سميح إيديز - المونيتور - ترجمة وتحرير ترك برس

في ظل تأزّم العلاقات بين أنقرة وأوروبا، تسعى تركيا إلى إعادة إحياء روابط صداقتها مع روسيا، حيث ترغب في أن تظهر للجميع أنّها تحظى بحلفاء أقوياء من شأنهم أن يغنوها عن ارتباطها بالولايات المتّحدة الأمريكية وأوروبا. ومن جهة أخرى، استفادت روسيا، التّي تواجه بدورها  مشاكل مع الغرب فضلا عن عدائها الواضح تجاه حلف الناتو، من محاولات الاستقطاب التركي.

في الواقع، شكّلت زيارة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان لموسكو فرصة مناسبة لتوطيد الروابط مع روسيا. وقد جاء لقاء أردوغان مع الرئيس الرّوسي فلاديمير بوتين في إطار محادثات مجلس التعاون الأعلى المشتركة بين البلدين الذي ينعقد للمرّة السادسة منذ تأسيسه في سنة 2010. وفي هذا السياق، أكّد كل من أردوغان وبوتين على رغبتهما في تعزيز وتقوية التعاون الاقتصادي بين البلدين، الذّي شهد انتكاسة كبرى بعد حادثة إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية في سنة 2015.

في الحقيقة، يعدّ هذا الاجتماع اللّقاء الرابع الذّي جمع القائد التركي بنظيره الروسي، منذ أن قام أردوغان بالاعتذار عن حادثة الطائرة في الصائفة الماضية، حيث قرّر كلا الرئيسان تجاوز خلافاتهما. وخلال هذا اللقاء، وقّع الطرفان اتفاقيّة تعاون اقتصاديّ وعلمي وثقافي على مدى ثلاث سنوات، كما تمت مناقشة إمكانية تدعيم الشراكة بين الدولتين في مجال الطاقة والتسريع في إنجاز مشروع الطّاقة النوويّة "أكويو". من جهة أخرى، تباحث الطرفان حول السبل الكفيلة بمضاعفة التعاون العسكري بينهما. ونتيجة لذلك، راجت العديد من الشائعات حول صفقة شراء تركيا لصاروخ روسي "أس-400 ترايمف" بعيد المدى.

في المقابل، استبعد الكثيرون هذه الفرضية نظرا لعضوية تركيا في حلف الناتو. ولكن، لم يمنع ذلك أردوغان من إضفاء عنصر التشويق حول هذه التوقعات، فبمجرّد عودته من موسكو صرّح للصحافة أن عضوية تركيا في حلف الناتو لن تؤثّر على استقلاليّتها. كما أضاف أردوغان أنّ تركيا لن تقف مكتوفة الأيدي في حال امتنع الغرب عن مدها التجهيزات الحربيّة اللاّزمة وأنّها ستؤمّن احتياجاتها العسكريّة من مصادر أخرى.

وفي هذا الصدد، قال أردوغان، في إشارة لحاجة تركيا لدفاعات صاروخيّة فعّالة: "لقد تابعنا الوضع في سوريا ورأينا لسوء الحظّ أسلحة يمتلكها حلفاؤنا في الناتو تقع بين أيدي الإرهابيين... ولهذا السبب سوف نتّخذ الاحتياطات اللاّزمة". كما عرّج الرئيس التّركي على الاختلافات العميقة بين تركيا وسوريا فيما يتعلق بالقضية السورية.

من جهته، أورد ماكسيم سوشكوف، خبير في شؤون الشرق الأوسط في مجلس الشؤون الدولية الروسية، أنه "من الممكن أن تساهم أنظمة "أس-400 ترايمف" العسكرية في حال امتلكتها تركيا من الحد من العمليات العسكريّة الروسيّة في سوريا وغارات الرئيس بشّار الأسد الجويّة، وهو ما يجب أن تضعه موسكو في الحسبان على المدى الطويل".

وفي الأثناء، أشار أردوغان، ضمنيّا، في حديثه حول أسلحة الناتو التي تستعملها الجماعات الإرهابيّة في سورية، إلى مساعدة التحالف الدوليّ ضدّ تنظيم داعش بقيادة الولايات المتحدة لوحدات حماية الشعب الكرديّة، وهي مجموعات تصرّ تركيا على وصفها بالإرهابيّة وذلك لارتباطها بحزب العمال الكردستاني المحظور.

وفي هذا السياق، يواجه الرئيس التركي معضلة، إذ أنّ حليفته الجديدة روسيا تعد من البلدان التي تعترف بشرعّية وحدات حماية الشعب الكردية والمنظمة الأم التي تتفرّع عنها، أي حزب الاتحاد الديمقراطي، حتى أنها ترفض تصنيفهما على أنهما جماعات إرهابيّة. والجدير بالذكر أن روسيا قد سمحت لحزب الاتحاد الديمقراطي بأن تكون له ممثليّة قانونيّة في موسكو.

في الحقيقة، يتنافى رفض روسيا تصنيف حزب العمّال الكردستاني كمنظّمة إرهابيّة مع موقف الولايات المتحدة والكثير من الدول الأوروبيّة، وهو ما يشكل مأزقا بالنسبة لأردوغان، الذي بادر بعرض المسألة بشكل دبلوماسي خلال الجلسة الافتتاحية لمجلس التعاون الأعلى في موسكو. وفي هذا الصدد، أفاد أردوغان بأنّه "من الضروريّ وضع حدّ لنشاط المنظمات التّابعة لحزب العمال الكردستاني الإرهابي في روسيا على غرار حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب".

وفي شأن ذي صلة، أثار الرئيس التركي مسألة أخرى في غاية الحساسيّة، حيث عبر عن رغبة  أنقرة في حث روسيا على منع التحركات الموالية  لفتح الله غولن على أراضيها. وتجدر الإشارة إلى أن السلطات التركيّة تتهم غولن بالتخطيط للانقلاب الفاشل الذي شهدته تركيا في تموز/ يوليو سنة 2016. وعلى الرغم من أنّ أردوغان لم يتوانى عن مهاجمة الولايات المتحدة وأوروبا وذلك على خلفيّة دعمهم المعلن لحزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب، إلا أنه لم يعلن عن أي موقف صريح فيما يخص دعم روسيا لهذه الجماعات.

ولئن كانت "محادثات أستانة" لحلّ الأزمة السوريّة مبادرة تركيّة روسيّة بتعاون إيراني، فإنّ الصراع السوري يبقى مسألة شائكة في إطار التعاون المستقبلي بين البلدين. وعلى العموم، بدا الخلاف جليّا حول هذه المسألة عندما منعت روسيا تركيا من مواصلة التوغّل في شمال سوريا باتجاه مدينة منبج في إطار عملية "درع الفرات"، علما وأن تركيا كانت عازمة على إزاحة عناصر من وحدات حماية الشعب كانوا يرابطون هناك.

ومن المثير للاهتمام أن روسيا قد قامت، من خلال وساطة حزب الاتحاد الديمقراطي، بإقناع وحدات حماية الشعب الكرديّة بأن تسلم المناطق التي تسيطر عليها جنوب المدينة لقوات النظام. وفي هذا الإطار، أكد مراد ياتكين، رئيس تحرير صحيفة حريت، أن "موسكو قامت بهذه الخطوة لحماية الجماعات الكرديّة في سوريا من الوقوع في أيدي القوات الأمريكيّة". وقد عكست هذه الحركة مدى ارتباط الوجود التركي في سوريا بالسياسات الأمريكية من جهة والميولات الروسيّة من جهة أخرى. ومن هذا المنطلق، من الممكن أن تضطرّ أنقرة للتعاون مع الأسد في المستقبل. 

في واقع الأمر، وعلى الرغم من حملة التشهير المطوّلة ضدّ الأسد، إلا أن مؤيدي أردوغان قد أصبحوا جاهزين لتقبّل فكرة أن يكون بشّار الأسد خيارا أنسب، مقارنة بحزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب الكرديّة. وفي هذا السياق، عقّب إبراهيم كاراغول، رئيس تحرير الجريدة الموالية للسلطة التركيّة "يني شفق"، بأنّ التعامل مع قوى النظام السوري أفضل بكثير من السّماح لحزب الاتحاد الديمقراطي بالسيطرة في سوريا. وأضاف كاراغول، أنّه "من الممكن أن يثير رأيي حفيظة بعض الأطراف، ولكن من الضروريّ الإقرار بأنّه يتحتم على تركيا أن تجد لغة تحاور مع دمشق".

وفي الأثناء، صرح كل من سوشكوف وياتكين أنّ روسيا لن تتخلّى عن الأكراد، حيث أقرا أنّه "في حال تخلت روسيا عن الأكراد، فإنّ هذا سيعزّز مكانة الولايات المتحدة في المنطقة. في الحقيقة، وظفت الولايات المتحدة الأمريكية، إمكانياتها العسكريّة لتأمين بعض المناطق شمال شرق سوريا وهو ما سيخوّل لتركيا أن تبسط مزيدا من نفوذها في المنطقة".

  من جانب آخر، كان استياء أنقرة واضحا من مشاركة موسكو في مؤتمر كردي حضره حزب الاتحاد الديمقراطي، فضلا عن إعدادها لمسودّة دستور سوري ينص علمانيّة الدولة ويؤيّد انفصال الأكراد. وعلى ضوء هذه المعطيات، تعي تركيا جيدا أن كلا من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا يساندان مبدأ منح الأكراد استقلالية تامة. لذلك، أخذت تركيا تهيّئ دفاعاتها الخاصّة، استعدادا للجولة القادمة من المفاوضات السورية في جنيف المزمع انطلاقها في 23 من آذار/ مارس.

من ناحية أخرى، أقرت الصحفية نوراي مرد أن هناك مشكلة أخرى بين أنقرة وموسكو، حيث أكدت أن "هناك أزمة ثانية تمثل عقبة أمام التحالف الروسي التركي، ألا وهي رغبة أنقرة الواضحة في إحياء التحالف السنيّ ضدّ إيران من جهة والمشاركة في سياسة ترامب الشرق أوسطيّة الجديدة التّي تعوّل على تحسين العلاقات بين إسرائيل والدول السنيّة لخلق حاجز ضدّ التهديد الإيراني، من جهة أخرى".

وفي الوقت الراهن، تجسد الأزمة القائمة بين أنقرة وهولندا، محدودية دعم روسيا لتركيا في المواقف الشائكة. في الحقيقة، في ظل ضمان تركيا لمساندة القانون الدولي لها في هذه القضية، كانت تأمل أن تحصل على دعم موسكو، ولكن تصريح النّاطق الرّسمي باسم الرئاسة الروسية، قد أكد على ضرورة ضبط النفس بالنسبة للأطراف المتنازعة. وكان ذلك بمثابة إعلان صريح عن تخلي روسيا عن دعم تركيا. من الواضح أنّ كلا من أنقرة وموسكو لن تسمحا، في الوقت الحالي، للخلافات المتأصّلة بين الجهتين بتعكير صفو هذا التحالف الناشئ. في المقابل، ذلك لا يعني أبدا أنّ الاختلافات الجذريّة بين سياسة الدولتين لن تلقي بظلالها لاحقا على التحالف المرتقب.

عن الكاتب

سميح إيديز

صحفي تركي متخصص بالشؤون الدبلوماسية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس