د. سماح هدايا - خاص ترك برس

على مدى خمس سنوات من الثورة ضد نظام الأسد وما صاحبها من حرب مضادة شنّها نظام الأسد وحلفاؤه على الثورة وقوى المقاومة، توسّعت الأدلجة والولاءات بكل اتجاهاتها وأنهكت الثورة السورية، خصوصا مع غياب منظومة متماسكة واقعيّة للمعايير الوطنية ومعايير حقوق الإنسان السوري، وبروز مشاريع سياسية عسكريّة لانتماءات ضيقة عرقية ومذهبية وسياسية، بموازاة استجابة دوليّة ضعيفة لمطالب الشعب السوري في الحرية والديمقراطية، وقصور في تقديم الدعم السياسي الحقيقي لقوى الثورة، مع اتجاه أطراف دوليّة معيّنة لدعم نظام بشار سياسيا أو عسكريا.

مثلما أساء سياسيّا واجتماعيّا، القناع الإسلامي المتشدد الذي غطّى وجه الثورة، وجاء بمثابة ردة فعل طائفيّة سياسية، أكثر من فعل عقائدي ناضج أو إنتاج فكري حضاري، أساءت، كذلك،  الشعارات العلمانيّة والليبرالية التي رفعتها تيارات وأحزاب ومنظمات محسوبة على المعارضة، حين أسهمت في الخلخلة وإثارة الفتن، خصوصا أن العلمانية والليبرالية جاءتا كقشرة خارجية لمحاربة الإسلام السياسي، وليس لإنتاج مفاهيم وطنيّة عميقة. كما أسهم في الإساءة التباس الموقف الدولي والإقليمي بين الحق والباطل والتدخل العسكري بحجة مكافحة الإرهاب.

داخليا؛ مختلف الأطراف من تيارات ومنظمات ومؤسسات وجمعيات وأحزاب وتكتلات ومعارضات مرتبطة، غالبا، بدعم خارجي، ساعدها في تأسيس مصالح  خاصة، وإدارة أعمال وهويات فرعيّة مستغّلة تأزم الأوضاع نتيجة الثورة والحرب، لتحقيق طموحات سياسية مستقلّة وتحصيل منافع ومكتسبات ونفود يتقاطع مع مصالح سياسية خارجيّة. وهو، بالطبع، ما زاد في شراسة المعركة ووسّع قاعدة الخلافات، وأضعف الاندماج الوطني، وبنى مزيدا من المتناقضات باسم التعددية والمدنية والسلميّة وحقوق الأقليات والخلافة والإمارة. فنشأت على الأرض أدلجة تقسيميّة ودويلات حرب، تتناقض مع مصالح الشعب السوري المصيرية ومع قيام شرعيّة سياسية مستقرّة جامعة لها مرجعية وسلطة.

خارجيا؛ فإن النظر إلى ثورة سوريا من منطلق خصومة وعداوة كتهديد عربي نهضوي وإسلامي جهادي للغرب؛ حتى قبل تكوّن تنظيمات إسلامية عسكريّة، وقبل ظهور أزمة اللاجئين، أدى الى محاربتها ودعم الثورة المضادة وتمييع نظام بشار،  واستغلال تنظيم داعش لتحويل شرعيّة إزاحة النظام إلى مشروعيّة محاربة الإرهاب ودعم دويلات أقليّة.

الأمم مثل الأفراد تسير بدوافع، وتفكّر كذوات وتسعى للنفوذ والسيادة سائرة بما يشبه الغرائز للبقاء والهيمنة. لكنْ، لا يمكن أن تستمر أمة أو فئة بالسلطة والبغي للأبد.  فهي مرتبطة بتاريخ يتحرك وفق قوانين . لذلك تنهار الأمم وتسقط الدول. المبادىء العامة للانهيار واحدة. والسلوك البشري واحد عبر التاريخ وهو الشغف بالسيطرة والاستحواذ على المال والثروات، وشن الحروب طلبا للنفوذ والهيمنة. فكل الامبراطوريّات استولت على الأموال والثروات وقامت باحتلال الأراضي لتعزيز قواها؛ لكن في تماديها عناصر انهيارها وأفولها. روسيا فعلت هذا في القرم، والآن تفعله في سوريا؛ لكنها ستفشل في تحقيق مخططات الهيمنة على سوريا بوجود مقاومة سورية شعبيّة ناضجة. أمريكا فعلت ذلك في أفغانستان والعراق ولم تحقق نجاحا مستداما. السلوك الأممي وتصرف البشر اليوم شبيه بما كان قبل 5 آلاف سنة... هذه القوى ليست ابدية. والتاريخ يثبت هذا. الآن هي الفرصة الذهبية لاستثمار طاقات النهوض العربي.

السؤال الكبير الآن: أين سنتجه في ثورتنا ضمن هذا المنظور وتداعياته  بوجود هذه الخارطة المحلية والاقليمية والدولية، مع حراك مفاوضات من أجل حل سياسي سوري، وبنمو توافقات دولية جديدة من جهة، وخلافات مستحدثة من جانب آخر؛ خصوصا أن  الدراسات الاستراتيجية تشير إلى تدهور اقتصادي، يهدّد أوروبا، قد يزيد في الصراعات والمتناقضات بين المنظومات الغربية والشرقية، ويؤثّر في مصير في بلادنا.

بعد خمس سنوات يصبح النقد والمكاشفة والمراجعة أمراً في غاية الأهمية، واستحقاقا تاريخيّا. خصوصا أنّ  مسألة الثورة السورية مرتبطة بمسائل إقليمية ودولية، وأنّ تداخل الأجندات الفكرية والعقائدية وإشكاليات النفوذ والسلطة يؤجّج الصراع ويقوّض مشروع الثورة، لاسيما بوجود أطياف غير قليلة دخلت في الثورة والمعارضة وفيها من يتفق مع النظام ومنظومته وحلفائه؛ لكنّ إنهاء المأساة يتطلب إيقاف شحن الصراعات والنزاعات الهدامة، وإيقاف التشظي وكبح خطاب التخوين والتشكيك والتشهير؛ لما يتيحه من فساد الراي وفوضى العمل وسوء الظن، ولما يجلبه من خلافات تقلل فرصة الوصول لحل نافع جامع قائم على ثوابت مشروع التحرر والاستقلال  وإسقاط النظام ومنظومة الاستبداد.

الذين يروجّون فكرة انهزام الثورة، ينطلقون من فشل شخصي، أو رؤية ضيقة  للثورة؛ فالثورة لا تنتصر او تنهزم بيومين أو ثلاثة هي حالة مستمرة متسعة. وإن لم يحصل اندماج حقيقي بالذات الجمعية ونسج عقد اجتماعي يتدبر أمور الاختلاف والائنلاف ويكسر برنامج التجزئة وفوضى الولاءات السلبيّة، ويحتكم إلى الرؤية الوطنيّة، سيطول طريق الآلام والدماء. العقيدة التي يحتاجها الشعب وطنيا هي التفاهم وإيمانه بذاته كسوري وبحضارته المتنوعة الجامعة، وثقته بقدرته على صناعة مصيره وبلورة موقف وطني جامع بعيد عن الانتماءات الضيقة. بالتأكيد على أنّ  جزءًا من الحل يكمن في التكيّف السياسي الإيجابي ضمن موازين القوى عبر التفاوض استنادا إلى المقاومة الوطنيّة وإجماع  شعبي داعم.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس