د. خيري عمر - العربي الجديد

دفعت تداعيات ما بعد تزايد رقعة نفوذ حكومة الوفاق الليبية في طرابلس، منذ إبريل/ نيسان الماضي، فرنسا إلى الاضطلاع بإعادة صياغة دورها السياسي في ليبيا، وقد اهتمت السياسة الفرنسية بمراجعة تحالفاتها الدولية والإقليمية، وكان لافتاً انشغالها بما صنّفته خطراً تركياً على أوروبا، وهو ما يثير الجدل عن قدرة فرنسا على استعادة نفوذها في السياسة الليبية.

وقد اعتبر وزير خارجية فرنسا، جان إيف لو دريان (المستقيل)، في 27 مايو/ أيار الماضي، الوضع في ليبيا مزعجا للغاية، ويمكن استنساخ الأزمة السورية. وفي هذا السياق، تعتبر فرنسا أن التدخل التركي يمثل المعضلة الرئيسية في الأزمة الليبية، ويتسبب في مزيد من التعقيدات. 

وعلى الرغم من القلق الفرنسي من تعقيد الأزمة، فإنها تعمل على تسهيل الوجود الروسي، مخالفة القواعد الأمنية لحلف شمال الأطلسي الذي يعتبر روسيا تهديداً، خصوصاً عندما تتوسع في توفير انتشار مرتزقة شركة فاغنر الروسية في جنوب ليبيا وتدريبهم في إجدابيا تمهيداً لنقلهم إلى خطوط المعارك.

ظلت فرنسا من بين الدول الغربية الأكثر انشغالاً بالسياسة التركية، فيما البلدان الأخرى ترى إمكانية وجود علاقاتٍ تفاوضية ومصالح مشتركة

وبعد تأكيد لودريان استمرار الجيش الفرنسي في مهامه في البحر المتوسط، أعلنت بلاده انسحابها من عمليات الناتو للأمن البحري بسبب تحيزه لـ "الإمبريالية التركية" خلال التحقيق حول اشتباكات بينهما في البحر المتوسط. 

وفي هذا السياق، يحمل تصريح وزارة الجيوش الفرنسية إن تنافس قوتين من خارج العالم العربي في ليبيا سوف يسبب مشكلات لأوروبا دلالات عميقة في الصراع الدولي حول الساحل الجنوبي للمتوسط. 

وبهذا المعنى، تحاول فرنسا الإشارة إلى أن توسع النفوذ التركي سوف يعمل على إحلال السياسة الأوروبية في منطقة الشمال الأفريقي، وهي بذلك تحاول تجميع موقف أوروبي مضاد لما تعرّفه بالخطر التركي. 

ووفق هذا المدخل، تعمل فرنسا على تبنّي سياسة تصعيدية ضد تركيا. 

وهنا يمكن قراءة إعلان تخليها عن حفتر كمحاولة للتقارب مع الموقف الأوروبي، من دون التغيير في أصول سياستها.

فمنذ بداية الأزمة، دخلت فرنسا مباشرةً لتقديم الدعم لخليفة حفتر، وشكلت سنوات 2014 – 2019 مرحلة الصعود الفرنسي في السياسة الليبية، فمن خلال الدعم الاستخباري والفني، ساعدت على توسيع نطاق انتشار حفتر على غالبية الأراضي الليبية، كما تمكّنت من إدماجه سياسياً عبر مبادرتي باريس في يوليو/ تموز 2017 ومايو/ أيار 2018، تمهيداً لتمكينه من رئاسة ليبيا. 

وبالتالي، يشكل فشل السيطرة على طرابلس إحباطاً واضحاً للسياسة الفرنسية ومشروع لودريان، ما سوف يدفعها إلى التفكير في بدائل أخرى، تضع النفوذ الفرنسي على مفترق طرق في الأزمة الليبية.

وبشكل عام، ظلت فرنسا من بين الدول الغربية الأكثر انشغالاً بالسياسة التركية، فيما البلدان الأخرى ترى إمكانية وجود علاقاتٍ تفاوضية ومصالح مشتركة. 

وهنا، تبدو تصريحات الاتحاد الأوروبي أكثر انفتاحية ما يضع فرنسا في مأزق العزلة. 

وبهذا المعنى، ينعكس تشوّه السياسة الفرنسية وتراجعها على حلفائها العرب، بطريقة تضعف التساند الجماعي في ملفات الأمن الإقليمي. 

فمع خروجها من التأثير في العمليات في الغرب الليبي، وخصوصاً بعد عملية غريان، صارت فرنسا في حاجة لدول جوار ليبيا، فمن جهةٍ تحاول التنسيق مع مصر لتدخلات عسكرية، ومن جهة أخرى، تعمل على إبعاد تونس والجزائر عن حكومة الوفاق وتركيا. 

وفي الوقت الراهن، تحاول فرنسا توثيق علاقتها مع دول الجوار الليبي؛ مصر وتونس والجزائر، لتكوين مظلة إقليمية لتأمين وصول حلفائها الليبيين إلى طرابلس. 

وفي هذا السياق، يمكن ملاحظة التطورات المتماثلة التي تحدث في كل من مصر وتونس لإعادة بناء الشرعية السياسية عبر تقويض حكومة الوفاق، وترقية التعامل مع المكونات الاجتماعية، ومن المرجّح أن يساهم استمرار هيمنة النخبة الفرنكوفونية على الجهاز الإداري والسياسي للدولة في تقريب موقف الجزائر مع السياسة الفرنسية.

