ترك برس

أقدمت الدولة العثمانية على حصار "فيينا" للمرة الثانية على التوالي عام 1683، ولكنها لم تظفر بالنصر التي كانت ترنو إليه، وكان هذا العام هو التاريخ الذي أوحى بانغلاق باب الظفر للدولة العثمانية ضد الغرب الذي ذاق ويلات الهزيمة على يد الدولة العثمانية، لعقود طويلة.

بعد تكبد الدولة العثمانية عددًا من الهزائم المتوالية، واضطرارها للانسحاب من بعض الأراضي الأوروبية، رأى الصدر الأعظم المحنك "إبراهيم باشا" وجود حاجة ماسة لإرسال سفراء عثمانيين للدول الأوروبية، لإدراك الأسباب التي حولت الغرب من مهزوم أمام الدولة العثمانية إلى هازم لها، وأرسل "إبراهيم باشا"، عام 1920، السفير "محمد شلبي" إلى باريس، وبذلك صار "محمد شلبي" أول سفير عثماني في التاريخ.

ولم يكتفِ "إبراهيم باشا" بإرسال "محمد شلبي" إلى باريس، بل قام، عام 1923، بإرسال "محمد أغا" إلى موسكو، وفي عام 1730 أرسل "مصطفى أفندي" إلى فيينا، وفي نفس العام أرسل "محمد أفندي" إلى بولندا.

ويُذكر أن سفير فرنسا لدى الدولة العثمانية، في تلك الحقبة الزمنية، "مورقس دي بوناك"، المعروف بصداقته الحميمة مع إبراهيم باشا، هو من أشار عليه بضرورة إرسال سفير على مستوى رفيع من الخبرة للإسهام في إحضار مواد فكرية وتكنولوجية تساهم في تطوير الدولة العثمانية.

وعلى هذا الأساس وقع الاختيار على "محمد شلبي"، لما تمتع به من صيت ذائع في المجالين العسكري والدبلوماسي. انطلق "محمد شلبي"، في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 1720، من إسطنبول متجهًا نحو باريس، وبرفقته 40 موظف متنوعي الاختصاص، ووصلت الهيئة الدبلوماسية برئاسة "محمد شلبي" إلى باريس في الواحد وعشرين من أكتوبر، واستقبلتهم السلطات الفرنسية بحفاوة.

وأوضح إبراهيم باشا للسفراء المرسلين أنهم ليسوا بصدد إقامة علاقات جيدة بين الدولة العثمانية والدول الأوروبية، بل أن مهمتهم الرئيسية هي إعداد تقارير متعلقة بكافة جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية للدول الأوروبية، وإرسالها إليه بشكل دوري كل شهر.

بعد قدوم التقارير المذكورة إلى إبراهيم باشا أيقن أن الدول الأوروبية حققت تقدمًا علميًا وتكنولوجيًا هائلًا، وهذا ما جعلها تحرز الانتصارات المتتالية على الدولة العثمانية التي كانت لا تقهر في حربها ضد هذه الدول. وفي ضوء هذه النتيجة، قرر "إبراهيم باشا" إرسال سفير استثنائي واسع الصلاحيات إلى باريس، لانتقاء بعض الاختراعات التكنولوجية الحديثة وإحضارها إلى أراضي الدولة العثمانية.

ركز إبراهيم باشا على تقارير "محمد شلبي"، وبعد مرور خمس شهور على وصوله إلى باريس، حضر "محمد شلبي" تقريرًا مفصلًا تحت عنوان "سفارة نامة" أي "تقرير السفارة"، وقصد إسطنبول، لعرض انطباعه وتقريره عن فرنسا، للسلطان العثماني "أحمد الثالث" وصدره الأعظم إبراهيم باشا.

اعتبر الصدر الأعظم "إبراهيم باشا" تقرير "محمد شلبي" غاية في الأهمية، ولكنه لم يترجم هذه الأهمية على أرض الواقع بالشكل الذي تستحقه، واكتفى بإحضار بعض الاختراعات البسيطة، ولكن الآثار الضخمة والمتنوعة لهذه الاختراعات البسيطة أظهرت، بعد فترة من الزمن، الكثير من التغيرات الجذرية داخل الدولة العثمانية.

سُمي عهد السلطان "أحمد الثالث" وصدر أعظمه "إبراهيم باشا" بعصر "اللاله" نسبة إلى أحد الورود العثمانية المشهورة، وسُمي بذلك الاسم، لغزو الكثير من العادات والتقاليد والاختراعات الغربية الدولة العثمانية، وبالتالي حدوث الكثير من التغيرات في ربوع الدولة العثمانية، فشُبهت هذه التغيرات بالورود. امتد عصر "اللاله" بين عامي 1718 ـ 1730".

وكانت أبرز التغيرات في هذا العصر:

ـ زيادة البعثات الدبلوماسية للدول الأوروبية في الدولة العثمانية، وكانت هذه نقطة مفصلية في تاريخ الدولة العثمانية، حيث استغلت الدول الأوروبية العلاقات الدبلوماسية في حياكة المؤامرات ضد الدولة العثمانية، وبرزت هذه المؤامرات من محاولة الغرب اغتيال وعزل السلاطين العثمانيين الذين لا يروقون لهم ولمصالحهم، وتمكنوا من إحراز نجاح في عدد من هذه المحاولات.

ـ إحضار المطبعة من أوروبا على يد "إبراهيم متفرقة" و"سعيد أفندي"، وهذا ما حقق ثورة حقيقية في مجال طباعة الكتب والصحف المحلية والغربية ونشرها، وإغراق السوق العثمانية بالكثير من الكتب والصحف والمجلات.

ـ إحضار العديد من اللقاحات ضد أمراض خطيرة مثل الكوليرا وغيرها.

ـ تأسيس جهاز إطفاء، لإطفاء الحرائق.

هذه النتائج ظهرت بشكل مباشر بعد الانفتاح الدبلوماسي، أما النتائج غير المباشرة التي ظهرت فيما بعد، فيمكن سردها على النحو الآتي:

ـ التدخل الأوروبي السافر في الشؤون الإدارية للدولة العثمانية، حتى انهيارها عام 1923.

ـ إعلان نظام التنظيمات الإصلاحي بتاريخ 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 1839، والذي رفع نظام الجزية عن غير المسلمين، ورفع حكم الإعدام، وتذكر الوثائق التاريخية أن السلطان "عبد المجيد" أراد من خلال هذا النظام تخفيف الضغوطات الدبلوماسية والاقتصادية والأوروبية عن الدولة العثمانية، وبالتالي تخفيف التدخل الأوروبي في إدارة شؤونها، ولكن هذا النظام لم يغفر له واستمر الضغط الأوروبي على الدولة العثمانية التي أصبحت مرتبطة بكثير من الامتيازات الاقتصادية الممنوحة للدول الأوروبية.

ـ نظام الإصلاحات: أعلنه السلطان "عبد العزيز" بتاريخ 18 شباط/ فبراير 1856، وقدم من خلاله المزيد من الحقوق إلى مواطني الدولة العثمانية غير المسلمين، لصد التدخل الغربي في إدارة الدولة العثمانية، ولكن كانت عاقبة هذا النظام نفس عاقبة نظام التنظيمات، إذ لم يسفر عن تخفيف التدخل الأوروبي، واستمر التدخل الأوروبي في إدارة الدولة العثمانية إلى أن أدى إلى انهيارها بالكامل بحلول عام 1923.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!