منذر فؤاد - خاص ترك برس

لا يزال البعض يصر على أن هزيمة حلب جرت وفقًا لاتفاق تركي روسي أو بالأصح صفقة تركية روسية، فحواها تسليم حلب للنظام مقابل تسليم مناطق في الريف الحلبي لقوات درع الفرات المدعومة تركيًا، وهذا الكلام يبدو غير منطقي إذا تتبعنا الأحداث في حلب خصوصًا في الفترة الاخيرة عقب سقوط طريق الكاستيلو بيد ميليشيات إيران وعناصر الأسد منذ نحو ستة أشهر، وإطباق الحصار على المدينة، وما تلا ذلك من عملية عسكرية واسعة بمشاركة جوية كثيفة جدًا وغير مسبوقة للطيران الروسي، بمباركة دولية وخذلان عربي وإسلامي، كل هذه الأحداث المتسارعة تكشف عن نية حقيقية للنظام وحلفائه لاستعادة حلب عسكريًا، بعيدًا عن ما يشاع عن تسليم للمدينة.

من ينتقدون تركيا كان الأولى بهم انتقاد الأنظمة العربية التي لم تتحرك لحماية الشعب السوري منذ خمسة أعوام، فضلًا عن قيام بعض هذه الأنظمة بالمشاركة في مساندة الأسد ضد الثورة السورية، ولن نذهب إلى أبعد من التقارير التي تحدثت مؤخرًا عن تدخل عسكري مصري لدعم النظام السوري في الحرب الظالمة التي يشنها على الشعب السوري، كما ينبغي ألا نغفل كيف أن دول عربية شاركت في الحرب على تنظيم الدولة، وتناست المجرم الحقيقي الذي وفّر حاضنة لنمو الإرهاب بعد أن مارسه على أجساد السوريين.

تركيا قدمّت الكثير للسوريين منذ اندلاع الثورة، ولا ننسى أنها استضافت نحو ثلاثة ملايين مواطن سوري نزحوا من الحرب في إطار سياسة الأبواب المفتوحة، وهذا العدد يوازي عدد اللاجئين في الدول العربية مجتمعة، كما أن تركيا فتحت أبواب العمل لكثير من السوريين وعملت على الاستفادة من مهاراتهم وخبراتهم المختلفة، بينما نجد أن هناك سوريين يقيمون في دول عربية كمصر مثلًا تتم ملاحقتهم واعتقالهم في عهد الانقلاب العسكري، بعد أن كانوا يعيشون حياة هادئة بعيدًا عن حملات التخوين في عهد الرئيس مرسي.

صحيح أن هناك سوريين تعرضوا لإجراءات تعسفية في تركيا، وبعضهم وجد نفسه بلا مأوى بسبب عجز السلطات عن توفير الاحتياجات للكم الهائل من النازحين، لكن لم نسمع عن تعرض مخيماتهم لحملات أمنية واعتقالهم كما حدث في دول عربية.

السياسة التركية تجاه الثورة السورية تأثرت كثيرًا بالمصالح التركية والمتغيرات المتسارعة على أرض الميدان، وفي الأروقة السياسية، ومن الطبيعي أن الدول تبحث عن مصالحها أولًا وأخيرًا، فتركيا وجدت نفسها في واقع سياسي يفرض عليها التعاطي معه ومجاراته، حاول أردوغان تشكيل تحالف عسكري مع السعودية لمواجهة التحديات، لكن يبدو أن التركة التي ورثها نظام الملك سلمان لم تسمح له بالتخلص من الهيمنة الغربية، وإن حاول أن يسير في اتجاه مغاير لذلك.

مع مرور الوقت أصبحت تركيا تواجه خطر الإرهاب الذي استطاع الوصول إلى قلب إسطنبول، في وقت كانت تتهم بأنها تدعم تنظيم الدولة الإسلامية، كما أن الخطر الكردي بإقامة كيان مستقل شكّل هاجسًا لتركيا دفعها لاتخاذ قرارات عسكرية بالتدخل في العراق وسوريا أيضًا، وفي خضم هذه التجاذبات واجهت السلطات التركية مؤامرة حقيقية في ليلة السادس عشر من يوليو/ تموز الماضي عندما وقعت المحاولة الانقلابية لعناصر من الجيش التركي، بتواطؤ غربي وعربي أيضًا، وهو ما دفع الأتراك لإعادة تقييم السياسة الخارجية وفقًا لما تقتضيه المصلحة التركية، فقررت إعادة العلاقات التجارية والاقتصادية بروسيا، كما قررت تفعيل العلاقات مع الكيان الصهيوني رغم استمرار الحصار على غزة.

خلال الأيام القليلة الماضية، وبينما كان سكان حلب يتعرضون لمجازر وحشية على أيدي العصابات الشيعية الإيرانية والعراقية واللبنانية وقوات النظام، كانت بعض وسائل الإعلام العربية تركز بشكل رئيسي على استغلال المذبحة لتشويه الدور التركي في سوريا، وشيطنة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهو ما يكشف مدى الإفلاس الأخلاقي لوسائل إعلامية لها ثقلها في المنطقة العربية.

نقطة أخرى مهمة تتمثل في الآمال الكبيرة التي يعلقها الكثير من المواطنين على الدور التركي في سوريا، والتي وصلت إلى اعتبار تركيا كما لو أنها تتمتع بنفوذ دولة الخلافة في السابق حتى تتدخل لفرض إرادة سلطتها، وإزاحة نظام الأسد، متجاهلين أن تركيا دولة ضمن أكثر من خمسين دولة إسلامية لها دورها المحدود في جملة من القضايا ومنها سوريا.

وبالحديث عن عملية درع الفرات التي تدعمها تركيا على حدودها مع سوريا، والتي يثار حولها الجدل وأنها كانت سببًا لسحب المقاتلين إليها، وترك جبهات حلب، فمن المهم التأكيد على أن العملية العسكرية جاءت لمصلحة تركيا والثورة السورية في وقت واحد، فتركيا تدفع بكل ثقلها لمنع تشكيل كيانات مستقلة لتهديد وحدة أراضيها، كما أن المستهدفين من عملية درع الفرات هم في حالة عداء مع الجيش الحر الذي يسعى إلى استرداد المناطق الحدودية مع تركيا، لإنشاء منطقة آمنة مستقبلًا كما يصرّح بعض القادة العسكريين، أضف لذلك أن انسحاب المقاتلين من جبهات حلب إذا كان صحيحًا فإن المسؤولية تقع على عاتق القيادات العسكرية للمعارضة السورية وليس تركيا.

الأتراك قدموا للثورة السورية وللشعب السوري ما ينبغي عليهم القيام به تجاه إخوانهم وجيرانهم السوريين كواجب شرعي وإنساني، بينما لم يكترث العرب كثيرًا، فمصر السيسي تعمل على إعادة العلاقة مع النظام السوري وتطويرها، كما هو الحال مع تونس، بينما لم يرقى الدعم الخليجي إلى حجم المأساة السورية، وبالتالي من غير المعقول أن نلوم تركيا على تقصيرها تجاه سوريا إن حدث،بينما نحن العرب تجاوزنا مسألة التقصير إلى التآمر على الشعب السوري، ودعمه بالمقاتلين، ومساعدته على البقاء، فضلًا عن السكوت عن الجرائم التي ارتكبها بحق المسلمين في سوريا على مدى خمس سنوات، وعدم وجود تحركات جدية لوقف شلال الدم.

عن الكاتب

منذر فؤاد

كاتب ومدون يمني، إنسان ينتمي للإنسان في زمن اللانسانية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس