محمد عزت ابوسمرة - خاص ترك برس

أعد الاغتسال، وألبس من الثياب أبيضها، وأختار من العطور أطيبها، وأخرج باكرًا إلى المسجد، تصاحبني السكينة، أصلي تحيته، وقريبًا من المنبر أجلس في أدب وخشوع، منتظرًا خطبة الجمعة من الداعية.

يرتقي الخطيب فيحمد الله ويثني عليه بمقدمة مكررة مرفوعة مطهرة، ثم يقول: موضوعنا اليوم هو الزهد في الدنيا.

فإذا بي وحيد مستوحش، فقد غادرتني السكينة مع الخشوع، إلا أنني ما زلت متأدبًا ومتسائلًا في الوقت نفسه: عن أي دنيا يطالبنا الرجل بأن نزهد فيها؟! عن دنيا حياتنا فيها كلها نصب وعيشتنا فيها كلها كد!! وهل يزهد الرجل في طابور الخبز الطويل فلا يقف فيه ليعود إلى زوجه فتساله: أين الخبز؟ فيقول: إني امرؤ زاهد.

وهل يزهد الفلاح في زراعة أرضه وما هي إلا قراريط حتي يجف الزرع والضرع؟! وهل تزهد المرأة العاملة في ركوب الباصات المزدحمة بالكادحين حتى ترجع إلى بيتها وصغارها خالية الوفاض؟! وهل يزهد الطالب في شهور الصيف فلا يعمل حتي تأتي الدراسة فيذهب بزي العام الماضي، أو يعجز عن دفع المصروفات فيلجأ للبحث الاجتماعي؟!

يا أيها الداعية، إن الأنبياء والمرسلين جميعًا من لدن آدم عليه السلام، ومرورًا بنوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وختامًا بمحمد صلى الله عليه وسلم، كانوا خير الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى (أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده)، أقاموا الدين وساسوا الدنيا به، ولم يكن الطريق سهلًا وميسورًا أمامهم لفعل ذلك وتحقيقه، بل منذ بعثتهم وطوال مسيرتهم الدعوية قابلوا جهلًا، وواجهوا استبدادًا، وتعرضوا للخيانة، فما وهنت لهم عزيمة، وما ضعفت لهم إرادة حتى بلغوا الأمانة وأدوا الرسالة.

يا أيها الداعية، الناس اليوم ليسوا في حاجة إلى مواعظ رقائقية عن الحسن البصري والفضيل بن عياض وحاتم الأصم، بقدر ما هم في احتياج شديد إلى صواعق إيمانية تلهب صدورًا عشش فيها الخوف، وتوقظ ضمائر خدرها الفساد، وتنير عقولًا أظلمها الجهل، وتعلي همة أعجزتها قلة الحيلة، وتقوي إرادة أضعفها الفشل، فتتحرك جوارحهم لينطلقوا في الدنيا التي تطالبهم بالزهد فيها انطلاقة خالد في الفرس والروم، ويثبوا على كل مستبد ظالم منتهك للحقوق والحريات وثبة سعد في القادسية ليهنؤوا بالحرية والكرامة وينعموا بالعيش النبيل.

يا أيها الداعية، إن الزهد في الدنيا لا يحرر وطنًا سليبًا، ولا يقتص لشهيد سفك دمه لأجل حبات رماله، إن الزهد في الدنيا لا يفك عن غزة هاشم الحصار، ولا يدفع عن حلب الشهباء القنابل، إننا يا سيادة الداعية لا نريد اليوم زهادًا في المساجد عاكفين، بل نريد ثوارًا في الميادين مجاهدين.

وختامًا يا سيادة الداعية، هذه أبيات أرسلها عبدالله بن المبارك، مجاهد الميدان، إلى الفضيل بن عياض، العاكف في المسجد، يقول فيها:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ** لعلمت أنك في العبادة تلعب

من كان يخضب خده بدموعه * فنحورنا بدمائنا تتخضب

فلما وصلت الفضيل وقرأها ذرفت عيناه، وقال:

صدق أبو عبدالرحمن، ونصحني ثم قال:

حدثنا منصور بن المعتمر، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن رجلًا قال: يا رسول اللّه، علِّمني عملًا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل اللّه، فقال: “هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر، وتصوم فلا تفطر؟”، فقال: يا رسول اللّه، أنا أضعف من أن أستطيع ذلك، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: “فوالذي نفسي بيده لو طُوِّقت ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله”.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس