د. سمير صالحة - العربي الجديد

قرار تحريك القوات العراقية المركزية شمالا، بشكل مفاجئ وسريع وحاسم، سببه ليس فقط التصدي لمحاولة تفتيت العراق وإيقاف رئيس إقليم كردستان، مسعود البارزاني، عند حده، بل معرفة قيادات التحالف الثلاثي، العراقي والتركيوالإيراني، أنه لا يمكن الرهان مطولا بشأن ما بعد الاستفتاء الكردي بالانفصال عن العراق، على خيار التصعيد الاقتصادي، وأن العقوبات التجارية لن تكون مؤثرةً بما فيه الكفاية على أربيل، لإلزامها بتغيير مواقفها، لأن ارتداداتها السلبية ستنعكس عليهم أيضا، ولأن الإقليم سيلعب ورقة تضييق الخناق عليه بهذا الشكل، على مستوى المجتمع الدولي، وتقديم المسألة على أنها محاصرة للشعب الكردي، بغرض تجويعه وتركيعه. 

تهديدات مسعود البارزاني بعد الاستفتاء على مشروع الانفصال الكردي عن العراق بأن "كل كردي مستعد للقتال من أجل كركوك"، وإعلان قائد البيشمركة في مدينة كركوك، كمال كركوكي، أن قواته لن تنسحب من المحافظة تحت أي ضغط، وأنه في حال "ارتكب الجيش العراقي والحشد الشعبي أي خطأ، وتقدموا صوبنا فسنلقنهم درسا لن ينسوه أبدا"، وشعار أن البذور التي زرعها أكراد شمال العراق منذ عام 1970 كبرت، وحان وقت حصادها، قابله حقيقة دخول تركيا وإيران في تفاهمات ثنائية واسعة بشأن خريطة العراق للمرحلة المقبلة، والتي تتجاوز ضمان عدم استقلال الإقليم، وانفصاله عن الوطن الأم، بل فتح الطريق أمام الحليف الكردي المحلي الجديد، حزب أسرة جلال الطالباني، على زعامة الإقليم وإخراج مسعود البارزاني الذي ورّط الجميع في هذه الأزمة من المعادلات السياسية والحزبية، وليس تلقينه الدرس فقط. 

هناك طرح آخر بشأن أسباب عدم مقاتلة البيشمركة الكردية، يقول إن الخطة الحقيقية لم تكن  الدخول في مواجهات عسكرية، بل جر القوات الاتحادية إلى كركوك، وتحويلها إلى أزمة سياسية إنسانية دولية، لكسب عطف القوى الإقليمية والغربية، في فرض الحل الوحيد القائم على التقسيم في العراق، ولإقناع السنة العرب أن الفرصة متاحة لهم أيضا، للمطالبة بالانفصال وإعلان كيانهم المستقل، بسبب وصول الأمور إلى طريق مسدود في البلاد. 

لكن الصدمة الأكبر التي واجهها البارزاني، عندما حاول لعب ورقة عدم التصعيد العسكري في كركوك وجوارها، على الرغم من كل ما يقال عن ترسانته العسكرية الكبيرة، ليس بسبب منع الخسائر البشرية والمادية المحتملة التي قد تلحق بقواته، بل بهدف الرهان على ساعة الصفر في الموقف الأميركي الذي قد يتغير ويختلف عن الحياد والتريث إلى قرار التحرّك العسكري المباشر مجدّدا في الملف العراقي، للدفاع عن حليفها المحلي، بعد إسقاط طهران وحلفائها في بغداد في المصيدة، لكن وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، سارع إلى قطع الطريق على رهان كردي من هذا النوع بقوله، بعد العمليات العسكرية الواسعة في كركوك وجوارها، إن الولايات المتحدة تراقب عن كثب التوتر بين السلطات العراقية والكردية، وتعمل على عدم تصاعده، وأن ما تدعمه هو وجود الجميع أمام طاولة الحوار. 

ما لا يمكن تجاهله بعد الآن أن قرار السلطات الاتحادية العراقية تفعيل الشق العسكري في التعامل مع الأزمة حمل معه أكثر من تساؤل واستفسار بشأن الاحتمالات والسيناريوهات المتوقعة في المشهد السياسي والدستوري للبلاد: هل الخيار العسكري لحل الأزمة هو فعلاً الذي يتقدم هذه المرة أمام تراجع الوساطات والخيارات السياسية والدبلوماسية؟ أين ستتوقف العمليات العسكرية التي انطلقت ليلة الأحد المنصرم، بإشراف القوات المسلحة العراقية، وبالتنسيق مع القوات الرديفة للحشد الشعبي، ومجموعات محسوبة على جناح حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني؟ هل الهدف هو مدينة كركوك ومرافقها الحيوية فقط، أم المناطق المتنازع عليها، حسب الدستور العراقي المعلن عام 2005، أم أن خطة التحرك أوسع بكثير، وستذهب إلى أبعد من حدود 2014 للإقليم وما قبل 2003، والتدخل الأميركي في العراق، وربما تصل إلى حصر البقعة الجغرافية للإقليم في إطار حدود مطلع التسعينيات؟ وهل السيناريو المتوقع سيصل إلى نقطة أبعد من قطع الطريق مرة أخرى على محاولة تعريض وحدة العراق وسيادته للخطر، عبر لعب ورقة الاستقلال والانفصال إلى مشروع سياسي دستوري جامع، يهدف إلى بناء عراقٍ جديدٍ، وسط تفاهمات سياسية ودستورية، تفرضها ظروف المرحلة ومعادلاتها الداخلية والإقليمية؟ أم أن ما سنتابعه في المرحلة المقبلة هو المزيد من التشابك والتعقيد في المشهد العراقي، تقود إلى نقطة اللارجعة في مخطط التقسيم والتفتيت التي ستطاول دول الجوار العراقي لا محالة، على الرغم مما نراه من تقارب ثلاثي بين الحكومة المركزية العراقية وأنقرة وطهران، بهدف قطع الطريق على احتمالاتٍ من هذا النوع؟ 

كسبت بغداد، وعبر طرح سؤال مشروعية ودستورية ما تقوم به أربيل، المجتمع الدولي إلى جانبها، في رفض مخطط تغيير الخرائط بهذا الشكل، ولم تسمح بتعريض أمن العراق ووحدته للخطر، بل كذلك أمن دول الجوار العراقي، وتحديدا تركيا وإيران.

حقيقة أخرى، وهي أنه لم تكن أمام تركيا وإيران خيارات كثيرة، وربما أولها وأهمها دعم بغداد في التصدّي لتحدي البارزاني.

قلناها مرات إن عدم قيام أنقرة وطهران، المعترضتين على الاستفتاء، بتحرّك متعدد الاتجاهات، كان سيتركهما أمام أزمة مناقشة حالات مشابهة داخل أراضيهما خلال الأعوام المقبلة. 

تقول تركيا إنها دعمت الخيار العسكري لبغداد، ليس فقط من أجل أمنها القومي، ومواجهة خطر الدولة الكردية على حدودها مع العراق، بل بسبب قطع الطريق على خطر آخر، قادم من الجنوب هذه المرة، والمتمثل في احتمال قيام دولة كردية في شمال سورية أيضا.

ومما دفع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلى الإعلان، من دون تأخير، أن بلاده جاهزة لتقديم العون لبغداد في عمليتها العسكرية، يأتي موضوع التركمان في الإقليم ومستقبل الجغرافية التركمانية في كركوك وجوارها، وإنهاء الوجود المسلح لحزب العمال الكردستاني في قنديل وسنجار هاجس أنقرة الأول. 

ستكون المواجهة قريبا بين مشروعين في الإقليم، يقول الأول إن المستهدف هو هوية الإقليم الكردية، بما فيها مدينة كركوك، والثاني يقول إن القيادات الكردية في أربيل أرادت استغلال الأزمات والفراغ السياسي والدستوري، لإنجاز مشروعها الانفصالي بخريطة جغرافية موسعة، تشمل مناطق ليست من حقها، حسب الدستور العراقي المعلن عام 2005.

لكن الخدمة الكبيرة التي سيقدمها مسعود البارزاني للسلطة الاتحادية في العراق ستتجاوز حتما مسألة السيطرة على منابع نفط كركوك، ومجلس إدارتها ومرافقها الحيوية، ما سيخسره في القريب سيكون أكبر  بكثير من الذي خسره حتى الآن.

إذ قد يجد نفسه مجبرا على الجلوس أمام طاولة تفاوض جديد مع بغداد، تعيده إلى المربع الأول في الأراضي المتنازع عليها بينهما، ليس منذ عام 2003، بل قبل ذلك، وأن يفقد كثيرا من المساحة الجغرافية التي كان يمني النفس بها، في إطار ضم حوالي 37 ألف كلم من الأراضي التي تجمع سورية والعراق بحدود الإقليم المفترضة.

لا أحد يناقش، بعد موضوع مصير محافظات الإقليم الثلاث، أربيل والسليمانية ودهوك التي تتمتع بحكم ذاتي، لكن الحديث سيصل حتما إلى مساوماتٍ صعبة، تنتظر البارزاني بشأن أراضٍ في محافظات نينوى وأربيل وصلاح الدين وديالى ومحافظة كركوك التي تعد أبرز المناطق المتنازع عليها. 

عندما يقول سعيد مومزيني، وهو أحد قياديي الحزب الديمقراطي الكردستاني، إن "كركوك أرض كردستانية، وسنحررها من المحتل الذي دخلها".

هل هذا يعني إن من بين أهداف عملية استرداد القوات الاتحادية العراقية كركوك إبعاد النفوذ الكردي عن المدينة، لكي تخرج تماما من يد أكراد الإقليم؟ 

الحل بعد الآن سيناقش في إطار فرض السلطة الاتحادية فوق سائر أراضي الدولة العراقية، والسلطات الاتحادية هي المخولة في فعل ذلك، لكن المشكلة التي تنتظرها، وهي تتحرّك بهذا الاتجاه، ستكون طريقة تعاملها مع قيادات الإقليم الكردي التي تمرّدت على الدستور، وانفردت في محاولة صناعة مشهد سياسي جغرافي اجتماعي عراقي جديد. 

وسيتحمل البارزاني، بعد العملية العسكرية في كركوك، وحده مسؤولية إعادة جغرافيا إقليم كردستان إلى ما كانت عليه، ليس قبل عام 2014 أو عام 2005، أو حتى قبل الغزو الأميركي عام 2003 ، بل إلى ما قبل ذلك، لأن بغداد تملك كل المستلزمات القانونية والسياسية والدستورية لمساءلة بعضهم في أربيل عما فعلوه في 25 سبتمبر/ أيلول الماضي، ولتعطيل أي تحرك مشابه في المستقبل. 

حاول البارزاني مغازلة بعض الأصوات العربية التي برّرت له حقه في الانفصال، مقدمة لانفصال سنة العرب في العراق، لكن أحدا لم يلتفت إلى ما قاله، فعروبة العراق ما زالت هي السائدة في أسباب الوحدة والالتحام والتماسك، كما يبدو.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس