مناف قومان - نون بوست

تنعكس حالة عدم الاستقرار والغموض في أي بلد على الاقتصاد سلبًا وبشكل مباشر وتشكل لأجهزة الدولة صدمة مفاجئة تتضاعف تبعاتها مع مرور الوقت فيما لو لم تتحسن الأوضاع وبقاء حالة الغموض مستمرة.

وفي هذه الحالة لا توجد دولة على الكرة الأرضية بمنأى عن هذه التداعيات فالاقتصاد ليس جزءًا منفصلًا عن الدولة والحياة العامة حتى لا يتأثر بالشاردة والواردة، بل الاقتصاد كائن متجانس مع الدولة والحياة العامة يتأثر بكل ما يجري في الدولة سلبًا وإيجابًا وتختلف درجة التأثر باختلاف حدة الظرف الذي تمر فيه الدولة.

وجملة الكلام عن تأثر الاقتصاد تعني؛ تأثر قيمة العملة المحلية وسعر صرفها أمام العملات الصعبة وتوجه الأنظار للبنك المركزي المصدّر للعملة لرؤية انعكاس ذلك على سياسته النقدية، فهل تكون مرنة! أم غير ذلك، ومن ثم حركة الملاحة الجوية والبرية والبحرية وأثر الاضطراب على حركة الصادرات والورادات.

وحركة البورصة أو سوق الأوراق المالية التي تمثل هيبة وواجهة البلد المالية وكيف ستنعكس حالة عدم الاستقرار على حركة الأسهم والسندات والاستثمارات! وهي أمر خطير يخص البلد ففي حالة شعور المستثمر المحلي والأجنبي على حد سواء باستمرار حالة عدم الاستقرار فإنه سيعمد إلى سحب أمواله من البنوك المحلية وتصفية مواقعه المالية في البورصة وهذا مؤشر خطير على سلامة الاقتصاد.

وكذلك السياحة، فبعد أي حالة اضطراب وخصوصًا في حالات التفجيرات فإن وزارات الخارجية تحذر رعاياها من السفر لذلك البلد أضف أن السائح نفسه يزيل البلد الغير مستقرة من قائمة البلدان التي ينوي زيارتها لإنها قد تشكل خطرًا على حياته.

ووقوفًا على ما سبق ذكره فإن ما حصل في تركيا في 15 يوليو/ تموزمن انقلاب عسكري للجش على الحكومة يستدعي الانتباه والتحليل لرؤية التداعيات الاقتصادية الفورية التي حدثت للاقتصاد التركي وكيف تعاملت معها أجهزة الاقتصاد.

انقلاب عسكري حدث ليلًا وفشل صباحًا

ما قبل الساعة 12 من مساء يوم الجمعة شهدت العاصمة التركية أنقرة وأهم مدن البلاد إسطنبول حركة غريبة ومستهجنة تخللتها طلعات جوية في سماء العاصمة بطائرات اف-16 المقاتلة ودخول دبابات الجيش إلى اسطنبول ومحاصرة مقرات الدولة الرئيسية ومرافقها.

لم تكن المعلومات لما يجري واضحة في تلك اللحظة، سوى مجيء سيل من الأخبار على وسائل التواصل والقنوات الإخبارية حول "ماذا يجري في تركيا؟" حتى جاء الخبر اليقين وفق ما أعلنته قنوات "تي آر تي" الرسمية في البلاد التي تم السيطرة عليها من قبل الانقلابيين لتعلن "انقلاب للجيش" بذريعة "حماية الديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان" ومن ثم قراءة البيان رقم واحد "بفرض الأحكام العرفية في البلاد وفرض حظر التجول"، تبعها السيطرة على مطار أتاتورك وجسري البوسفور ومحمد الفاتح، واحتجاز "خلوصي أكار" قائد الأركان في الجيش والعديد من الضباط والمدنيين العاملين في الهيئات المختلفة التي حاصرها الانقلابيون.

وبعدها جاءت تغريدات رئيس الوزارء "بن علي يلدريم" على تويتر مبينًا فيها الوضع القائم في البلاد "محاولة انقلاب داخل الجيش وقوات من الجيش تنتشر في مناطق عدة في اسطنبول، وتوعد الضباط الذين تحركوا دون أوامر حكومية بأنهم سيدفعون الثمن غاليًا".

تم تعليق حركة الملاحة الجوية والبحرية والبرية لأسباب أمنية تتعلق بالانقلاب الحاصل، وفي ذلك الوقت انتشرت حالة من الهلع أصابت المواطن والأجنبي في طول البلاد وعرضها حول مصير الحكومة والرئيس وما ستؤول إليه البلاد فتحقق الغموض وعدم الاستقرار حتى اللحظة التي خرج فيها الرئيس رجب طيب أردوغان في مكالمة على تطبيق الفيس تايم ومكالمة أخرى على برنامج سكايب ليعلن أن هذه المحاولة الانقلابية فاشلة وستفشل، ودعى جموع الشعب التركي للنزول إلى الميادين العامة في كافة أرجاء تركيا وإلى مطار أتاتورك لحماية الشرعية والديمقراطية في البلاد.

التداعيات الاقتصادية

لحظة تأكد أن هناك انقلاب عسكري حاصل على الحكومة التركية، انخفضت الليرة التركية إلى أدنى مستوى في ثلاثة أسابيع أمام الدولار في أواخر التعاملات في سوق نيويورك يوم الجمعة حيث هبطت الليرة أكثر من 5% أمام الدولار ليتم تداول الدولار عند 3.0415 ليرة، وتراكض الناس إلى ماكينات سحب المال المصرفية المنتشرة في الشوارع كما أكد الناس المتواجدين في ميدان تقسيم في تلك اللحظة.

لم يصدر المركزي أي بيان أو إعلان حول حادثة الانقلاب وانعكاساتها على الليرة بحكم أن يومي السبت والأحد عطلة رسمية في البلاد كما أبقى المركزي سعر صرف الليرة أمام الدولارعند 2.8834 كما يظهر على الموقع المخصص له.

ومن المتوقع أن يقوم المركزي يوم الإثنين أول أيام عمل الأسبوع في تركيا بطرح كميات دولارية في الأسواق لتعديل سعر الصرف، ويبقى عودة سعر الصرف للمستويات المستهدفة لديه مسألة وقت لا أكثر.

ومن غير المتوقع أن يعدل أيًا من سياسته النقدية أو يجري تغيير على سعر الفائدة بسبب انتهاء الأزمة وعودة حالة الاستقرار للبلاد، ومما لا شك فيه أن المستثمر الأجنبي ينتظر إجراءات المركزي وقراراته في الأسبوع القادم، علما أن تركيا تعرضت لتفجيرات وحالات كثيرة أعطت أجهزة الدولة وخصوصًا المركزي المرونة الكافية للتعامل مع هكذا أزمات.

وفيما يخص الملاحة البحرية فقد قررت السلطات البحرية التركية إغلاق مضيق البوسفور بسبب حالة عدم الاستقرار في البلاد حيث بررت شركة الملاحة التركية سبب الإغلاق ب"أسباب أمنية".

إلا أن السلطات البحرية التركية عادت في يوم السبت 16 يوليو/ تموز لتؤكد أن حركة مرور السفن عادت لوضعها الطبيعي وتم فتح الممر أمام ناقلات النفط و"البضائع الغير خطرة".

ويكتسي مضيق البوسفور أهمية استراتيجية عالمية فحسب بيانات وزارة الطاقة الأمريكية للعام 2013 فإنه تم نقل نحو 2.9 مليون برميل يوميًا عبر مضيق البوسفور من منطقة بحر قزوين إلى أوروبا.

وهذا ما يفسر ارتفاع أسعار النفط بأكثر من 1% في التعاملات اللاحقة يوم الجمعة حيث ارتفعت عقود خام مزيج برنت إلى 48.08 دولار للبرميل بعد أن كانت سجلت 47.61 دولارعند التسوية، أما عقود غرب تكساس فقد ارتفعت إلى 46.28 للبرميل من 45.95 دولار.

ويذكر أن التأثير على أسواق النفط العالمية بقي محدودًا لسببين؛ الأول يتعلق بفترة إغلاق المضيق القصيرة حيث عاود الممر للعمل مجددًا والسبب الآخر أن أسواق النفط العالمية أخذت شبه مناعة من الأحداث العالمية التي تأثر على ممرات وإمدادات الطاقة العالمية لذا لا يكون التأثر فيها مبالغًا كما كان يحصل سابقًا.  

وفيما يخص الحركة الملاحية الجوية فقد ألغيت جميع الرحلات من مطار أتاتورك الدولي في اسطنبول بعد إعلان الجيش توليه السلطة في البلاد، وتم تعليق رحلات المغادرة منذ الساعة 20:31 بتوقيت غرينتش يوم الجمعة، وعلق آلاف المسافرين في المطارات التركية بعد تعليق الرحلات.

 وبدأت شركات الطيران الدولية تعلن تباعًا عن تعليق كافة رحلاتها إلى تركيا حيث كانت البداية من إيران عندما أعلنت تعليق كل رحلاتها الجوية إلى تركيا ومن ثم شركة طيران الإمارات وشركة الطيران اليونانية وغيرها من الشركات الأخرى، كما حذرت كل من كوريا الجنوبية والولايات المتحدة رعاياها من التوجه نحو تركيا وتوخي الحذر والحيطة لكل الرعايا الموجودين في تركيا كما فعلت ذلك معظم الدول العربية.

ولكن حركة الطيران في المطار عادت للانتظام في وقت قياسي وأصدرت شركة الطيران التركية بيانًا حول حركة السفر والطيران وتأجيل الرحلات ودعت جميع المسافرين على متن خطوطها إلى متابعة آخر التطورات فيما يتعلق بمواعيد السفر.

والجدير بالذكر أن مطار أتارتورك هو أكبر مطارات تركيا وقد بلغ عدد المسافرين عبر المطار أكثر من 25 مليون مسافر في العام 2008 ويعد من أكثر المطارات ازدحامًا في أوروبا ويصنف التاسع عالميًا. 

مما لا شكل فيه أن هناك خسائر زمنية أثناء حالة عدم الاستقرار التي حصلت مساء يوم الجمعة وصباح يوم السبت، بعضها تحقق ويمكن تعويضه وبعضها لم يتحقق، ففي حالة رحلات الطيران المعلقة فإنها أجلت لوقت آخر بعد فتح المجال الجوي أمام رحلات الطيران والأمر ينطبق بالمثل على حركة الملاحة البحرية والبرية أما الرحلات التي ألغيت فبحكم عودة المطار للعمل فشركة الطيران التي ألغت الرحلة ستحجز لركباها في موعد آخر للتعويض عن الرحلة الملغاة.

أما فيما يتعلق في الانخفاض الحاصل في قيمة الليرة التركية فقد تحقت الخسارة، ويُنتظر من البنك المركزي تطبيق إجراءات عملية للحد من تدهور الليرة أكثر، ومن الممكن أن يظهر السوق انحسارًا في الخسائرعلى سبيل التصحيح بعد استقرار البلاد ولو نسبيًا بسبب فشل الانقلاب.

ومن حسن حظ البورصة أن الحدث حصل ليلًا وقت إغلاق الأسواق المالية (البورصة التركية) واستيقظت الأسواق على يومي السبت والأحد وهما عطلة رسمية في البلاد أي لا وجود للتعاملات في سوق البورصة ما يخفف من حدة الصدمة عليها، ومن غير المتوقع أن ينسحب المستمثرين من مواقعهم الاستثمارية في البورصة غدًا الإثنين لإن الانقلاب فشل والأمور عادت لطبيعتها ولا وجود لمخاوف تهدد عمل الشركات والمؤسسات والأفراد.

خلاصة القول أنه مما لا شك فيه أن حدث كالانقلاب لو نجح كان سيؤدي إلى نزيف كبير في الاقتصاد التركي وهدم لمنجزات وإصلاحات تحققت على مدى السنوات الماضية ولكن فشل الانقلاب ووالوعي الذي تبدى من الشعب أفرادًا ومؤسسات والمرونة وحسن التدبير من قبل البرلمان والحكومة وأجهزة الدولة سترفع من الثقة في الاقتصاد التركي فيما بعد انحسار الأزمة كليًا والمسير قدمًا نحو تحقيق أهداف الحكومة واستراتيجيتها في الأعوام المقبلة.

عن الكاتب

مناف قومان

كاتب سوري، ماجستير اقتصاد سياسي في الشرق الأوسط


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس