أ. محمد حامد - خاص ترك برس

بحسب التصريحات الأخيرة التي صدرت عن مسؤولين كبار في كل من أنقرة وتل أبيب، فإن تطبيع العلاقات بين البلدين بات أمرا محسوما، بعد اتفاق الجانبين على حلول لجميع النقاط الخلافية بينهما، ولم يتبق سوى بعض تفاصيل فنية. ويبقى السؤال المطروح ماذا قدمت تركيا من تنازلات لإسرائيل من أجل التوقيع على اتفاق التسوية.

منذ حادثة اعتداء البحرية الإسرائيلية على السفينة التركية مافي مرمرة، وبعد صدور تقرير لجنة بالمار التابعة للأمم المتحدة لبحث ملابسات الحادث، وضعت الإدارة التركية شرطين للمصالحة مع إسرائيل، وإنهاء الأزمة الدبلوماسية معها: تقديم اعتذار إسرائيلي رسمي عن الاعتداء على مرمرة، ودفع تعويضات مالية لأسر الضحايا، وفيما بعد أضاف الرئيس رجب طيب أردوغان، شرطا ثالثا وهو رفع الحصار الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة.

كان من الواضح منذ بداية الأزمة أن كلا الطرفين لا يرغب في مزيد من التوتر والتصعيد، بحيث لا تصل الأمور بينهما إلى مرحلة القطيعة الكاملة، فتركيا تدرك الدور الذي يمكن أن تلعبه إسرائيل في تعزيز علاقات تركيا بالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وترغب في إبعاد إسرائيل عن دعم حزب العمال الكردستاني الإرهابي، إلى جانب رغبتها في الحصول على الغاز الإسرائيلي لاسيما بعد الأزمة مع روسيا بوتين. وفي المقابل تنظر إلى إسرائيل إلى تركيا بوصفها القوة الإقليمية الأهم في مواجهة المحور الشيعي بقيادة إيران، والتصدي للتوسع الإيراني في الشرق الاوسط، وأنها قد تكون بوابة إسرائيل لإقامة علاقات مع الدول العربية.

وعلى ذلك بدأ الجانبان مفاوضات سرية في مرحلة مبكرة، أعلن عنها لأول مرة  المتحدث باسم  الخارجية الإسرائيلية يوسي ليفي في كانون الأول/ ديسمبر 2010، وطرحت تركيا شروطها للتطبيع، بينما تحدثت إسرائيل في تلك المرحلة عن صفقة شاملة تشمل عودة العلاقات الدبلوماسية الكاملة، وأن تتراجع تركيا عن استخدام حق النقض في حلف الناتو ضد فتح مكتب اتصالات إسرائيلي في بروكسل، وفي مرحلة لاحقة بدأ الحديث في وسائل الإعلام الإسرائيلية عن شرط جديد يتمثل في إغلاق مكتب حركة حماس في إسطنبول.

مثل مطلب الاعتذار الرسمي لتركيا عن الاعتداء على مرمرة العقبة الأولى في مفاوضات المصالحة،وبات من الواضح أن تركيا لن تساوم حول هذا الشرط، فبالنسبة للأتراك تعد الكرامة التركية عنوانا للهوية الوطنية، ولذلك فإن أردوغان الذي يرغب في إعادة أمجاد تركيا، كما يقول المحلل الإسرائيلي شاؤول مناشيه، لن يتجاوز عن الإهانة التي لحقت ببلاده جراء مقتل تسعة من مواطنيها. أما الموقف الإسرائيلي عند بدء المفاوضات فعبر عنه موشيه يعالون وزير الشؤون الاستراتيجية، في ذلك الوقت، حين قال "معاذ الله أن نعتذر لتركيا، فالكرامة الوطنية ليست مصطلحا من الشارع، ولكنها مصطلح له معنى استراتيجي".

الرفض الإسرائيلي لتقديم اعتذار إلى تركيا، في المرحلة الأولى من المفاوضات، فسره يعالون ونتنياهو بأمرين: أولهما أن ذلك سيعزز من مكانة أردوغان كزعيم إقليمي نجح في تركيع إسرائيل وإجبارها على الاعتذار في سابقة هي الأولى من نوعها، والثاني أن تقديم الاعتذار لن يمنع تركيا من تقديم لائحة اتهام ضد كبار الضباط في الجيش الذين شاركوا في الاعتداء على مرمرة.

تقول جاليا ليندينشتراوس الباحثة في معهد أبحاث الأمن القومي والخبيرة في الشأن التركي "أدركت الحكومة الإسرائيلية أن أردوغان لن يتراجع عن شرطه بتقديم الاعتذار ودفع التعويضات، وصار من الواضح بالنسبة لها على ضوء المفاوضات مع الجانب التركي أنه بدون تقديم الاعتذار لن يحدث أي تحسن في العلاقات". ولهذا السبب سعت لأن يتم ذلك بصورة تحفظ ماء وجهها أمام الإسرائيليين، فاستغلت زيارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما للمنطقة في آذار/ مارس عام 2013، وسوقت الاعتذار الذي قدمه نتنياهو لأردوغان على أنه جاء نتيجة ضغوط أمريكية مورست على إسرائيل، حتى يتقبله الرأي العام الإسرائيلي.

 كان الاعتذار الإسرائيلي تطورا جوهريا كخطوة أولى من جانب إسرائيل، ثم جاءت الخطوة التالية في شهر ديسمبر الماضي حين كشفت القناة العاشرة الإسرائيلية، وهذا ليس بعيدا عن توجيهات الحكومة الإسرائيلية، عن التوصل إلى اتفاق مبدئي بين تركيا وإسرائيل ينص على تطبيع العلاقات، وعودة السفراء بين تركيا وإسرائيل، وإنشاء صندوق إسرائيلي لدفع تعويضات لذوي الضحايا الأتراك، في مقابل إسقاط كافة الدعاوى القضائية التركية ضد الضباط الإسرائيليين، ومنع أي نشاط عسكري لحركة حماس انطلاقا من تركيا، والبدء في مفاوضات حول مد خط غاز إسرائيلي عبر تركيا، بالإضافة إلى تزويد تركيا بالغاز.

استخدمت تركيا بدهاء ورقة إدانة كبار قيادات الجيش الإسرائيلي، وفي مقدمتهم رئيس الأركان السابق جابي أشكنازي، وعاموس يادلين رئيس الاستخبارات العسكرية السابق وإليعيزير تشيني قائد القوات البحرية السابق، فهي تعلم من ناحية الحساسية الكبيرة في إسرائيل تجاه الجيش، وأن أحكام الإدانات ستحد من حركة هؤلاء القادة خارج إسرائيل، ولكنها تعلم من ناحية ثانية أنها لن تتمكن من تنفيذ هذه الأحكام سواء في تركيا أو خارجها، ولذلك فإن التراجع عنها لن يضيرها شيئا، أو يتسبب في إحراجها أمام الرأي العام التركي أو العربي.

بقيت العقبة الكبرى في طريق توقيع اتفاق التسوية والمتمثلة في الشرط التركي برفع الحصار عن قطاع غزة. وبحسب تقرير لمعهد الأمن القومي الإسرائيلي، فإن إسرائيل لا ترغب في الإعلان عن موقفها الرسمي بقبول طلب تركيا بإقامة ميناء بحري في غزة بسبب معارضة مصر والسلطة الفلسطينية فضلا عن الاعتبارات الأمنية. لكن الراجح بعد تصريح وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شطاينيتس، ومستشار الرئيس أردوغان إرشاد هوورموز أن الجانبين قد توصلا إلى توافق أبدت تركيا من خلاله مرونة بإرجاء الحديث عن فتح ميناء بحري في غزة إلى ما بعد عودة العلاقات، على أن يرفع الحصار تدريجيا  بأن تسمح إسرائيل أولا بدخول السفن التجارية التركية التي تحمل المساعدات ومواد البناء، ووضع سفينة عائمة  لتوليد الكهرباء، والاكتفاء في هذه المرحلة بإنشاء ميناء عائم قبالة غزة.

إسرائيل وتركيا على أبواب صفحة جديدة في العلاقات بينهما، لكن من المستبعد أن يعود الدفء إلى العلاقات مثلما كان الحال في عقد التسعينيات من القرن الماضي، إذا استمرت السياسة التي تنتهجها الحكومات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، وهو ما لن تقبله تركيا أردوغان.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس