خلود الخميس - صحيفة العرب القطرية

تداعيات الأزمة التي نشبت بين روسيا وتركيا بسبب إسقاط الثانية طائرة حربية للأولى أقل ما يمكن وصفها بأنها في كفتي ميزان.

الكفة الأولى تحمل التعنت والاستعراض الروسي عبر تصرفات عنترية وكأنه عراك شوارع لا مشكلة بين بلدين. وبلا مبرر ولا سند من القانون الدولي وشحن باتجاه التأزيم. الكفة الثانية تحمل الدبلوماسية التركية.

ولنفصل في الدبلوماسية التركية:

أولاً: تركيا لديها كل الحق في إسقاط الطائرة، وقد أثبتت ذلك بالدليل القاطع بأنها لم تخرج عن بروتوكول التشابك المعمول به في القانون الدولي؛ فقد أعطت قائد الطائرة ما يقارب الخمس دقائق بعد عشرة إنذارات، وهو وقت طويل قياساً بقدرة وسرعة الطائرة الحربية على الاستجابة. ولكن كان هناك تعنت بتجاهل التحذيرات بدليل تصريح بوتن لاحقاً بعد سؤاله لماذا لم تستجيبوا لطلب تركيا مغادرة أجوائها فقال: «ليعتبرونا ضيوفاً عليهم»! انظر إلى الحمق عندما يحكم دولة.

وقد كان لتحركات تركيا الدولية السريعة في كسب الاتحاد الأوروبي وأميركا وكثير من الدول إلى صف هذا الحق.
الأثر السلبي، كما يبدو، على لغة الجانب الروسي الخالي من أية دبلوماسية والمليء باللهجة المتعالية ولغة التهديد والفظاظة، وذلك رغم أن تركيا هي الكفة الراجحة والمالكة للدعم الدولي قانوناً.

ثانياً: استفزت روسيا تركيا بدخول بارجتين إلى ممراتها المائية بلا إذن، البوسفور والدردنيل، أي اختراق للحدود الجوية والبحرية، وذلك أيضاً قابله الصبر من الدبلوماسية التركية وسياسة «طول البال» على سلوك الأطفال الذي ينتهجه بوتن في ردود الأفعال بلا حساب للعواقب وأخلاقيات العلاقات الاستراتيجية وحسن الجوار. ورغم قدرة تركيا على حرمان أية دولة مطلة على البحر الأسود من أية إطلالة على العالم بحرياً بلا إذنها ومنهم روسيا؛ فهي لم تتخذ معها إجراءً انفعالياً لئلا تزيد حطب أزمة إسقاط الطائرة.

ثالثاً: تركيا عضو في حلف «الناتو» وقد أعلن تأييد حقها في الدفاع عن أجوائها واستعداده لدعمها في أي عدوان عسكري عليها. وهو الحلف الذي ضرب فيه بوتن عرض الحائط عندما ضم القرم لسيادة روسيا بلا اعتبار للمجتمع الدولي الرافض تدخلاته في أوكرانيا. «الناتو» لديه ثأر مع روسيا وهي تعلم دوره في الحرب الباردة وموقفه من سباق التسليح الذي انتهجه الاتحاد السوفيتي آنذاك حتى انهار وتحول لدويلات وخسر السيادة السياسية والاقتصادية والعسكرية. ولا أظن أن من الحكمة السياسية وبعد النظر خسارة أو الوقوف بوجه الحلف العسكري الوحيد الذي يعمل على الساحة الدولية.

رابعاً: تركيا وسعيها في التطور العسكري مؤشر ونذير سوء لتركيا بوتن، الذي يدير دولة بالغرور لا بالحنكة، وتلك الورقة التي تبتز فيها روسيا حلفاءها لن تجدي مع تركيا التي صارت دولة مصدرة للأسلحة.

خامساً: حكومة تركيا تمتلك ثلاثة عوامل رئيسة يعجز عن محاربتها الروس: الاقتصاد ودعمين: الشعبي والأممي، بالإضافة إلى حجم الجيش.
بالنسبة للاقتصاد فالقارئ يعلم أن تركيا من دول العشرين، أي من ضمن أكبر الاقتصادات العشرين في العالم. أما مسألة الغاز التي يطنطن عليها بعض المحللين الذين يميلون للجانب الروسي فهي نقطة قوة لتركيا لا ضعف، فروسيا تحقق مليارات لن تتخلى عنها بسبب طيار عسكري مات في أرض المعركة.

كما أن تركيا تستطيع استيراد الغاز الطبيعي من قطر وكردستان العراق وإيران والجزائر وإيران، وتتحول المليارات عن الاقتصاد الروسي المنهك أصلاً، إلى دول أخرى وهذا الذي لا تريده أية دولة عاقلة بالطبع.

والدعم الشعبي الذي هو سلاح الحكومة التركية الأقوى؛ حيث حصل حزب العدالة والتنمية على ثقة الأتراك بمختلف أطيافهم لرئاسة الدولة والبرلمان والحكومة، وحتى المعارضة صفت بجانب الحكومة لتدعم الدولة.

بالنسبة للدعم الأممي فالجميع يعرف أن سواد أعظم من المسلمين في العالم مرتبطون بمشاعر من الحب والإعجاب لقيادة تركيا، العدالة والتنمية، لأكثر من سبب، وأهمها أنها تسعى لدعم القيم المحافظة بوجه العلمانية الشرسة، ولديها مواقف مشرفة تجاه قضايا الأمة الإسلامية في مصر وسوريا وفلسطين، وتنظر لها بعين الأمل لمستقبل الإسلام.
ويكفي تصريح المجاهدين من جمهورية إتشكيريا الشيشانية بأنهم بانتظار أوامر أردوغان قائد المسلمين كما أطلق عليه؛ رداً على إعلان رئيس الشيشان قديروف المؤيد لبوتن، وملف الشيشان بالإضافة لملف سوريا ضربتان قويتان على رأس روسيا لن يحملهما بوتن وليس من مصلحته فتح جبهات جديدة.

وسلطة تركيا الروحية التي يستشعرها المجاهدون في الشيشان، لن يقدر قديروف أو بوتن على نزعها إلا بمواجهة مع من يحب الموت في سبيل الله كحبهم للحياة.
أما الجيش التركي فهو ما يجب أن يقلق الدب الروسي، فأحفاد شهداء «جناق قلعة» على استعداد لحلق شعره وسلخ جلده بثاني أكبر جيش في حلف «الناتو» يفوق تعداده المليون

محارب، وبالتأكيد هناك من لم ينس كيف تسبب الروس بيتم أبويه أو نهب وحرق بيته وأرضه.

أما التلويح الروسي بمنع سياحة الروس في تركيا، فتستطيع الأخيرة استخدامها بناء على سياسة المعاملة بالمثل وزيادة؛ فالتبادل التجاري بين البلدين 31 مليار دولار سنويا يمكن لأنقرة استخدامه ضد روسيا.

المجازفة بخسارة العلاقات الاستراتيجية مع تركيا أكبر من روسيا بوتن، وهي روسيا التي تتصرف بغباء رئيسها المطلِّق المجروح لرفض امرأته له، وليس كقائد دولة كانت واحدة من أعظم دولتين في العالم؛ فصار يديرها دب هائج بلا عقل.

بينما يدير الأزمة من الجانب التركي أردوغان المستقر زوجياً وصاحب الدماثة الأخلاقية والقريب من قلوب البسطاء الذين يمطرونه بالدعاء في كل يوم للنصر على الأعداء.
«كش ملك» لبوتن!

عن الكاتب

خلود عبد الله الخميس

كاتبة وروائية كويتية مختصة في الإعلام السياسي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس