية وإنما هي مستنسخات عن النسخة الأصلية، لذلك فليس من الصحيح تحميل أخطاء المستنسخ على النسخة الأصلية قبل أن نراها ونفحصها (آق كندوز، 2008ـ، ص 125).
قانون الدفن حقيقي ولكن ...
هذا الرأي يقبل إسناد وعزو هذه القوانين إلى السلطان محمد الفاتح، وهو بدلاً من سلوك طريق الإنكار يفضل القيام بتحليل شرعي للمسألة، وأكثر الباحثين على هذا الرأي، وعلى عكس الآراء المخالفة للحقيقة التي أبداها البعض نرى أن المؤرخ الكبير عبد القادر أوزجان وهو في مقدمة أصحاب الرأي الثاني أجرى بحوثاً قيمة وجدية حول المسألة، وبين رأيه في مقالات علمية نشرها. وعموماً يمكن تحديد الأسس التي اعتمدها هؤلاء في ما يلي:
- إن المسألة لا يمكن حلها بإنكار هذه القوانين، والمهم هو القيام بالإيضاح الشرعي لها، بل إن متون هذه لا القوانين تخالف الأحكام الشرعية حسبما أدعى بعض أعداء العثمانيين، و لا تخالف كذلك الدساتير العالمية.
- خلال العقود الماضية تم اكتشاف مزيد من النسخ وصل عددها لحد الآن إلى 3 نسخ، الأولى موجودة في المكتبة الملكية في فيينا، والثانية هي النسخة التي أدرجا المؤرخ العثماني الكبير حسين أفندي في كتابه "بدائع الوقائع"، والنسخة الثالثة هي النسخة التي أوردها العالم العثماني هزارفن حسين في كتابه "تلخيص البيان في قوانين آل عثمان" وبالتالي فالوثائق الموجودة تؤيد صحة إسناد هذه القوانين إلى السلطان محمد الفاتح (آق كندوز، 2008ـ، ص 127).
يذهب المؤرخ المعروف محمد سالم الرشيدي في كتابه القيم "السلطان محمد الفاتح"، الذي كان في الأصل رسالة دكتوراه ناقشها عام 1953ه، إلى نفس ما ذهبت إليه المجموعة الثانية، فيرى أن هذا التشريع ما كان إلا لحماية المصلحة العامة للدولة، ويضرب أمثلة عديدة من التاريخ العثماني عن صراع الأمراء العثمانيين على الحكم وإلتجاء بعضهم لأعداء العثمانيين في محاولة لكسب الدعم العسكري (الرشيدي، 2013، ص353-354).
إن عقوبة الإعدام موجودة في كل نظام قانوني للمحافظة على المصلحة العامة، أي "نظام العالم" حسب تعبير القوانين العثمانية، أي لصالح "نظام المجتمع" بالتعبير الحالي (الأمن الوطني والقومي في عصرنا)، ويوجد في كل معظم دول العالم في الوقت الحالي قوانين مماثلة بها عقوبة الإعدام لكل من "يعصي" الدولة.
وينضم الأكاديمي والبروفيسور أحمد أق كندوز إلى المجموعة الثانية معتبراص أن مسألة قتل الأخوة نتيجة تطبيق وإقامة حد "البغي"، أي حد العصيان ضد الدولة، ويمثل المرتكز الشرعي الأول لمسألة القتل هو وجود جريمة العصيان بالخروج على الدولة "بالسلاح" وموالاة الأعداء، وتدخل هذه العقوبة في الإسلام ضمن جريمة حد "البغي"، والذي تتكون بنوده من محاولة الخروج على الإمام أو السلطان ومحاولة الإستيلاء على الحكم بالسلاح والقوة والمغالبة، أي وجود هدف العصيان بشكل واضح. ولا يجوز بناء على ما سبق التعرض لمن يخالف رأي السلطان بصورة سلمية، أو لم يعلن عصيان مسلح، فإن أعلنوا عصيانًا توقع عليهم عقوبة الإعدام، أي في مصطلحات عصرنا هذا الإعدام لارتكابهم "الخيانة العظمى"؛ وذلك صيانة للدولة (آق كندوز، 2008ـ، ص 130).
وقد عَدَّ "فقهاء" الدولة ومشرعوها كل تمرد بالدولة يؤدي للإخلال بالأمن العام وبـ"نظام العالم"، فسادًا وجريمة "بغي" والقائمون بها يسمون "بغاة"، وأوضحوا في فتواهم بأن عقوبة هؤلاء هي الإعدام؛ ولو كان العاص شقيق السلطان أو ابنه (آق كندوز، 2008ـ، ص 132).
ومهما يكن من اختلاف الآراء وتنوع مصادرها ومبرراتها، تبقى قضية قانون الدفن قضية شائكة في التاريخ العثماني وتأويلاتها كثيرة، وعادة ما تم استغلالها من طرف أعداء العثمانيين كنقطة سوداء، بعيداً عن تقصي الحقائق والسعي إلى الموضوعية التاريخية، بل إن التوظيف يُصبح أكثر بشاعة عندما يتربط بالصورة؛ لأن لهذه الأخيرة آثار عميقة في نفوس الرأي العام، ليتحول التاريخ بذلك من وسيلة للربط الحضاري بين الأمم والشعوب الإسلامية، إلى آداة فتاكة للتفرقة والتأليب بينها. وهذا ما لا نريده في روايتنا ودراساتنا التاريخية، فهدفنا الأول والأخير بعد رضا الله سبحانه وتعالى هو تبيان الحقيقة التاريخية على أسس علمية ومقاربات فكرية وتحليلات صحيحة.
وقد ذكرت سابقاً بأن لي مقالات منشورة في موقع ترك برس وغيره حول قانون الدفن وقتل الإخوة والصراعات السياسية في العهد العثماني، وهي:
ممالك النار في ميزان حقائق التاريخ... قراءة في ظروف وتفاصيل الدخول العثماني لمصر
ممالك النار والسلطان سليم... فضح وكشف الافتراءات (2)
ممالك النار وأكذوبة قتل السلطان محمد الفاتح لأخيه الرضيع
مراجع المقال:
"حقيقة قتل الإخوة" من أجل العرش بالتاريخ العثماني (إضاءات عثمانية)"، إحسان الفقيه، شبكة الأناضول، 2020. انظر: https://cutt.us/k7EYf
تاريخ الدولة العثمانية المجهولية، أحمد آق كندوز، ترجمة: سعيد أوزتوك، مطبعة أتراك السعودية، 2008.
الدولة العثمانية: عوامل النهوض وأسباب السقوط، دار ابن كثير، بيروت، 2018م، وطبعة دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 2001، انظر رابط: https://cutt.us/UNYoU
السلطان محمد الفاتح، محمد سالم الرشيدي، دار البشير، القاهرة، 2013.
شريعة قتل الإخوان وأثرها في نظام حكم آل عثمان(1520-1617)، بشرى ناصر هاشم السعيدي، مجلة مركز بابل، العدد الثاني/ كانون الأول 2011.
العثمانيون، المؤسسات والإقتصاد والثقافة، عبد الرحيم بنحادة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2008.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس