وسام الكبيسي - خاص ترك برس

انتهى ضجيج الحملات الانتخابية وأصوات الموسيقى الصاخبة، والهتافات الاحتفالية التي تزامنت مع إعلان النتائج النهائية - شبه الرسمية - وبدأت تختفي صور ولافتات المرشحين بسرعة كبيرة، ومع إعلان النتائج رسميا خلال الأيام القليلة القادمة، فإن تركيا مقبلة على ولادة جديدة وعهد جديد وتحولات كبيرة ستطال بلا شك كل مفاصل الحياة التركية دولة وأفرادا.

لقد فارقت الدولة التركية النظام البرلماني متحولة إلى النظام الرئاسي أخيرا، وهو الهدف الذي ناضل لأجل تحقيقه أكثر من قيادي في تركيا منذ عقود من الزمان نذكر من بينهم وأبرزهم المغفور له الرئيس تورغوت أوزال رحمه الله، وتحقق أخيرا على يد السيد رجب طيب أردوغان.

إن هذا التحول الكبير الذي جاء بطريقة سلسة وبشفافية تطابق أعلى درجات المعيارية في التعبير عن الإرادة الشعبية، رغم كل محاولات التعويق والتشويش والتشويه التي مورست بحق هذه التجربة لهو أمر يدعو حقا إلى فخر واعتزاز كل فرد ينتمي لتركيا، حيث مثلت المشاركة الفاعلة في الانتخابات، والتي اقتربت نسبتها من 90% عاملا مهما في إضفاء الشرعية على العملية الانتخابية وما سيتمخض عنها من تحولات وبرامج وخطط ومشاريع.

يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: "ما زلت أؤكد أن العمل الصعب هو تغيير الشعوب، أما تغيير الحكومات فإنه يقع تلقائياً عندما تريد الشعوب ذلك"، ولكي يتحقق التغيير المنشود ويؤتي ثمراته، فإن القيادة التركية لا شك أنها وضعت في حسبانها إجابة على سؤال: كيف يتم إقناع كافة أطياف الشعب التركي بدءا من هذه اللحظة الراهنة بأن الشكل الجديد للحكم سيجلب الخير والرفاهية لكل أطياف الشعب التركي وفئاته.

إذا كانت القيادة التركية جادة - وأحسيها كذلك - في سعيها لإحداث تغييرات كبيرة، فإن عليها أن تعمل بأسرع وقت، على تقليل وإطفاء حالات الاحتقان الاجتماعي، والاصطفافات السياسية والأيديولوجية التي خلفتها مرحلة التحولات الحالية، والتي يعد الاختلاف وحتى الانقسام المجتمعي على طبيعتها بين معارض ومؤيد، والتوجس من نتاجاتها ومآلاتها المستقبلية، أمرا متوقعا ومبررا، فالقاعدة الشعبية لا ترى عادة ما تراه القيادات العليا في البلد من معطيات ومعلومات.

إن نجاح المرحلة الجديدة التي دخلتها تركيا بإعلان النتائج الأولية للانتخابات الأخيرة، يقاس أولا على مقدار ما تجلبه الرؤية الجديدة من توافق وانسجام مجتمعي، وإشاعة شعور لدى الجميع بأن هذا البرنامج يتبنى، وقادر على استيعاب وتحقيق طموحاتهم وآمالهم، ورفع منسوب الحريات الفردية والفئوية، وفي ذات الوقت فإنه يعترف بكل الخصوصيات الدينية والعرقية ويحترمها ويتعاطى معها بأريحية عالية ما دامت تتعامل تحت سقف دستور الدولة وعقدها الاجتماعي.

لقد أعطت النتائج التي أفرزتها الانتخابات - وخصوصا اجتياز حزب الشعوب الديمقراطية العتبة التي تؤهله لتواجد ممثليه في البرلمان - حالة من الراحة، وهي نتائج تناسب هذا الكم الهائل من التحولات المفصلية الاجتماعية والسياسية، والتي تحتاج إلى انتقالات هادئة وعلى مراحل، وليس إلى انتقال حاد ومن مرحلة واحدة، لما قد تحمله التحولات الحادة في المجتمع من مخاطر قد تمزق نسيجه وتهدد مصيره لا سمح الله، ومشاركة أوسع طيف من القوى السياسية في الفعل والقرار، تمثل إحدى ضمانات عدم الانزلاق إلى ذلك المصير، خصوصا وتركيا تعيش في محيط من فوضى عوامل اللادولة والحرائق المشتعلة المتنقلة، وفي ظل سعي محموم من بعض القوى الدولية والإقليمية لتصدير هذه الفوضى إلى الداخل التركي.

أمر آخر أراه مهما للمرحلة القادمة وهو العمل على تبديد الصورة التي حاول أن يؤطرها الإعلام الدولي وبعض أذرعه الإقليمية والمحلية، التي حاولت باستمرار وإصرار أن تصور نظام الحكم في تركيا بصورة نظام الحاكم الفرد، ولذلك فإن العمل على توسيع دائرة المشاورة والمشاركة في الحكومة القادمة ستقدم صورة مختلفة وتبعث برسالات تطمين داخلية وخارجية تحتاجها التجربة في بداية طريقها نحو التغيير والتطوير، ونحن لا نشك أن الرئيس أردوغان بما يملكه من حكمة وحرص على نجاح التجربة وتطور المجتمع، يفرق بين التحكم والتفرد بالقرار، وإدارة القرار وفق قناعة جمعية راشدة.

العامل الاقتصادي هو الآخر من أهم الركائز التي يقوم عليها البرنامج الحكومي لفريق السيد رجب طيب أردوغان، ولا شك أن خصوم أردوغان الخارجيين استخدموا هذا الملف بقوة وتلاعبوا عبر عدة أدوات - أو حاولوا التلاعب - بسوقي النقد والسلع التركيين، وإن العمل على ظهور آثار إيجابية في العامين القادمين على صعيد تنمية دخل الفرد، والاهتمام بمحدودي ومتوسطي الدخل، والعدالة في توزيع الثروات، وكذلك العدالة في توزيع المشاريع والتنمية على كافة محافظات تركيا ومناطقها الجغرافية، كل تلك الأهداف ينبغي أن تكون أولوية ضمن الأولويات الكبرى للحكومة المقبلة، تساعد على تقوية وتمتين النسيج الاجتماعي وتهيئة الأرضية المناسبة لتطبيق استراتيجيات طويلة الأمد.

إن نجاح هذه التجربة الجديدة التي ستضاف إلى نجاحات سابقة حققها الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه، حزب العدالة والتنمية، ستكون محط أنظار ليس الشعب التركي فحسب، بل ستكون نموذجا ينظر إليه باحترام ويؤخذ منه لإحياء أو تمتين تجارب الشعوب في كل المحيط الإقليمي، وعلى ذلك فكلنا حريصون على نجاح وتطور هذه التجربة ولن نبخل بالدعاء والنصح الصادق لها وللقائمين عليها، سنصفق لكل نجاح، وسنشير بشجاعة لكل خلل نرى فيه ابتعادا عن خط السير، لأن هذا من حق تركيا وقيادتها علينا، ولأننا أيضا نشعر بأن هذه التجربة تعنينا كما تعني الشعب التركي، وتعني مستقبل منطقتنا وأجيالنا القادمة.

عن الكاتب

د. وسام الكبيسي

(كاتب وباحث عراقي)


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس