د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

"أيها العرب والتّرك، أحذروا أولئك الّذين يُريدون أن يحيـّروكم وأن يبثّوا الشّقاق بينكم فيُوقِعوا بينكم، وانبذُوا الظّنون السّيّئة التي منشأها الجَهل، وتفهّموا بعضَكم البعض جيّداً. والعَالم الإسلامي قد حوّل أنظاره إليكُما، وحَصر آماله فيكما ينتظر اتّحادكما. وثّقوا العُرى القلبيّة التي تجمعُكم، وأحبّوا بعضكم بعضاً ما استطعتم حتّى تفوزوا برضا الله".

هذه الكلمات هي للكاتب العثمانيّ الكبير خليل خالد بك (1869-1931م) مَبعوث (نائب) أنقرة في مجلس المبعوثان العُثماني، والذي اشتغل أستاذًا بكليّة كمبـرج في انكلتـرة بين سنتي 1897و1911 م، وتنقل في مناطق عربية كثيرة مثل السّودان والجَزائر ومصر، وقد وجّهها إلى العرب والأتراك من أجل إصلاح ذات بينهم وتَصحيح النّظرة السّلبيّة المشوّهة لبعضهما البعض، ونبذ الظّنون السّيئة.

 وقد شخّص السّبب في "الجهل"، أي جَهل كلّ طرف بالطّرف الآخر. فالجَهل يقُود إلى الظّنون السّيئة والظّنون السّيئة تقود إلى الأحكام الخَاطئة، وهذه بدورها تقود إلى الجَفاء وربّما تَصل إلى الكراهيّة، وبالتالي اتّخاذ المواقف التي لا تخدم سِوى مصلحة الأعدَاء. فهل عرف العَرب والتّرك بعضَهم البَعض؟ وهل تخلّصوا من الجَهل، الجَهل بحقيقة بعضهم البعض؟ وهل صحّحوا الأخطاء؟

في كتاب صغير الحجم لكنّه مهمّ بعُنوان "العرب والتّرك" يشخّص هذا المثقّف التّركي، خليل خالد بك أسباب النّفور الذي كان سائدًا بين العَرب والأتراك أثناء الفترة التي عاشَ فيها، أي نهاية القَرن التّاسع عشر والثّلث الأوّل من القرن العِشرين. وهذه الفترة بلا شكّ حاسِمة ومحوريّة في تاريخ العلاقات العربيّة التركيّة، بحكم الأحداث المزلزلة التي وقعت فيها. ففي هذه الفترة عُقد مؤتمر برلين (1878م)، وفيها قرّرت القُوى العالمية الكبرى تقاسم أراضي الدّولة العثمانية في مُعاهدات بعضها خرج إلى العلَن وبعضها الآخر بقي طيّ الكِتمان ولم يُعلن عنه إلاّ في وقت لاحِق.

وفي هذه الفترة كذلك تم احتلال تونس (عام1881م) ومصر (عام 1882م) وطرابلس الغرب (1911م)  ثم العراق وسُوريا وفلسطين بعد الحرب العالميّة الأولى. كما أنّه في هذه المرحلة قامت ما سمي بــ"الثّورة العربية الكبرى" سنة 1916م، وأسفرت عن نتائج كارثيّة على العالم العربي. وفي هذه الفترة قامت الحرب العالمية الأولى، ثم كانت خاتمة هذه الأحداث المزلزلة انهيار الخلاقة الإسلامية في الآستانة عام 1924م وتشتّت العالم الإسلامي شذَر مذَر.

في هذه المرحلة الصّعبة والمعقّدة، لعبت القوى الاستعماريّة الفرنسيّة والبريطانيّة بشكل خاص على زرع بذور الفتن بين العَرب والأتراك، سواء في مشرق العالم العربي أو مَغربه، وتم التّركيز على فكرة أنّ الأتراك هم السّبب في تخلّف العَرب وأنّ العُثمانيّين كانوا مستبدّين وهضموا حقوق العَرب واستضعفوهم، والحلّ في التّخلص من نفوذهم بالتّحالف مع الغَرب. أما الأتراك فقد رأوا أن العرب هم الّذين طعَنوهم في الظّهر وخَانوهم بوقُوفهم مع الانكليز وتَحالفهم معهم، وظلت التّهم مُتبادلة بين الطّرفين.

ثم انتقلت هذه الأفكار وهذه القناعات إلى المناهج الدّراسية، ونشأت أجيال تردّد المقُولات نفسها دون أن يتم طرح السّؤال: ما مدى صحّة هذه الاتهامات المتبادلة؟ وإلى متى يظلّ التّاريخ المشوّه يتحكّم في مصائر الأجيال اللاحقة؟  

لاشك أنّ هناك أخطاء من الطرفين العربي والتّركي، وهذا شيء طبيعيّ في العلاقات البشريّة فالأحداث التي توالت على العالم الإسلامي في الرّبع الأول من القَرن العِشرين جَعلت الحليم حَيرانًا كما يُقال. وقد نبّه عدد من المثقّفين العربَ والأتراكَ في تلك الفترة إلى ضَرورة فهم الواقع والأحداث فهمًا صحيحًا، وأن تكون البَوصلة في أيّ تحرّك هو مَصلحة الأمّة الإسلامية بمكوّناتها وأعراقها كلّها.

ومن بين أبرز هؤلاء الزّعيم التّونسي عبد العزيز الثّعالبي (1874-1944م) والمثقّف العربي شكيب أرسلان (1869-1946م)، فقد رفضا رفضًا كاملاً التّوجه الذي كان سائدًا وموجة العداء للعثمانيّين التي اِنتشرت خصوصًا في منطقة المشرق العربي. وكانا يؤكدّان على ضرورة الحفاظ على وحدة الصّف الإسلامي ونبذ التفرّق، وجهود الرّجلين في هذا الموضوع كثيرة لا تَخفى.

وبالعَودة إلى النّداء الّذي وجّهه خليل خالد بك إلى العرب والأتراك، ألا نرى أنّ الاستجابة لها مازلت ضعيفة بعد 100عام من إطلاقها؟ ألا يحتاج العرب والأتراك إلى مزيد من الجُهد والجدّية من أجل القَضاء على "الجَهـل" ببعضهما البَعض ؟ وما هي السبل الكفيلة بتحقيق هذا الهدف باعتبار أن مصائر الشّعبين مترابطة ومتلازمة؟

يمكن القول بالتأكيد إن هناك مؤشّرات إيجابيّة على بداية فهم مُختلف عمّا كان سائدًا طوال عقودٍ من الزّمن، وأنّ عوامل لعبت دورًا مهمّا في هذا التّقارب العربي التّركي الذي نشهده اليَوم. بيد أن هذا التّقارب يبقى هشّا، ويمكن أن يتراجع في أيّ وقت تحت ضغط الأزمات لأن هذا التقارب قائم بشكل رئيس على أسسٍ اقتصاديّة وسياسيّة. وهذان العَاملان متغيرّان باستمرار لأن رجال الأعمال والسّياسيين هم الفَاعلين في هذه المجالات وليست الشّعوب. وعند أوّل أزمة سياسيّة ينهار كلّ شيء وتَعود الأمُور إلى الصّفر، والوَاقع يشهد بذلك.  

لكن عِندما تنتقل العَلاقة لتشمل الشّعوب والنخب المثقفة فعِندئد تصبح أكثر رسوخًا وأوسع تأثيرًا. والسّبيل إلى ذلك هو التّواصل العلمي والفِكري والثّقافي. فبِالمعرفة تتبدّد الأوهام والأساطير التي ظلّت لعقود تتحكّم في عقول النّاس. والمعرفة السّليمة القائمة على البرهان والحجّة هي وحدها القادرة على إزاحة غشاء "الجَهل" الذي تحدّث عنه خليل خالد بك ودَعا إلى مُحاربته قبل 100 عام.  

تركيا تبذل جهودًا حثيثة في هذا المجال، وقد أنشأت عددًا من المراكز الثقافيّة في كثير من البلدان العربيّة، وهي تقوم بدور فعّال في نقل الصورة الصحيحة عن المجتمع التّركي والتاريخ التركي والثّقافية التركيّة. كما أنّها فتحت المجال في مدارسها وجامعاتها لتعلم اللغة العربيّة، بل وفتحت المجال أمام الأساتذة العَرب للتّدريس في جَامعاتها وهي تشجّعهم على ذلك.  كما أنّ المؤتمرات والندوات العلميّة عن العلاقات التركية العربيّة تزايَدت أكثر من أي مَضى، والأرشيفات الترّكية أصبحت متاحة أما العرب للبحث والتنقيب دون عَوائق.

وفي المجال الفنّي تم إنتاج عدد من الأفلام والمسلسلات التي تعمل على تصحيح التاريخ المشترك بين الطّرفين. لكنّ الملاحظ أنّ المبادرات من الجَانب العربي في هذا السبيل مازالت دون المستوى، والهواجس مازالت تنتاب صنّاع القَرار، وأيدي المؤسسات العلميّة والبحثية العربيّة ما زالت مغلولةً لأنّها لا تتحرك في مناخ كافٍ من الحريّات. ثم إنّ النزعة القوميّة ضيقة الأفق مازالت مسيطرة على فئات واسعة من المثقفين العرب، وهؤلاء يمثّلون عقبةً أخرى كأداء في سبيل ربط جُسور التّعاون المَعرفي والثقافي بين الطّرفين.

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس