حسن أبو هنية - عربي 21

لم تكن الهجمات الانتحارية على مطار أتاتورك في تركيا حدثا عاديا كالهجمات السابقة التي تناوب على تنفيذها حزب العمال الكردستاني وتنظيم الدولة، فقد جاءت الهجمات عقب تحولات عميقة طالت السياسة التركية وإعادة التموضع في منطقة باتت الفوضى سمتها الأساسية، وعلى الرغم من عدم تبني أي جهة للهجمات إلا أن تركيا والولايات المتحدة أكدتا على أن تنظيم الدولة يقف خلفها دون شك، الأمر الذي ينطوي على ضرورة إعلان تركيا حالة حرب صريحة مع التنظيم وتبدل الأولويات الاستراتيجة للأمن القومي التركي من حزب العمال الكردستاني وحلفائه إلى تنظيم الدولة وشركائه، وهي رؤية طالما شددت عليها واشنطن.

لا جدال بأن الهجمات الانتحارية الثلاث التي هزت مطار "أتاتورك" في 28 حزيران/ يونيو الماضي وأسفرت عن مقتل 44 شخصا وإصابة 239 آخرين تحمل يصمات تنظيم الدولة، كما أن القدرة التشغيلية لتنفيذ هجمات منسقة تتوفر لدى التنظيم أكثر من أي جهة أخرى، ومع ذلك لا يزال التنظيم يتحفظ على إعلان مسؤوليته لخلق حالة من الجدل والانقسام داخل تركيا ويبعث برسائل مرعبة حول الكلفة المستقبلية الكبيرة لتحولات السياسة التركية بعودة العلاقات مع روسيا وتطبيع العلاقات مع إسرائيل والارتخاء في التعامل مع مسألة رحيل الأسد ومستقبل سوريا، وإعادة النظر في التعامل مع الأحزاب الكردية السورية.

عقب الهجمات أعلن رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم أن الدلائل التي جمعتها قوات الأمن التركية تشير إلى تورط تنظيم "داعش" الإرهابي في هذه العملية، ثم أعلنت تركيا أن منفذي الهجمات الثلاثة مواطنون من روسيا وجمهوريتي أوزبكستان وقيرغيزستان في آسيا الوسطى، وقد اعتقلت الشرطة 13 شخصا للاشتباه في علاقتهم بالهجوم بينهم أجانب، وجاء في وسائل الإعلام التركية أن مدبر الهجوم هو أحمد شاتاييف وهو شيشاني يقوم بالتجنيد لصالح تنظيم الدولة، وهو على قائمة الولايات المتحدة الخاصة بمكافحة الإرهاب، وقد أكدت الولايات المتحدة أن العقل المدبر لهذه العملية هو شخص مقرب ممّا يسمى بوزير الحرب بداعش في الرقة بسوريا، واسمه أحمد شاتاييف (المعروف بلقب أبو ذراع) وكان يعتبر العدو الأول للدولة في الشيشان.

هكذا فإن هجمات مطار أتاتورك تحدد طبيعة التحولات في السياسة التركية، فالولايات المتحدة ترغب بتعاون تركي أكبر في حرب تنظيم الدولة وإرجاء الحرب على الأحزاب الكردية باعتبارها شريكا في حرب الإرهاب، وتبعث برسالة واضحة حول قدرة أمريكا بمساعدة تركيا في هذا المجال من خلال قدراتها العسكرية والاستخبارية الديبلوماسية وتشدد على أن روسيا لا يمكن أن تقوم بهذا الدور، ومنذ الإعلان عن تشكيل التحالف الدولي بقيادة أمريكا ضد تنظيم الدولة في أيلول/ سبتمبر 2014 سعىت واشنطن إلى إقناع أردوغان بالسماح لقوات لتحالف باستعمال قاعدة انجرليك الجوية في جنوب تركيا لشن الغارات الجوية واستخدام المجال الجوي التركي، كما طالبت أنقرة بفرض قيود أكثر صرامة على تدفق الجهاديين ومسألة التمويل عبر تركيا إلى سوريا والعراق، بالإضافة إلى المطالبة بحرية حركة مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية المواليين للولايات المتحدة، إلا أن تركيا كانت متمسكة بأولويات مختلفة كتطبيق إقامة منطقة عازلة آمنة وتنفيذ حظر جوي، وتقديم ضمانات من حلف شمال الاطلسي إذا تعرضت تركيا لهجوم، والإصرار على عملية سياسية تبدأ برحيل الأسد. 

لقد أصبحت مرتكزات السياسة التركية السابقة من الماضي، لكن تنظيم الدولة لا يزال يراهن على علاقة مع تركيا تشبه الحرب الباردة ويرغب بديمومة العلاقة التي استندت إلى تفادي دخول الطرفين حرب بعضهما البعض، فعندما حاصر التنظيم أرضاً تركية في سوريا عام 2014 لم يستولِ عليها، كذلك، كما تجنبت تركيا الانضمام إلى الولايات المتحدة في محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية"، وعندما صعدت تركيا حربها على التنظيم دخل الطرفان في حرب محدودة، وعندما تدخلت تركيا عام 2015 لمساعدة الولايات المتحدة في حرب التنظيم نفّذ التنظيم عدداً من الهجمات الصغيرة في مدينة أسطنبول استهدفت الأجانب، كما هاجم مكونات كردية.

استراتيجية تنظيم الدولة في التعامل مع تركيا لا تزال لا تتبنى الهجمات رسميا لخلق حالة من الشك في السياسة التركية من خلال إثارة الانقسامات المجتمعية بين مؤيدي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ومعارضيه، وبين القوى اليسارية واليمينية وبين الأتراك والأكراد وبين العلمانيين والمحافظين، وهي السياسة الأثيرة لدى تنظيم الدولة في كافة مناطق وجودها.

لا تزال تحولات السياسة التركية في بداياتها، وقد جاءت الهجمات الأخيرة انعكاسا لتلك التحولات التي بدأت في السابع والعشرين من حزيران/يونيو 2016 حين أعرب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان علناً عن أسفه لموسكو عن الحادث الذي وقع في تشرين الثاني/نوفمبر 2015 والذي أسقطت فيه تركيا طائرة عسكرية روسية داخل مجالها الجوي، وفي 29 حزيران/ يونيو صادقت تركيا وإسرائيل على اتفاق للمصالحة يؤدي إلى تطبيع العلاقات بينهما بعد ست سنوات من الجمود الدبلوماسي، وفي 22 حزيران/ يونيو 2016 أعلن رئيس الوزراء  التركي يلديريم أن "تركيا ستعمل على توسيع التعاون مع إيران"، وأشار إلى أن "هناك أهمية خاصة لهذه العلاقة بالنسبة للحكومة التركية، وينبغي استخدام جميع القدرات في تطوير العلاقات بين البلدين"، وهناك إشارات بإعادة النظر في العلاقة مع مصر السيسي. 

خلاصة القول أن السياسة التركية تعبر حقبة من التحولات من خلال بوابة حرب الإرهاب، وهي حقبة تتسم بالبراغماتية الشديدة تقوم على حسابات الكلفة/ المنفعة دون الركون إلى منظورات مثالية وأهداف يوتوبية، إلا أن سياساتها ستبقى دون مغامرات أو مبادرات كبرى فهي ستعمل على الحفاظ على علاقات جيدة مع كافة الأطراف وفق حسابات دفع الضرر بالدرجة الأولى ومحاولة جلب المنافع قدر الإمكان، ذلك أن المرحلة الحالية لا تحمل في طياتها مكاسب مؤكدة، وهكذا فإن تركيا سوف تصبح مقيدة أكثر في خياراتها.

عن الكاتب

حسن ابو هنية

باحث أردني ومختص في شؤون الحركات الإسلامية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس