محمود الرنتيسي - مركز الجزيرة للدراسات

أسفرت النتائج النهائية للانتخابات البرلمانية التركية التي أجريت في السابع من يونيو/حزيران الحالي -التي شارك فيها 84% ممن يحق لهم التصويت- عن حصول حزب العدالة والتنمية على 40.87% من الأصوات، فيما حصل حزب الشعب الجمهوري على 24.95%، وحصل حزب الحركة القومية على 16.3%، فيما كانت مفاجأة الانتخابات حصول حزب الشعوب الديمقراطية على 13.12% من الأصوات، وبهذه النسبة استطاع تجاوز العتبة الانتخابية 10% ليكون الحزب الرابع في البرلمان التركي، وفي هذا الإطار لم يتمكن أي من المرشحين المستقلين الذين بلغ عددهم 165 مرشحًا من الوصول إلى البرلمان في أي من المحافظات التركية.

قد كان من أهم النتائج أن حصول حزب العدالة والتنمية على 258 مقعدًا لا يُمَكِّنُه من تشكيل الحكومة بمفرده؛ حيث يلزم لتشكيل الحكومة 276 مقعدًا على الأقل، وهو ما يعني أن يقوم الحزب بالتفاوض للتوافق مع واحد أو أكثر من الأحزاب الثلاثة التي دخلت البرلمان معه؛ وذلك من أجل تشكيل حكومة ائتلافية أو حكومة أقلية، وفي حال لم ينجح ذلك خلال 45 يومًا من التكليف المتعارف عليه من رئيس الجمهورية لرئيس الكتلة الأكثر أصواتًا في البرلمان، فإن الخيار الأرجح يبقى أمام التوجه نحو إعادة الانتخابات؛ وذلك في ظل الرفض القاطع لحزب الحركة القومية لقبول تواجد حزب الشعوب الديمقراطية في حكومة تشكلها الأحزاب المعارضة.

وفي هذا السياق فقد أكَّد زعيم الحركة القومية دولت بهتشلي اعتبار حزب الشعوب الديمقراطية مرسالًا سياسيًّا لمنظمة إرهابية تقتل الأطفال والجنود وآلاف المواطنين الأبرياء في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني، وانتقد بشدة دعوة زعيم حزب الشعب الجمهوري لتشكيل حكومة من الأحزاب المعارضة للعدالة والتنمية قائلًا: "إذا كانت ستُشكَّل حكومة بناءً على مجموع الأصوات، إذًا فليس هناك حاجة إلى المبادئ أو الأخلاق أو الكرامة".

وفي ظل هذه الحالة المتشابكة التي تشتمل على خلافات مبدئية بين الأحزاب في قضايا مثل: عملية السلام الداخلية، والتحول نحو النظام الرئاسي، وملفات داخلية أخرى، سيكون لشكل الحكومة القادمة تأثير كبير عليها، فإن نتائج الانتخابات أثارت -أيضًا- حالة من القلق والتساؤلات بشأن السياسة الخارجية التركية؛ خاصة أن تركيا تنخرط بشكل واسع في قضايا إقليمية وعالمية؛ لذا كان من المهم الوقوف على انعكاسات الانتخابات على السياسة الخارجية التركية، وإمكانية حدوث التغيير فيها.

أهمية السياسة الخارجية التركية

تحظى السياسة الخارجية التركية بأهمية كبيرة ومتابعة واسعة من قِبَل أطراف إقليمية ودولية؛ وذلك لعدة عوامل؛ منها:

1- الانخراط التركي الواسع في معظم الملفات الإقليمية.

2- دور تركيا في معادلة التوازنات الإقليمية والسياسة العالمية.

3- لا غنى عن دور تركي من أجل تعزيز السلام والاستقرار والأمن في الشرق الأوسط.

4- النظر إلى تركيا كنصير للمظلومين في أكثر من بلد، إضافة إلى وجود عدد كبير من اللاجئين من دول متعددة.

5- تعدُّ نموذجًا متميزًا للسياسات الخارجية في المنطقة.

6- وجود أطراف خارجية كثيرة معادية أو غير منسجمة مع السياسة التركية.

السياسة الخارجية التركية قبل الانتخابات

لقد شهدت فترة ما بعد الربيع العربي وصولًا إلى الانتخابات الأخيرة سياسة خارجية تركية في إطار توجهات حزب العدالة والتنمية تجاه بلدان الربيع العربي والعراق، وقد تدهورت خلالها العلاقات مع بلدان مثل: سوريا، ومصر، وإسرائيل، وبالتالي تأثرت علاقات أنقرة أيضًا مع جميع الدول الإقليمية؛ سواء الداعمة أو المعارضة للربيع العربي، وخلال هذه الفترة لاقت سياستها الخارجية في الشرق الأوسط اعتراضات كبيرة من الأحزاب المعارضة في تركيا؛ خاصة تجاه سوريا والعلاقة مع النظام والإخوان المسلمين في مصر، وملفات أخرى، وكذلك أيضًا اعتراضات من أطراف خارجية؛ مثل: إيران، وروسيا؛ حتى إن الخلافات طفت إلى السطح بين أنقرة وواشنطن فيما يتعلق برؤى وطرق معالجة الأوضاع في سوريا والعراق.

أما في الدعاية الانتخابية فقد استمرت المعارضة في انتقاد السياسة الخارجية؛ حيث تساءل زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كلتشدار أوغلو عن سبب عدم تواجد السفير الإسرائيلي في أنقرة، وكذلك الحال مع السفيرين المصري والسوري، وتعدَّى كلتشدار أوغلو الانتقاد إلى التعهد بإعادة اللاجئين السوريين في حال فوز حزبه بالانتخابات.

وعلى الرغم من ذلك فإن الحزب الوحيد الذي كانت لديه إجابات واضحة حول أسئلة السياسة الخارجية هو حزب العدالة والتنمية بواقع وجوده في الحكومة منذ عام 2002، أما بقية الأحزاب الأخرى على الرغم من مطالباتها بالتغيير في السياسة الخارجية، فقد واجهتها أسئلة شديدة الصعوبة؛ فعلى سبيل المثال لم يكن معروفًا إذا شكَّل حزب الحركة القومية الحكومة ما سياسته الخارجية تجاه الجمهوريات التركية الأخرى؟ وكيف سيدير علاقته مع روسيا؟ وهل سيهتم باللاجئين السوريين التركمان دون الفئات الأخرى؟ وهل سيعمل على خروج تركيا من حلف الناتو أم سيُبقي على عضويتها؟.

أمَّا حزب الشعوب الديمقراطية فلم يُعَرِّف سياسته تجاه ملف قبرص، وكذلك كيفية تعامله مع الأقليات الكردية في الدول الأخرى، وهل سيعيد السفير التركي إلى مصر؟ أمَّا حزب الشعب الجمهوري فهو أيضًا لم يبيِّن شكل سياسته مع ليبيا ومع دول مجلس التعاون الخليجي.

التغيير في السياسة الخارجية التركية

لا شك أن أية حكومة قادمة وفق نتائج الانتخابات الأخيرة سيكون لها انعكاساتها على السياسة الخارجية التركية؛ خاصة أن أي حزب سيشارك مع العدالة والتنمية سيحاول إدخال رؤيته وكبح جماح حزب العدالة والتنمية.

وعلى سبيل المثال فقد وضع حزب الشعب الجمهوري ضمن شروطه الأربعة عشر للمشاركة في حكومة مع العدالة والتنمية شرطًا يتعلق بضرورة تعديل السياسة الخارجية الحالية نحو سياسة خارجية أكثر تصالحًا وفائدة لمصالح البلاد.

وتزامن ما سبق مع تصريحات مشابهة لزعيم حزب الشعوب الديمقراطية صلاح الدين ديمرتاش لقناة المنار اللبنانية بأن السياسة الخارجية التركية يجب أن تتغير، وأن سياسة أحمد داود أوغلو قد تسببت بدمار المنطقة؛ خاصة في سوريا.

فيما صرَّح أكمل الدين إحسان أوغلو، مرشح الرئاسة السابق والنائب الحالي عن الحركة القومية، بأن السياسة الخارجية التركية في الشرق الأوسط كانت عبارة عن فوضى.

أمَّا خارجيًّا؛ وفور صدور النتائج الأولية للانتخابات فقد ظهرت عدة ردود فعل تشير إلى أن النتيجة الحالية ستفضي إلى تراجع مكانة أردوغان؛ مما سيقلِّص من قدرته على مواصلة السياسات الإقليمية، ولم تُخْفِ بعض وسائل الإعلام الإيرانية والإسرائيلية والمصرية فرحتها بنتائج الانتخابات، واعتبارها حصادًا لسياسة خارجية خاطئة.

وربما جاء أبرز التعليقات من الرئيس الإسرائيلي السابق شيمون بيرس الذي قال: "أردوغان أراد أن يحوِّل تركيا إلى إيران، ولا يمكن أن تتسع المنطقة لنسختين من إيران، نتائج الانتخابات تعبِّر عن اتجاه إيجابي في كل ما يتعلق بمصالح إسرائيل".

السياسة الخارجية في توجهات الأحزاب

ومن الضروري في سياق الحديث عن مستقبل السياسة الخارجية التركية الاطلاع على توجهات السياسة الخارجية للأحزاب التركية المعارضة لحزب العدالة والتنمية:

1- أولويات السياسة الخارجية لحزب الشعب الجمهوري، ويعتمد سياسة خارجية أكثر توجهًا إلى الغرب:

- شراكة جديدة وحديثة مع الولايات المتحدة.

- الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي هما حجر الزاوية للمجتمع الأوروبي الأطلسي، الذي تنتمي إليه تركيا.

- دعم عضوية تركيا الكاملة في الاتحاد الأوروبي، ومعارضة خيار "الشراكة المميزة"؛ الذي تدعمه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.

- استعادة الهوية الغربية للشعب التركي؛ التي فُقدت في عهد العدالة والتنمية.

- يرغب "حزب الشعب الجمهوري" في أن يرى البلاد وهي تقف في قلب محور "واشنطن - بروكسل - أنقرة".

- عدم التدخل في الشؤون الداخلية والبينية العربية.

2- أولويات السياسة الخارجية لحزب الحركة القومية، ويعتمد سياسة خارجية ذات أبعاد قومية مع ميل أخف إلى الغرب:

سياسة خارجية متعددة الأبعاد تركز على المصالح القومية.

سياسة خارجية تركز على مواجهة التهديدات الأمنية والإرهاب.

- ضرورة حماية وحدة أراضي الدول؛ خاصة سوريا والعراق.

- تهديد الأقليات التركية في الدول المجاورة يعد تهديدًا لتركيا، ويجب مواجهته بموجب القوانين الدولية.

3- أولويات السياسة الخارجية لحزب الشعوب الديمقراطية، يعتمد سياسة خارجية ضيقة ومحدودة:

- سياسة خارجية تقوم على السلام والإخاء والمساواة والحرية.

- يدعو لحل الأزمات السياسية في العالم عبر الطرق السلمية؛ خاصة الأزمة السورية والقضية الفلسطينية.

- منع قدوم الجهاديين إلى سوريا عبر تركيا.

وفي سياق حديث التغيير في السياسة الخارجية التركية؛ فإنه من الضروري الإشارة إلى أنه في حال لو استطاع حزب العدالة والتنمية تشكيل الحكومة بمفرده، فإن احتمالات التغيير في السياسة الخارجية التركية تبقى أيضًا قائمة، ويشهد على ذلك المسيرة السابقة للحزب خلال 12 عامًا الماضية، أمَّا ضمن الظروف الحالية فإن هناك عوامل تساعد على التغيير وأخرى تقلِّل من فرصه؛ وهي كالتالي:

1- عوامل تساعد على التغيير في السياسة الخارجية التركية

- تشكيل حكومة من قبل المعارضة (واحتمالاتها ضعيفة كما ذُكر أعلاه).

- وجود تأثير قوي للحزب الذي قد يشارك حزب العدالة في حكومة ائتلافية.

- القدرة على تحييد دور الرئيس في السياسة الخارجية.

- ظهور رغبة لدى حزب العدالة والتنمية بمراجعة سياساته الخارجية، (يوجد رغبة قوية لمراجعة سياسات الحزب بشكل عام).

- دخول حزب الشعوب الديمقراطي إلى الساحة السياسية من بوابة البرلمان.

- تدخُّل أطراف خارجية.

- احتمال تشكيل حكومة مع حزب الشعب الجمهوري.

2- عوامل تقلِّل أو تبطِّئ فرص التغيير وحجمه في السياسة الخارجية التركية 

- أن تركيا دولة إقليمية كبيرة، وأن التغيير فيها يمر بمراحل بطيئة ومتعددة.

- استمرار الرئيس رجب طيب أردوغان في موقع الرئاسة.

- بقاء أحمد داود أوغلو في رئاسة الوزراء.

- قدرة حزب العدالة على الوصول إلى صيغة توافق شاملة مع أحد الأحزاب.

- وجود ملفات تتفق فيها معظم الأحزاب.

- احتمال حدوث تطورات إقليمية لصالح رؤى وتوجهات السياسة الخارجية الحالية.

- احتمال تشكيل حكومة مع حزب الحركة القومية.

ويرى الباحث من خلال دراسة العوامل السابقة أن العوامل التي تقلِّل من حجم التغيير وفرصه أقوى وأرجح.

توجهات مستقبلية وخيارات

ويقع الخياران الرئيسان فيما يتعلق بالوضع السياسي التركي بين تشكيل حكومة ائتلافية أو التوجه لإعادة الانتخابات في حال فشلت عملية تشكيل الحكومة.

أولًا: التوجهات المستقبلية في حال التوافق على تشكيل حكومة ائتلافية

يمكن القول: إن تغييرًا ما سيطرأ على السياسة الخارجية التركية؛ لكن هذا التغيير لن يكون جذريًّا أو تحوليًّا؛ حيث إن حزب العدالة والتنمية في حال استطاع تشكيل حكومة ائتلافية ستكون الحصة الأكبر في الحكومة له؛ لكنه في الوقت نفسه لن يستطيع اتخاذ قرارات مصيرية تجاه قضايا السياسة الخارجية تحديدًا؛ نظرًا إلى وجود معارضة كبيرة له في البرلمان، كما أن الحزب الذي سيشاركه الحكومة سيقوم بالضغط عليه.

ونظرًا إلى الرفض القاطع الذي يُبديه حزب الحركة القومية تجاه تواجد حزب الشعوب الديمقراطية في أي حكومة؛ فإن هذا يُضعف كثيرًا من فرص تشكيل حكومة من دون حزب العدالة والتنمية؛ لذا فإن الباحث يتناول مستقبل السياسة الخارجية ضمن هذا السيناريو في حالة تحالف الحركة القومية أو الشعب الجمهوري مع العدالة والتنمية.

ويبقى من الضروري الإشارة إلى أن طبيعة وشكل التغيير سيتحددان بشكل أوضح بعد معرفة الحزب المشارك مع العدالة والتنمية، ومَن الذي سيتولى حقيبة الخارجية.

وذلك مع اعتبار أن فرص التغيير على مستوى السياسة الخارجية في حكومة يشارك بها حزب الحركة القومية ستكون أقل من حكومة يشارك بها حزب الشعب الجمهوري.

ومن المرجح في هذا السياق أن أي حزب سيشارك حزب العدالة والتنمية ضمن هذا السيناريو سيسعى إلى العمل على تقليص دور رئيس الجمهورية في تقرير السياسة الخارجية، ولا يعني هذا امتناع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن التدخل والإدلاء برأيه؛ حيث إن توقُّفه عن ذلك يتعارض مع شخصيته ودوره التاريخي.

الانعكاسات

أما بالنسبة إلى انعكاسات نتائج الانتخابات البرلمانية التركية على أهم القضايا الإقليمية فيمكن استعراضها فيما يلي:

1- الأزمة في سوريا

يتوقع كثيرون أن يكون الملف السوري أكثر ملف سيشهد نوعًا من التغيير؛ وذلك لأن كل أحزاب المعارضة تعارض سياسات الحكومة هناك؛ وبالتالي قد نشهد تقليصًا للدور التركي في سوريا؛ ولكن على عكس ما يبدو يرى الباحث أن التغيير في السياسة الخارجية التركية تجاه سوريا سيكون محدودًا جدًّا؛ وذلك لطبيعة الجوار بين البلدين، واستمرار الأزمة في سوريا بكل أبعادها؛ خاصة البُعد الأمني.

وفي هذا الإطار؛ إذا كانت الحكومة الائتلافية بين حزبي العدالة والتنمية والشعب الجمهوري؛ فإنه قد تحصل ليونة في المواقف التركية؛ مما يجعل الأجواء تتهيأ لتوافق أكبر مع الإدارة الأميركية، وهذا له انعكاسات أيضًا على إمكانية السماح بفتح قاعدة "إنجرليك" الجوية أمام قوات التحالف ضد داعش؛ لكن ضمن شروط معينة أيضًا، وخلال ذلك زيادة وتيرة المطالبة بمنطقة آمنة شمال سوريا لإيواء اللاجئين ومنع تدفقهم إلى تركيا؛ وهي أمور ما زال يطالب بها حزب العدالة والتنمية.

أمَّا في حال كان هذا الحزب هو حزب الحركة القومية فسيكون هناك توافق في اتجاه منع قيام أي كيان كردي شمال سوريا؛ خاصة مع التحركات التي يقوم بها حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية، وهذا سيكون له آثار سلبية على العلاقة مع إقليم كردستان العراق؛ فضلًا عن عملية السلام الداخلي.

وفي هذا السياق فإن زعيم الحركة القومية دولت بهتشلي يعتقد أن الدعم الأميركي لقوات حزب العمال الكردستاني "بي كي كي"، و"وحدات حماية الشعب" الكردية، لإنشاء ما يسمى "كردستان الغربية" يشكِّل خطرًا كبيرًا، وأمام هذا الخطر الكبير يرى أنه لا يمكنه النأي بالنفس والانعزال إلى موضع المعارضة فقط؛ بل يتحتَّم عليه القبول بائتلاف مع العدالة والتنمية، والتوافق مع سياساته؛ خاصة أن منطقة شمال تركيا يقطنها عدد كبير من التركمان، وهم فئة يهتم بهم حزب الحركة القومية، وهذا التحالف من شأنه أن ينعكس سلبًا على العلاقة مع الولايات المتحدة مقارنة بتحالف مع حزب الشعب الجمهوري.

وتسود مخاوف حالية لدى حزب العدالة والتنمية وأوساط تركية أخرى من محاولات الأكراد إنشاء كيان شمال سوريا بدعم من قوى غربية؛ لذلك فإن أيَّة حكومة ائتلافية قادمة -بغضِّ النظر عمن سيشكلها- ستجد نفسها مرتبكة ومترددة بشأن التدخل لمنع ذلك؛ خشية من تردي حالة الاستقرار في البلاد؛ خاصة بعد فوز حزب الشعوب الديمقراطية الكردي.

أما بالنسبة إلى الجوانب الإنسانية والأمنية التي تعالج تركيا من خلالها القضية السورية؛ فإن الحكومة الجديدة ستعمل على مراجعة الأمور وإعادة تقييمها، وبالتالي سيتضح شكل التعامل معها بعد فترة من تشكيل الحكومة، أما الحديث عن إعادة اللاجئين السوريين أثناء فترة الدعاية الانتخابية؛ فإن المرجح أنه كان في سياق تحريض الناخبين على سياسة حزب العدالة والتنمية أكثر من كونه سياسة معتمدة؛ خاصة أن البرنامج الانتخابي لحزب الشعب الجمهوري يتحدث عن ضرورة "استضافة الإخوة السوريين بما يتلاءم مع القواعد الإنسانية"؛ لكن مع الحديث عن قيام كيان كردي شمال سوريا فإن عمليات نزوح اللاجئين قد تواجه صعوبة في السماح من قبل القوات التركية؛ وذلك لمنع تفريغ المناطق الشمالية من السكان العرب والتركمان؛ حتى لا تكون تحت سيطرة كاملة من قوات حماية الشعب الكردية.

وفي هذا الإطار؛ وفي ظل حديث صحف معارِضة لحزب العدالة والتنمية عن دعم تركي عسكري لفصائل تقاتل النظام في سوريا؛ فإنه في حال صحة هذه التقارير فإن دعمًا في هذا الإطار من شأنه أن يتقلص في حال تشكيل أية حكومة ائتلافية.

2- العلاقات مع العراق

تدعو الأحزاب التركية إلى دعم العملية الديمقراطية في العراق، وتطوير التعاون مع الحكومة المركزية في العراق في المجالين الاقتصادي والأمني، أمَّا في العلاقة مع كردستان العراق فإن حكومة تركية يشارك فيها حزب الحركة القومية ربما تؤثِّر سلبًا على هذه العلاقة؛ لكن لا يتوقع أن يكون لها أثر على الاتفاقات الاقتصادية؛ خاصة المتعلقة بممرات الطاقة.

وقد كانت العلاقات قد توتَّرت قليلًا مع إقليم كردستان عند امتناع تركيا عن الدخول لمواجهة داعش وحماية الأكراد في عين العرب كوباني؛ لكن بدا هناك تحسنٌ ملحوظٌ مع زيارات متبادلة لكلٍّ من أحمد داود أوغلو وحيدر العبادي في السنة الأخيرة.

ويُتوقَّع أن يستمر الاهتمام التركي بالعراق؛ ولكن ربما يتراجع موضوع إدماج السنَّة في العملية السياسية.

3- العلاقات مع مصر

وفي الملف المصري، يُتوقَّع أن تستمر الانتقادات التركية للممارسات غير القانونية بحق المعارضين في مصر؛ ولكن ليس بالحدة والصلابة نفسها التي كانت عليه في الفترة السابقة.

وربما تكون هناك مبادرات لإصلاح العلاقات بين البلدين؛ سواء في حال حكومة يتواجد فيها حزب الشعب الجمهوري أو حزب الحركة القومية؛ لأن الحزبين أشارا إلى ضرورة ذلك في دليل الدعاية الانتخابية، وحثَّا على تحسين العلاقات السياسية والثقافية بكافة الوسائل.

لكن العلاقات -أيضًا- ستكون في مستويات دون المستوى القيادي في البلدين؛ لأن الرئيس رجب طيب أردوغان باقٍ في منصبه، ورئيس الوزراء سيكون على الأرجح من حزب العدالة؛ أما في سياق أنشطة المعارضة المصرية في تركيا فقد تتراجع هوامش الحرية التي كانت تعمل في إطارها.

4- القضية الفلسطينية وإسرائيل 

يوجد رهان إسرائيلي على أن خيار الحكومة الائتلافية في تركيا سيُضعف الاهتمام التركي بالقضية الفلسطينية؛ وبالتالي لن يستطيع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مواصلة العمل على منح حركة حماس مظلة سياسية إقليمية ودولية، ومن جهة أخرى فإن إسرائيل التي تريد إطالة أمد الصراع في سوريا تنظر بإيجابية إلى نتائج الانتخابات التركية؛ كونها تؤجل حسم المعركة لصالح أحد الأطراف؛ وبالتالي تستفيد من إنهاك كافة الأطراف، ويُتوقَّع أن تبدي إسرائيل تشددًا في موضوع المفاوضات المتعلقة بأحداث سفينة "مافي مرمرة" في 2010.

وفي هذا السياق فقد ذكر الموقع الإلكتروني لصحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، مساء الاثنين 22 من يونيو/حزيران الجاري، أن لقاءً سرِّيًّا جمع مسؤولين إسرائيليين؛ منهم مدير عام الخارجية الإسرائيلية دوري جولد مع نظرائهم الأتراك في العاصمة الإيطالية روما؛ وذلك في محاولة لإنهاء الخلافات بين البلدين.

وأشار الموقع إلى أن هذا اللقاء الأول بعد فترة طويلة نسبيًّا من القطيعة بعد المحادثات التي استؤنفت بوساطة أميركية بعد مجزرة السفينة التركية "مافي مرمرة" عام 2010.

ويرى الباحث أن اهتمام الحكومة التركية بالقضية الفلسطينية لن ينقطع، وستظل تحظى بالمتابعة؛ خاصة إذا حاولت إسرائيل القيام باعتداءات على الشعب الفلسطيني؛ لكن مستوى حضورها في الخطاب الرسمي ربما يشوبه نوع من التراجع البسيط جدًّا؛ أما العلاقة التركية-الإسرائيلية فإن التدهور الحاصل فيها ربما يتوقف؛ لكن احتمال تحسنها لا يبدو في مجال التحقق في المدى القريب، وإن كان وجود حزب الشعب الجمهوري في الحكومة سيعزز من فرص عودة العلاقات؛ حيث يقترح حزب الشعب الجمهوري إعادة هيكلة علاقات تركيا مع إسرائيل من أجل العمل بصورة أكثر فعالية نحو التوصل إلى حل للصراع، ويرى أن العلاقات التركية الإسرائيلية مهمة لإسرائيل وتركيا والمنطقة.

أما حزب الحركة القومية فلم يُشِرْ في وعوده الانتخابية إلى العلاقة مع إسرائيل؛ إلا في سياق الدعوة لدولة فلسطينية مستقلة برعاية الأمم المتحدة.

5- ليبيا

لم تتحدث الأحزاب التركية كثيرًا عن الأحداث في ليبيا؛ وذلك نظرًا إلى بعدها عن تركيا، كما أن الانخراط التركي في ليبيا لم يكن كبيرًا، وفي هذا السياق تدعو أحزاب المعارضة إلى التوقف عن استخدام القوة في ليبيا، وتحسين العلاقات مع الحكومة الليبية المعترف بها من الغرب، ولا يُتوقَّع أن يجري تغييرٌ في السياسة الخارجية تجاه ليبيا إلا في أمور طفيفة.

6- العلاقة مع دول الخليج العربي 

مع التأييد التركي لعاصفة الحزم في اليمن، وظهور بوادر تقارب سعودي-تركي في الآونة الأخيرة، تم توقُّع حصول انعكاسات له من خلال عمل مشترك في سوريا للقضاء على نظام بشار الأسد، ومع بوادر التقارب تعالت أصوات تنادي بتطوير التقارب إلى تحالف لمواجهة المشروع الإيراني في المنطقة؛ ولكن كانت هناك معوقات أمام الوصول للتحالف، ولعل نتائج الانتخابات الأخيرة تضاف كعنصر جديد على هذه العوائق.

وإذا كانت هناك اتفاقات مع دول خليجية للعمل معًا في سوريا؛ فإن هذه الاتفاقات لن يكون من السهل تطبيقها في حال تشكَّلت حكومة ائتلافية؛ إلا أن العلاقة مع الدول الخليجية ستستمر جيدة؛ خاصة في سياق التنافس الإيراني-الخليجي.

ثانيًا: التوجهات في السياسة الخارجية ضمن سيناريو إعادة الانتخابات

إذا تم التوجه إلى سيناريو إعادة الانتخابات البرلمانية؛ فإن هذا الخيار سيعني مزيدًا من الانشغال بالسياسة الداخلية، وربما مزيدًا من الليونة في السياسة الخارجية؛ خاصة في التوافق مع الولايات المتحدة من قِبَل حزب العدالة والتنمية، ولن تستطيع الحكومة خلال هذه الفترة اتخاذ قرارات مصيرية؛ وذلك خشية التأثير على نتائج الانتخابات.

ومع وجود بعض المؤشرات على تحسُّن فرص العدالة والتنمية في حال تمت إعادة الانتخابات؛ مثل بعض استطلاعات الرأي التي تشير إلى ندم 12% على الجهة التي صوَّتوا لها؛ يرى بعض المحللين أن هذا يدعم فرص عدم التغيير في السياسة الخارجية التركية.

ويطرح البعض للتعامل مع هذا السيناريو احتمال التعامل العكسي من خلال قيام حزب العدالة بسياسات متشددة في الملف السوري وتجاه النظام في مصر والحكومة الإسرائيلية؛ وذلك بهدف استعادة الشعبية؛ ولكن يبدو هذا غير مرجَّح؛ لأن الكتلة الشعبية القريبة من الحزب شبه ثابتة؛ لذلك سيحاول الحزب إقناع الأطراف الأكثر بُعدًا من خلال سياسات أكثر توازنًا وأقل تراجعًا عن سياساته السابقة.

النتائج

يمكن الخروج بعدة نتائج فيما يتعلق بانعكاسات نتائج الانتخابات على السياسة الخارجية التركية: 

1- كان أثر السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية في قرار الناخب التركي ضعيفًا مقارنة بالقضايا السياسية الداخلية والوضع الاقتصادي؛ إلا في بعض المحافظات الجنوبية؛ مثل: عنتاب، وأورفا؛ حيث يُعتقد أن تراجع نسب حزب العدالة والتنمية كان في جزء كبير منها بسبب السياسة تجاه سوريا.

2- لن يكون هناك تغيير جذري في السياسة الخارجية التركية؛ لأن التغيير في السياسة الخارجية في حالة دولة إقليمية كتركيا سيحتاج وقتا كبيرًا؛ لكن التغيير المؤكد سيكون في شكل السياسة الخارجية التركية وأسلوبها؛ بحيث يصبح أكثر هدوءًا وأقل مواجهة.

3- سيكون للطرف الذي سيشكل الحكومة مع حزب العدالة ولطبيعة الاتفاق معه دورٌ مهمٌّ في تحديد السياسات الخارجية.

4- الانشغال بترتيب الأوضاع الداخلية سيؤدي إلى تقليل الاهتمام بقضايا السياسة الخارجية.

5- سيحاول حزب العدالة والتنمية بكل ما في وسعه من أجل الحفاظ على خياراته وسياساته مع العمل على إعادة تقييم بعض السياسات.

6- ستؤدي نتائج الانتخابات إلى الحدِّ من قدرة حزب العدالة والتنمية على اتخاذ قرارات حاسمة؛ مما سينعكس على تنفيذ خططه المتعلقة بالسياسة الخارجية.

7- في حال حدوث تطورات إقليمية تحديدًا في سوريا سيظهر الارتباك بوضوح على السياسة الخارجية التركية.

8- بقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في موقع رئاسة الجمهورية يقلل فرص التغيير الكبير في السياسة الخارجية، ويبقى كعامل توازن لصالح حزب العدالة.

9- من المحتمل أن تكون أنشطة الجماعات العربية المعارضة المتواجدة في تركيا أكثر صعوبة.

10- يتوقع أن تستغل أطراف خارجية حالة التعقيد الحالية والانشغال الداخلي في تركيا لتحقيق أهدافها في المنطقة.

11- على الأرجح أن حزب العدالة والتنمية سيسعى للاحتفاظ بوزارة الخارجية في أي حكومة ائتلافية.

يلاحظ انفتاح نسبي في توجهات السياسة الخارجية للأحزاب المعارضة؛ وربما يرجع ذلك إلى الطفرة الكبيرة التي حققها حزب العدالة والتنمية في إنشاء العلاقات وافتتاح السفارات؛ خاصة في إفريقيا.

عن الكاتب

محمود الرنتيسي

باحث فلسطيني في مجال العلاقات الدولية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس