محمود سمير الرنتيسي - سيتا

مارَس الاحتلال الإسرائيلي حظراً شاملاً يمنع دخول أي مساعدات إلى غزة لمدة 15 يوماً منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول وحتى 21 من الشهر ذاته، ثم سمح بدخول مساعدات إنسانية بسيطة لا تتجاوز 30 شاحنة يوميّاً في المتوسط.

تحمل الشاحنات محدودة العدد مساعداتٍ طبيةً وغذائيةً ومياهاً وأكفاناً، فيما لا يزال الاحتلال يمنع إدخال الوقود الذي يلزم لعمل المستشفيات وسيارات الإسعاف والمخابز.

أسباب سياسيّة

في الحقيقة سمح الاحتلال الإسرائيلي بدخول هذه الكميات المحدودة لأسباب بعيدة كلَّ البُعد عن الجانب الإنساني، بل جاءت الموافقة على دخول المساعدات خدمةً لأهداف سياسية وعسكرية ولصالح إستراتيجية تل أبيب في حربها على غزة.

ووفقاً لما أعلنه الجيش الإسرائيلي، دخلت 760 شاحنة مساعدات إلى قطاع غزة تحمل 3 آلاف طن من الغذاء، و1720 طنّاً من المعدات الطبية، و600 طن من المعدّات للملاجئ المؤقتة، وأكثر من مليون لتر من المياه.

ووفقاً لهذه الأرقام، فإنّ نصيب الفرد في قطاع غزة، الذي يعيش فيه 2.3 مليون مواطن، يعادل 70 غراماً من الطعام و17 مليلتراً من المياه، وهذه كميات أقل بكثير من الكميات التي حدّدتها منظمة الصحة العالمية للغذاء الصحيّ للفرد، وتعادل 400 غرام يوميّاً.

ويستخدم الاحتلال الإسرائيلي المساعدات الإنسانية جزءاً من آلية ضغط سياسي على سكان قطاع غزة، الذين يمثلون الحاضنة الشعبية للمقاومة الفلسطينية، مع وجود عديدٍ من الاتفاقيات الدولية التي تؤكّد حظر استخدام المساعدات الإنسانية لأغراض سياسية أو عسكرية.

المساعدات آلية للضغط

ومن هذه المعاهدات الدولية يمكن ذكر اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، التي تنص على أن المساعدات الإنسانية يجب أن تُقدَّم من دون أيّ اعتبارات سياسية أو عرقية أو دينية أو أي اعتبارات أخرى مماثلة، وكذلك اتفاقية لاهاي لعام 1907، التي تنص على أنه يجب أنْ تُترك المساعدات الإنسانية الهادفة إلى تخفيف معاناة السكان المدنيين دون عوائق.

في هذا السياق، فإن ميثاق الأمم المتحدة ينصّ على أن جميع الدول الموقّعة على الميثاق، “تحثُّ على احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين”.

وعلى مستوى خطط الحرب، كان من الواضح من اللحظة الأولى وجود مخطط إسرائيلي لتهجير سكّان قطاع غزة من شمال القطاع إلى جنوبه، ومن ثم إلى مصر، وبالتالي انسجم السّماح بإدخال كميات محدودة لجنوب القطاع مع عمليّة فصل شمال القطاع عن جنوبه.

وقد نتج عن هذا الوضع عدمُ نقل المساعدات إلى محافظة غزة أو محافظة شمال غزة، ما أرغم الناس على التوجه جنوباً بحثاً عن أماكنَ توفّر بعض الغذاء على الأقل لأطفالهم.

كما أن إفراغ شمال غزة من السكان يخدم الأهداف العمليّاتية لجيش الاحتلال الإسرائيلي، والذي يسعى إلى تدمير المنطقة بشكل كامل وتدمير البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية هناك.

من زاوية ثانية، فإن نزوح عدد من السكان من الشمال إلى الجنوب رفَع كثافة السكان في الجنوب بشكل كبير جدّاً، إذ امتلأت المدارس والمشافي في مدن رفح وخانيونس بآلاف المواطنين القادمين من شمال غزة.

وفي ظل هذا العدد المحدود من المساعدات، يهدف الاحتلال الإسرائيلي إلى إحداث حالة فوضى واستياء ونشوب مشكلات بين المواطنين خلال السعي إلى الحصول على المساعدات، وبالتالي ضرب حالة التضامن والاستقرار وإرباك الجبهة الداخلية الفلسطينية، مما يؤثر في أداء المقاومة عسكريّاً، وفي حالة التأييد لها سياسيّاً ووطنيّاً.

ثالثاً، يتعامل الاحتلال مع المساعدات باعتبارها “بطاقة لابتزاز المقاومة الفلسطينية”، وتربط إدخال المساعدات أو زيادتها بملفات سياسيّة، خصوصاً ملف إطلاق الأسرى لدى المقاومة الفلسطينية، وهذا في الحقيقة يتنافى مع أبسط حقوق الإنسان، لكنه يؤكد بأن الاحتلال يتعامل مع المساعدات باعتبارها سلاحاً في معركته ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

نقطة رابعة، وهي أن الاحتلال الإسرائيلي يريد جعل جزء من الصورة الإعلامية مركّزاً على معبر رفح وعلى الشاحنات التي تدخل يوميّاً لإبعاد أعيُن الصحافة عن جرائمه والمجازر التي يرتكبها في قطاع غزة.

وفي هذا الصّدد يحاول الاحتلال، ولو على مستوى الصورة، أن يعفي نفسه من المسؤولية الكاملة بإظهار أنه يسمح بإدخال المساعدات، في حين أنّ ما يدخل إلى غزة لا يرقى إلى أن يشكّل مساعدات كافية.

الأمر الخامس يخص مسألة تكريس “السيادة”، ففي الوقت الذي لا يسمح الاحتلال بإدخال المساعدات مباشرة من الجانب المصري إلى الجانب الفلسطيني في معبر رفح، يفتِّش المساعدات بشكل دقيق ويؤخر إدخالها.

كما تمنع إسرائيل بعض الشاحنات أو المواد من الدخول، خصوصاً المحمَّلة بالأدوية التي تقول إنها “متعددة الاستخدام لنفس الغرض”، أي محاولة القول لكل العالم إنَّ السيادة والقرار لها وإنها المتحكّم في حركة المعابر في قطاع غزة ولا يمكن لأي دولة فعل أي شيء دون قرار منها.

أمّا الأمر السادس، يتعلّق بمحاولة الاحتلال تنفيس المجتمع الدولي والإقليمي عبر إدخال كميات محدودة ورمزية من المساعدات، وهكذا تشعر بعض الدول والمؤسسات الدولية أنها حققت شيئاً ما تجاه الشعب الفلسطيني، وبذلك تنجح دولة الاحتلال في تخفيف الضغط الواقع عليها من هذه الدول والمؤسسات.

توظيف للمساعدات

تُعتبر المساعدات الإنسانية أداة مهمة لتخفيف معاناة السكان في أثناء الحروب والكوارث، ويقوم على ذلك كثير من الدول والمؤسسات الدولية.

لكننا نجد اليوم أن الاحتلال الإسرائيلي يستغل المساعدات الإنسانية ويوظّفها لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية وإعلامية؛ بهدف التغطية على جرائمه في قطاع غزة.

وحتى الآن، ورغم كل النداءات لتعزيز المساعدات وضمان تدفق كافٍ لها يسهم في المجهود الإغاثي لسكان القطاع، لا يكترث الاحتلال لكل النداءات حتى من الأمم المتحدة.

لذلك، لا بُدَّ من وجود إجراءات عمليّة تحدُّ من توظيف الاحتلال الإسرائيلي للمساعدات الإنسانية لأغراض غير إنسانية.

عن الكاتب

محمود سمير الرنتيسي

باحث في مركز سيتا للدراسات بأنقرة


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس