د. وسام الدين العكلة - خاص ترك برس

لا شك أن هناك الكثير من الأسباب المباشرة وغير المباشرة التي دفعت القيادة التركية لزج قواتها في معركة يصعب التنبؤ بطول أمدها أو نتائجها على المدى القريب، لكن هل يمكن لهذه الأسباب أن تبرر إلى حد ما للرأي العام التركي الخسائر البشرية التي يتعرض لها الجيش التركي هناك؟ سؤال ربما لم يطرح بقوة بعد بالمقارنة مع حجم هذه الخسائر التي حصلت في صفوف الجنود الأتراك حتى هذه اللحظة، لكن يبدو أن الاستراتيجية التي يتبعها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) حاليًا تجاه الجيش التركي الموجود في شمال سوريا خاصة على أطراف مدينة الباب تشير إلى سعي التنظيم إلى إلحاق أكبر أذى بين صفوف الجنود الأتراك خاصة على المستوى البشري، وينفذ هذه الاستراتيجية من خلال استخدام العربات المفخخة والانتحاريين على حد سواء لإثارة الشارع التركي ضد قيادته ودفعه للمطالبة بسحب القوات التركية من أتون هذه المعركة، وهذه الاستراتيجية تبرر تمسك التنظيم وتشبثه بمدينة الباب إلى أطول أجل ممكن والرهان على حصول خلافات مع الأطراف الأخرى ( قوات النظام - الميليشيات الكردية) الساعية للسيطرة على هذه المدينة في حال انسحابه منها.

مـبـررات الـتـدخـل الـسـيـاسـيـة

منذ بداية الثورة السورية حاول النظام السوري جر تركيا للتدخل العسكري والتورط في مواجهة مباشرة، وتمثل ذلك بإطلاق عدة صواريخ على الأراضي التركية وإسقاط الطائرة التركية في منتصف عام 2012، لكن المسؤولين الأتراك كانوا يدركون خطورة هذا التدخل بشكل منفرد وغير مدروس وبعيدًا عن التنسيق مع الحلفاء الدوليين أو على الأرض.

لكن التهديدات الإرهابية ضد تركيا بلغت ذروتها نهاية العام 2015 وبداية العام 2016 مع إعلان تنظيم الدولة الإسلامية الجهاد ضد تركيا وتحضيره لما سماه بتحرير القسطنطينية (إسطنبول) في إشارة واضحة إلى نيته نقل عملياته العسكرية إلى عمق الأراضي التركية ردًا على الغارات التي ينفذها الطيران التركي ضد مواقع التنظيم شمال سوريا والسماح لطائرات التحالف الدولي باستخدام القواعد العسكرية التركية لشن غارات على مواقعه، ومن خلال القذائف الصاروخية التي استهدفت عدد من المدن الحدودية التركية (غازي عنتاب - كلس) وراح ضحيتها العديد من المدنيين الأبرياء، ولم يعد الأمر يتوقف على بعض الحوادث الأمنية على الحدود بل وصل التهديد إلى العمق التركي مع  تنفيذ عدد من العمليات الإرهابية في قلب العاصمة السياسية للبلاد "أنقرة" والعاصمة السياحية "إسطنبول"، وقد أثبتت التحقيقات أن تنظيمي "داعش" وحزب العمال الكردستاني (PKK) الإرهابيين هما من يقفان وراء هذه العمليات في حين أشارت أصابع الاتهام إلى تورط المخابرات السورية في بعض هذه العمليات، الأمر الذي وضع القيادة التركية في مواقف محرجة داخليًا في ظل عدم إمكانية حماية مواطنيها من هذه الهجمات التي أثارت الرعب في صفوف المواطنين في العديد من المدن التركية وجعل كفة التدخل العسكري تغلب على الخيارات الأخرى. وهو ما غبر عنه صراحة الرئيس "رجب طيب أردوغان" قبيل انطلاق عملية "درع الفرات" بيوم واحد عندما أشار إلى استعداد بلاده لتطهير الجانب السوري من الحدود من أي وجود لتنظيم داعش، وتأكيده على بدء إجراء التحضيرات اللازمة لهذه العملية، مشيرًا إلى احتمال اتخاذ تركيا للإجراءات اللازمة لحماية حدودها بشكل منفرد إن لزم الأمر.

على المستوى السياسي كانت تركيا في تلك الفترة تعيش حالة من العزلة في ظل الأزمة الدبلوماسية التي شابت علاقاتها مع روسيا على خلفية إسقاط طائرتها الحربية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 على الحدود التركية - السورية فلم يكن بإمكانها اتخاذ أي قرار بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة هذه التنظيمات الإرهابية دون تنسيق مع الروس الذين يسيطرون على الأجواء السورية، وبالتالي فأي تدخل دون وجود مثل هذا التنسيق قد يكون له تداعيات كارثية من شأنها زيادة التوتر الموجود أصلاً بين البلدين حينذاك.

وما زاد الأمر سوءًا تنصل حلف شمال الأطلسي "الناتو" من مسؤولياته التي ترتب عليه حماية دولة عضو أساسي فيه يتعرض أمنها القومي باستمرار للتهديد، وخذلان الإدارة الأمريكية السابقة لتركيا وإصرارها على تقديم الدعم العسكري واللوجيستي لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني التركي ودعم مساعيه لإقامة كانتون على الحدود الجنوبية التركية.

هذه المعطيات وضعت القيادة التركية على مفرق طرق ودفعتها للعودة إلى تحسين العلاقات بينها وبين موسكو وهو ما حدث بعيد الاعتذار الذي قدمته أنقرة لموسكو وما أعقبه من زيارة الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" إلى روسيا ولقاء نظيره الروسي "فلاديمير بوتين" وكانت أول ثمار هذا التقارب العملية العسكرية التي شنها الجيش التركي تحت اسم "درع الفرات" لطرد تنظيم "داعش" من المناطق الحدودية لضمان أمن حدودها وإقامة منطقة آمنة تحمي مواطنيها من قذائفه الصاروخية، وتوقف تدفق المزيد من اللاجئين إلى أراضيها، وفي نفس الوقت تعزز من موقفها في الملف السوري.

ومن الأهداف التي تأتي على رأس قائمة عملية "درع الفرات" القضاء على آمال حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في إقامة كانتون انفصالي على الحدود التركية الجنوبية، والضغط على الولايات المتحدة لمنع تزويده بالسلاح وهو ما طالبت به أنقرة مراراً خاصة بعد أن ضبطت قوات الأمن التركية كميات كبيرة من هذه الأسلحة التي سبق وأن قدمتها الولايات المتحدة لـــ " قوات سوريا الديمقراطية " داخل الأراضي التركية بحوزة حزب العمال الكردستاني وتم استخدام بعضها ضد الجيش التركي وكان أخطرها صواريخ محمولة على الكتف مضادة للطائرات تم استخدامها في اسقاط مروحية تركية في ولاية هكاري جنوب شرق البلاد.

مـوقـف الـقـانـون الـدولـي الـعـام

تنص المادة الثانية (الفقرة 4) من ميثاق الأمم المتحدة على أنه (يمتنع أعضاء الهيئة جميعًا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد "الأمم المتحدة"...

إلا أن هذه المادة لا تنتقص من حق الدولة المعتدى عليها بالدفاع عن النفس تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهذا الحق تمنحه المادة (51) من الميثاق والتي تنص على أنه (ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء "الأمم المتحدة" وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي)، وطالما أن مجلس الأمن يعتبر شبه معطل بسبب التجاذبات السياسية داخله، فهذا الحق يبقى قائمًا للدولة التي يتعرض أمنها لاعتداء حقيقي أو وشيك الوقوع (أي الدولة التركية) وكل ما يترتب عليها في هذا المقام هو إبلاغ مجلس الأمن بالتدابير التي اتخذتها استعمالًا لحق الدفاع عن النفس.

أيضًا تعتبر تركيا جزء من التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية ويضم نحو 60 دولة عضو في الأمم المتحدة وهذا التحالف تم إنشاؤه بدعم من مجلس الأمن الدولي وهناك العديد من القرار التي أصدرها المجلس تحث الدول على بذل كل الجهود الممكنة لمحاربة الإرهاب ومن هذه القرارات 2170، و2178 و2195 لعام 2014 و2199، 2214، 2249، 2253 لعام 2015، و2309، 2322 لعام 2016.

ودعت الفقرة (5) من القرار 2249 لعام 2015 جميع الدول الأعضاء إلى اتخاذ التدابير اللازمة على الأراضي الخاضعة لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق وتكثيف وتنسيق جهودها الرامية إلى منع وقمع الأعمال الإرهابية التي يرتكبها تنظيم الدولة وجبهة النصرة وسائر الجماعات الإرهابية على النحو الذي يعينه مجلس الأمن وفقًا للقانون الدولي.

إلى جانب ذلك هناك اتفاقية موقعة بين الحكومة التركية والنظام السوري منذ العام 1998 وتسمى اتفاقية "أضنة" الأمنية منحت الجيش التركي بموجبها الحق في التوغل داخل الأراضي السورية لمكافحة الإرهاب الذي كان يستهدف الأمن القومي التركي حينذاك، والمتمثل بنشاط عناصر حزب العمال الكردستاني (PKK) الذي كان ينشط بقوة على الأراضي السورية.

بمعنى أن ما تقوم به الحكومة التركية داخل الأراضي السورية مغطى قانونيًا سواء على الصعيد الإقليمي أو الدولي بموجب اتفاقيات وقرارات صادرة عن مجلس الأمن الدولي الجهة المخولة دوليًا بحفظ السلم والأمن الدوليين وحماية الدول الأعضاء في هذه المنظمة الأممية.

الـمـتـطـلـبـات الإنـسـانـيـة

لا يقتصر التدخل العسكري التركي في الأراضي السورية على تحقيق مصالح سياسية لتركيا فحسب بل يتعداه إلى الجانب الإنساني لحماية اللاجئين وتوفير بيئة مناسبة لاحتواء التدفق المستمر للهاربين من القصف بالبراميل المتفجرة التي تلقيها مروحيات النظام على الأحياء السكنية خاصة في محافظة حلب حينذاك.

فالأتراك هم أول من اقترح إقامة مناطق آمنة للاجئين تحت حماية الأمم المتحدة داخل الأراضي السورية في وقت مبكر يعود إلى شهر أيلول/سبتمبر 2012 لكن هذا الاقتراح لم يلق آذاناً صاغية من المجتمع الدولي بل عارضته إدارة الرئيس الأمريكي السابق "باراك أوباما" لأسباب تتعلق باستراتيجيتها التي كانت تتبعها في إدارة الأزمة السورية ويبدو أن الإدارة الجديدة بقيادة "دونالد ترمب" بدأت تشعر بوجاهة هذا الطرح وربما تسعى لتحقيقه خلال الشهور المقبلة.

عن الكاتب

د. وسام الدين العكلة

دكتوراه في القانون الدولي العام


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس