سعيد الحاج - TRT عربي 

منذ الساعات الأولى لمعركة “طوفان الأقصى” التي أطلقتها حركة المقاومة الإسلامية – حماس ضد قوات الاحتلال في غزة، وقفت معظم الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمركية صفاً واحداً خلف “إسرائيل”. وقد كررت هذه الدول موقفاً موحداً من الحرب، على شكل دعم غير محدود وغير مشروط وبالتالي غير مسبوق لقوات دولة الاحتلال لما أسموه “الدفاع عن نفسها”.

بعد أيام من اندلاع الحرب، كان الرئيس الأمريكي جو بايدن يحضن نتنياهو الذي لم يكن على وفاق معه، وتجاوز فكرة الدعم ليطلب هو من الأخير أن “يرد بحزم على الهجوم الإرهابي” على حد تعبيره. وقد كرر بايدن في تل أبيب ثم في واشنطن كل أركان البروباغندا “الإسرائيلية” التي ثبت لاحقاً كذبها مثل قطع رؤوس الأطفال واغتصاب النساء وحرق الجثث وما إلى ذلك، رددها أكثر من مرة رغم نفي البيت الأبيض اللاحق، كما رددها من بعده وزير خارجيته أنطوني بلينكن أمام الكونغرس دون أن يرف له جفن.

الدعم الأمريكي – الغربي لم يقف عند حدود السياسي والإعلامي، فقد خصصت الولايات المتحدة مبالغ ضخمة من الدعم المالي المباشر لـ “إسرائيل”، كما حضرت بحاملات طائراتها إلى حوض البحر المتوسط. إذ أرسلت أولاً، وبعد ثلاثة أيام فقط من بدء المعركة حاملة الطائرة “جيرالد فورد” ثم ألحقتها بعد أيام بـ “دوايت آيزنهاور”. ومثلها فعلت عدة دول غربية في مقدمتها بريطانيا التي أرسلت قطعتين بحريتين إلى المنطقة، فيما كانت أسلحة الدول الأخرى مركزة في سلاح الجو بهدف إجلاء رعاياها كما أعلن.

كما مدت الولايات المتحدة دولة الاحتلال بكميات ضخمة من العتاد العسكري المتنوع وعلى رأسه الدفاعات الجوية مثل الصواريخ الاعتراضية والذخائر وفي مقدمتها القذائف المدفعية، التي قالت إنها تأكيد على “التزامها الحازم بأمن إٍسرائيل وتصميمها على ردع أي دولة او جهة غير حكومية تسعى لتصعيد الحرب”. وقد نقل العتاد العسكري الأمريكي لعدة مطارات “إسرائيلية” مثل بن غوريون ورامون وقاعدة نيباطيم، وكذلك لدول أخرى مثل الأردن وقبرص. وقد شهدت الأخيرة الانتشار الأكبر للأسلحة الأمريكية والغربية، حيث أعلن عن هبوط العشرات من طائرات الشحن والمروحيات العملاقة. كما أرسلت واشنطن سفينتين إلى البحر الأحمر لاعتراض صواريخ ومسيرات الحوثيين المطلقة من اليمن على ما أعلن.

فيما أعلنته واشنطن أنها لا تسعى لنشر قواتها على الأرض، وإنما “ستحمي المصالح الأمريكية في المنطقة”، وهو أمر مشكوك به في ظل تقارير كثيرة تحدثت عن تواجد قوة دلتا الأمريكية على الأرض للمساعدة في البحث عن الأسرى الأمريكيين، وبكل الأحوال فإن الوجود العسكري الأمريكي يكاد يكون غير مسبوق في المنطقة.

ولذلك فإن فكرة الدعم الرمزي وإرسال رسائل التضامن مع “إسرائيل” لا تكفي لتفسير كل هذه الحشود التي يبدو أنها ستستمر وتزداد. ثمة بعد آخر واضح بل ومعلن، وهو محاولة تخويف وردع إيران والمجموعات المرتبطة بها وخصوصاً حزب الله في لبنان من دخول الحرب إلى جانب حركة حماس، إذ تسعى الولايات المتحدة لإتاحة الفرصة لقوات الاحتلال للاستفراد بغزة والمقاومة الفلسطينية ومنع تقديم أي دعم أو تضامن عملي – عسكري لها.

وهناك بعد ثالث في اعتقادنا يرتبط بتأثيرات يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر وما أنجزته المقاومة الفلسطينية فيه وتبعاته على المدى البعيد، وفي مقدمتها فقدان الثقة بالمؤسسة العسكرية والأمنية لدى الاحتلال والخلافات الكبيرة بين الحكومة ونتنياهو من جهة والمؤسسة العسكرية والأمنية من جهة ثانية. ولذلك، فالوجود الأمريكي هو محاولة لضمان احتواء هذه التداعيات وعدم تركها لتعصف بمستقبل “إسرائيل”، حيث تشعر واشنطن فيما يبدو بمخاطر استراتيجية على “حاملة طائراتها الأكبر في الشرق الأوسط” كما يشار إلى “إسرائيل” عادة.

هذا كله فيما يتعلق بالمعركة الدائرة حالياً وبعض الأطراف الأكثر انخراطاً فيها أو المحتمل انخراطها عسكرياً. لكن، هل هذه هي فقط الرسائل الأمريكية من الوجود العسكري المباشر والدعم اللامحدود وتداعياته المحتملة؟

ليس متوقعاً أن يكون الوجود العسكري الأمريكي في شرق المتوسط قصير الأمد، وهو من هذه الزاوية يحمل رسائل ذات دلالات واضحة وتداعيات محتملة على عدة قضايا ودول وأطراف. وهنا، من قصر النظر القول إن إيران هي المقصودة حصراً بهذه الرسائل، رغم أنها أول وأهم المقصودين بها. إن التصريحات وردات الفعل الروسية والصينية تظهر كيفية قراءة هذا التحرك العسكري في كل من موسكو وبيجين.

من جهة أخرى، فإن الوجود العسكري الأمريكي في شرق المتوسط ذو تأثيرات مباشرة وعميقة على عدة قضايا إضافة للحرب في غزة واحتمالات توسعها في المنطقة، تبدأ بالملف السوري، وتمر بالملف الليبي، ولا تنتهي بالصراع على رسم الحدود البحرية والتنافس الجيوسياسي وعلى مصادر الطاقة، ما يضع تركيا كذلك في موضع التضرر و/أو الاستهداف.

ذلك أن هذا القدر من الحشد العسكري الأمريكي يعقد حسابات أنقرة لمكافحة الإرهاب في سوريا، والدور الذي تلعبه في ليبيا، وكذلك – وهذا الأهم – يسعى لكسر التوازن في شرق المتوسط بين أنقرة وأثينا. فحاملة الطائرات الأمريكية لم تجد لها مكاناً في كامل البحر المتوسط إلا جوار سفينة عبد الحميد التركية للتنقيب عن الغاز وعلى خط خريطة إشبيلية لترسيم الحدود البحرية ومناطق الصلاحية المدعومة أوروبياً، وكأن واشنطن تقول لأنقرة إنها تعتمد ها الخط وتدعم السردية اليونانية، وفق قراءة الأميرال المتقاعد جهاد يايجي.

أكثر من ذلك، فقد حظيت اليونان بحصة كبيرة من تموضع القوات الأمريكية في المنطقة حيث تعدها واشنطن على “مسافة آمنة” من المعركة في غزة، كما أن أثينا فتحت قواعدها ومطاراتها العسكرية للقوات الأمريكية “لدواع إنسانية” مثل إجلاء الرعايا على ما صدر عنها. فإذا ما أضفنا ذلك لبعض التقارير التي تحدثت عن عزم الولايات المتحدة تقديم بعض الأسلحة لليونان كهبة أو تبرع، سنكون أمام قراءة مختلفة ومهمة لرسائل الوجود الأمريكي في المنطقة من الزاوية التركية، لا سيما وأن أنقرة تنظر بقلق في السنوات القليلة الأخيرة لزيادة التموضع العسكري الأمريكي في اليونان لدرجة أن وزير الخارجية السابق مولود جاويش أوغلو قال إن اليونان “تحولت إلى قاعدة عسكرية أمريكية”.

من المهم الإشارة إلى أن هذا الموقف الأمريكي الضمني من تركيا ليس نابعاً بشكل حصري من الخلافات التركية – الأمريكية أو التنافس التركي – اليوناني، وإنما له علاقة مباشرة بالحرب على غزة. ولذلك كان لافتاً أن الرئيس الأمريكي تجنب التواصل هاتفياً مع الرئيس أردوغان بخصوص الحرب كما فعل مع رؤساء آخرين، فيما يبدو بسبب الموقف التركي الرافض للحرب والداعي لوقف إطلاق النار، وهو ما لا تريده واشنطن. كما أن وزير الخارجية بليكن تجنب زيارة أنقرة في جولته الأولى للمنطقة، ويزورها الآن في جولته الثانية بدون أن يكون واضحاً مدى ارتباط الزيارة بالحرب إذ سيزور أنقرة منفردة بعد الاجتماع بوزراء خارجية عدة دول عربية في عمان.

وعليه، لا يمكن النظر للحرب على غزة على أنها مواجهة محلية، إذ أن الاصطفاف الغربي شبه الكامل خلف “إسرائيل” يوحي بموقف دولي نابع من نظرة استعلائية للمنطقة، ما يلقي الضوء على تحذير أردوغان للغرب من جعلها حرباً دينية أو ذات بعد حضاري بين الشرق والغرب.

ولذلك نقول، ختاماً، إن نتائج المعركة الحالية في غزة ستكون ذات أثر مباشر وسيكون لها تداعيات غير مباشرة على المدى البعيد على مختلف الأطراف، وتضع الجميع في بؤرة التقييم من زاوية التوازن بين المسؤوليات والأداء وتجعل المصائر متعلقة ببعضها البعض، ليس في البعد الإنساني والأخلاقي وحسب، ولكن كذلك وفق الأبعاد العسكرية والسياسية والاستراتيجية.

 

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس