ترك برس

- لجوء الدولة العثمانية إلى الإصلاح:

في خضم الضعف الذي أصاب الإمبراطورية، اندفع رجال الدولة إلى تدارك هذا التدهور باللجوء إلي الإصلاح للنهوض بالدولة العثمانية ومواكبة التطور الذي يحدث في الغرب(1). فكانت أولى المحاولات التي أتت من جانب الدولة، هي إصلاح النظام العسكري والجيش والبحث عن كل إصلاح النظام العسكري والجيش والبحث عن كل الوسائل الفعالة التي تقلّص من جموح آغوات الإنكشارية وتمردّاته وانكساراته، التي توالت في مختلف جبهات القتال خلال القرن الثامن عشر(2)، ولذلك انحصرت حركة التغيير والتجديد التي أجراها السلاطين العثمانيين في بدايتها في المؤسسة العسكرية، باعتبار أن الدولة العثمانية بطبيعتها دولة عسكرية، وفسادها بدأ بفساد جيشها، وإصلاحها يبدأ بإصلاح هذا الجيش، لذلك لم تتناول حركة الإصلاح في بداية استهلالها النظم الإدارية والمالية والقضائية، إلا بعد مرور مدة طويلة تزيد عن ثمانية عقود من السنين(3).

وهدف السلاطين العثمانيين ومن حولهم من دعاة التجديد وراء محاولات الإصلاح العسكري إلى إقناع الدول الأوروبية بإصلاح يجري في الدولة، لعل ذلك سيؤدي إلى إقناعهم بصلاحياتها في البقاء، ويرفع من سلطتها المنهارة لدى الرأي العام الأوروبي، فتخفف من حدة تدخلها في شؤونها الداخلية تحت حجج حماية الأقليات المسيحية(4).

أ)- بدايات الإصلاح العثماني :

وفي هذا السياق بدأت إجراءات إصلاح الجيش في الدولة العثمانية بداية محتشمة في أوسط القرن الثامن عشر، وكان السلطان أحمد الثالث ( 1703- 1730م ) أول من حاول القيام بإصلاح عسكري، مستفيد من الوضع الذي ولدته هزيمة الإنكشارية أمام روسيا والنمسا، ساعيا إلى محاولات التحديث، واستعان بشخصية إبراهيم أفندي(5) متفرقة  الهنغاري الأصل الذي لعب دورا مميّزا في مجال الإصلاح إبان حقبة هذا السلطان، فكان أبرز الداعيين إلى استخدام الطرق الأوروبية في الفن العسكري، وقدم المعلومات الأولية إلى السلطان أحمد الثالث، حول إمكانية تطوير وإصلاح الجيش، من خلال الاستفادة من خبرات ضباط أوربيين. لكن القوة المحافظة تمكنت من الإحاطة به وبحكومة الوزير إبراهيم باشا، وأجبروا السلطان على قتل وزيره خوفًا على روح الإصلاح العسكري. وقد رافق ثورة الإنكشارية هذه شبه انتفاضة شعبية ناقمة على تلك المسحة من الحياة الأوروبية، التي طبعت حياة السلطان وسلوك حاشيته. يقول المؤرخ التركي أحمد جودت  في كتابة "تاريخ جودت": "وقد ظهر في ذلك العصر ميل الدولة إلى سير في طريق المنية ورغبتها في ترتيب عسكري منظم، غير أنها تركت الرؤوس وتمسكت بالأذناب بل شرعت في زخرفة البنيان من غير أن تنظر أساسه".

ب)- عصر سليم (1789 - 1807 م):

لاحظ السلطان سليم الثالث تولية عرش السلطنة 1789 م، الفساد المستشري في البلاد فأدرك أن خلل الدولة يكمن في السياسة التقليدية والمؤسسات العاجزة عن القضاء على هذا الفساد وإصلاح الخلل(6)، فتكونت في ذهنه فكرة ثابتة هي ضرورة إجراء برنامج إصلاحي شامل، يستهدف مؤسسات الدولة ولا سيما المؤسسة العسكرية، فبادر إلي العمل في سبيل هذا الإصلاح الهام، فكانت أبرز خطوة أقدم عليها السلطان والتي سيدفع ثمنها غاليا فيما بعد هو إصلاح الجيش إصلاحا كاملا وشاملا، وذلك بالاعتماد علي الأساليب والنظم العسكرية الغربية.

ولمّا أدرك السلطان صعوبة إصلاح الإنكشارية، تركهم جانبا وبادر بنفسه إلى عملية تشكيل جيش جديد سنة 1973م سمّاه "نظام جديد" تجد فيه الدولة أداة حكم قوي يمكنها من القضاء علي العصابات المسلحة، ومواجهة الدول الأوروبية المتربصة بها في هذه الفترة. ويتكون هذا الجيش من اثني عشر ألف جندي يتدربون علي أيدي ضباط وخبراء أوربيين فرنسيين علي وجه الخصوص ويعملون وفق النظم الأوروبية(7). ثم شيد ثكنة خاصة بهذا الجيش الجديد، وفضلا عن ذلك أدخل السلطان إصلاحات لتزويد الجيش بالأسلحة الحديثة، فأنشأ مدارس لتلقين علوم الغرب ومعارفه.

جــ)- عصر محمود الثاني (1808-1839م):

تزامن مع وصول محمود الثاني إلى الحكم أن أخذ تأثير الفكر الأوروبي يتأكد بشكل ثابت في الدولة العثمانية(8). إذ تركت المحاولة الإصلاحية التي بدأها سلفه سليم الثالث أثارًا عميقةً في سياسة محمود الثاني، إلا أن ظروفًا عدة حالت دون مواصلة الإصلاح العسكري إلا بعد مضي حوالي ثمانية عشر سنة تقريبا، منها تلك الحرب التي خاضتها الدول العثمانية ضد جارتها الشمالية روسيا وانتهت بانهزامها وانهزام دعائم بحريتها بانتهاء أسطولها سنة 1827م، ناهيك عن تلك التحديات الداخلية التي واجهها السلطان كالحركة الوهابية في الحجاز وتمرد محمد علي باشا في عام 1931م واجتياحه لبلاد الشام. إلا أن هذه الظروف الجسيمة التي كانت تجتازها الدولة شكلت حافزا قويا دفعت بالسلطان إلى انتهاج سياسة إصلاحية لتوفير أسباب القوة العسكرية والاقتصادية والعلمية للدولة لتتمكن من مواجهة كل التحديات الداخلية والخارجية التي تتعرض لها.

3- التدخل الأجنبي ونتائجه:

وعليه جاءت التنظيمات العثمانية في ظروف عصيبة لا تخلو من الضغوط الأوربية للسيطرة علي الدولة العثمانية، ويمكن رصد مظاهر هذه الضغوط مع تراجع السادة العثمانية في الداخل والخارج، على عدة مستويات أهمها المستوى الاقتصادي عبر ضغط الامتيازات الأجنبية، وسياسيا عبر إثارة الأزمات الداخلية ودفع البنى الداخلية العثمانية لمزيد من التصادم والانفجار، تمهيدا لإدخال مشاريعها الإصلاحية (التنظيمات) التي حولت السلطنة العثمانية تابعة بالقوى الغربية وحضارتها كالأزمة السورية   وأزمة القرم.

أ)- ضغط الامتيازات الأجنبية :

جاءت التنظيمات كنتيجة طبيعية للامتيازات الأجنبية، وبها معا انحطت الدولة العثمانية(9).

· تعريف الامتيازات:

نقصد بالامتيازات الأجنبية تلك التسهيلات التجارية والحماية الشخصية التي منحتها الدولة العثمانية لرعايا الدول الأجانب النازلين بأراضيها(10) هذا النوع من الاتفاقيات لم يكن مذموما، ينقص من السيادة العثمانية عندما كانت الدولة العثمانية قوية وفي أوج ازدهارها، ولكن بحلول القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، على إثر تدهور الإمبراطورية تحولت الامتيازات إلى قيود تُكبّل السلطنة داخليا وخارجيا، ولا سيما عندما بدأ هؤلاء الأجانب يسيئون استعمال تلك التسهيلات والامتيازات(11)، لتأخذ في النهاية شكل نظم تعهدية إلزامية على السلطان تفرضها المؤتمرات الدولية(12)، فكانت البداية العملية لإنهاك الدولة والهيمنة عليها.

وتكمن نقطة الضعف بنظام الامتيازات في أن الدولة لم تضع الحدود التي تحد من حرية الرعايا الأجانب علي أراضيها، فأصبحت الدول الأوروبية تعتبر تلك الامتيازات بمثابة حقوق مكتسبة لها ولرعاياها، وحتى لكل من تشملهم بحمايتها من تبعة الدولة، فكانت الامتيازات الحجة والذريعة التي استغلتها هذه الدول للدفاع عن مصالحها، والمنفذ الذي بواسطته توفرت للأوروبيين ظروف التدخل المباشر في الإمبراطورية العثمانية، ولسنا هنا بصدد بحث موضوع نظام الامتيازات الأجنبية، نشأته وظروفه، وأسبابه وطبيعة بنوده وإنما لاستجلاء آثاره وملابساته، بهدف كشف الاختراقات التي نتجت عنه وما أفرزته من تدخلات وضغوطات أوروبية سافرة في المجالات الطائفية السياسية، والاقتصادية والقانونية. انعكس ذلك بصدور التنظيمات، وفي السلسلة القادمة سيتم بحث التنظيمات ومفهومها ومميزاتها وجميع تفاصيلها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) نقولا زيادة. أبعاد التاريخ اللبناني، معهد البحوث و الدراسات العربية، المنطقة العربية للتربية و الثقافة و العلوم، جامعة الدول العربية، 1972، ص241 .

(2)  يحي جلال . العالم العربي الحديث , المكتب الجامعي الحديث , دينوقراط الازاريطة 1985 , ص241 .

(3)  ساطع الحضري . المرجع السابق , ص73.

(4) أنيس محمد . الدولة العثمانية و الشرق العربي (1514-1914) مكتبة الانجو مصرية , القاهرة , 1985 , ص241 .

(5)  ساطع الحضري . المرجع السابق , ص72 .

(6)  سيد محمد سيد . دراسات في التاريخ العثماني , ط1 , دار الصحوة للتوزيع و النشر , القاهرة , 1996 , ص280 .

(7)  مصطفى السيد . نقد حاله الفن العسكري والهندسة و العلوم في القسطنطينية 1803 , تحقيق خالد زياد , المؤسسة العربية للدراسات و النشر , 1979 .ص24

(8)  خالد زياد . اكتشاف التقدم الاوروبي , دراسة في المؤثرات على العثمانيين في القرن الثامن عشر , ط1 , دار الطليعة للطباعة , بيروت , 1968 ,  ص110

(9)  ساطع الحضري . المرجع السابق , ص69 .

(10) مسعود ظاهر. الجدور التاريخية للمسألة الطائفية اللبنانية (1697-1861م ) , معهد الانماء العربي , بيروت , 1981 , ص 329 .

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!