تضع فرنسا في الاعتبار أنها تتشارك مع مصر والإمارات والسعودية والولايات المتحدة في إبعاد حركات الإسلام السياسي عن دوائر النفوذ

فقط، تسعى فرنسا إلى الاستفادة من مرور تونس والجزائر في مرحلةٍ تشهد اختلافاً بشأن المسارات السياسية الداخلية، حيث تعمل على استقطاب العلمانيين، وتقوية تمركزهم السياسي ودعم تباعدهم مع الإسلاميين في تونس أو استيلائهم على الحراك السياسي في الجزائر، وقد ظهر التماثل الفرنسي ـ الشمال أفريقي في اعتبار حكومة الوفاق انتقاليةً لا تحتكر التمثيل السياسي لليبيا.

فيما تطرح مصر تصورات تراعي شواغلها الأمنية، فبصدور إعلان القاهرة الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، تحاول تطوير أطروحاتها الأمنية والسياسية تجاه تطورات ليبيا، وقد تعزّز هذا التوجه مع إعلان مصر استعداد الجيش لتوفير الحماية الأمنية، والقيام بدور مؤثر في بناء موقف مشترك مع الإمارات والسعودية، بالإضافة إلى فرنسا وروسيا، بحيث يمكن القول إن ظهور المبادرة المصرية يمكن أن تشكل نقطة انطلاق جديدة لترتيب صفوفهم مرة أخرى، غير أن التنافسية الداخلية بين مكونات التحالف أدّت إلى ظهور مساراتٍ متوازيةٍ ساهمت في إضعاف التماسك السياسي، وخصوصاً مع تركيز التحرّكات الروسية والفرنسية على الترتيبات الأوروبية وانصرافهما جزئياً عن التنسيق مع دول جنوب المتوسط، باعتبارهم داعمين تلقائيين.

وتضع فرنسا في الاعتبار أنها تتشارك مع مصر والإمارات والسعودية والولايات المتحدة في إبعاد حركات الإسلام السياسي عن دوائر النفوذ. 

وعلى هذا الأساس. وثمة توافق ما بين حلفاء حفتر والأمم المتحدة على مخاطر وجود الإسلاميين في السلطة، ومن الملاحظ تقارب مواقفهم في أهمية ابتعاد حكومة الوفاق عن الجماعات المسلحة ونزع سلاحها، وفي الوقت الراهن، تركز مواقفهم على رفض دمج المسلحين في العملية السياسية .

وبشكل عام، تتقارب السياسة الفرنسية مع إعادة طرح تصوّر انتقالي يقوم على إعادة تأسيس الشرعية الانتقالية استناداً للمكونات الاجتماعية. 

وهنا، بدت تصورات لنقل السلطة إلى المكونات القبلية مدخلا لتأسيس شرعية سياسية جديدة على أنقاض المؤسسات القائمة، ولكن هذا المدخل واجه تحدياتٍ من جانبين : 

الأول، ويتمثل في ضعف تماسك البنى الاجتماعية، وتراجع مساهماتها السياسية خلال مرحلة النزاع والحرب، وهو ما يرتبط باختلاف التصورات حول الانتقال السياسي ومحاولاتها المتكرّرة لتقويض التجربة الحزبية. 

الثاني، يرتبط بأن مرحلة ما بعد سقوط القذافي راكمت ثقافة سياسية تجاوزت الدور التقليدي للقبائل، ولولا الصراع المسلح لكانت ليبيا في مسار تجربة تحديثٍ جديدة .

تسعى فرنسا إلى الاستفادة من مرور تونس والجزائر في مرحلةٍ تشهد اختلافاً بشأن المسارات السياسية الداخلية

وتفيد التطورات المتزامنة بأن ميدان العمل الأساسي لفرنسا ليس بلدان جنوب المتوسط، فهي ترسّخ جهدها على تكوين سياسة أوروبية مشتركة، وتقليل حدّة الخلاف مع الولايات المتحدة، حيث تلاقيا مع "إعلان القاهرة" بشأن ليبيا، في مسألتي وقف إطلاق النار واستئناف الاجتماعات التشاورية لوقف المعارك (5 + 5)، بالإضافة إلى إجراءات الحل السياسي، غير أن فرنسا تواجه تحدياتٍ حقيقيةً في ما يتعلق بسياسات حلف شمال الأطلسي.

وعلى المستوى الأوروبي، يحدث تحول للسياسة الفرنسية من انتقاد الدور الألماني بسبب استضافة مؤتمر برلين، لمحاولة التنسيق لأجل مواجهة التدخلات الجديدة في ليبيا. 

وبغض النظر عن سياق علاقاتهما، تعبر زيارة الرئيس الفرنسي، ماكرون، برلين عن حيرة في ترتيب تحالفاته في الأزمة الليبية، بعد تراجع روابطه الأوروبية والأميركية وعدم وضوح العلاقة مع روسيا. 

ولهذا كان رفض السياسة التركية السمة البارزة للموقف الفرنسي في أثناء زيارة ألمانيا، بجانب محاولات التنصل من دعم خليفة حفتر، قائد ما يعرف بالجيش الليبي، حسب تعبيره، وقد يشكل الموقف الفرنسي تغيرا نوعياً في ترتيبات الصراع حول ليبيا .

قد لا يعبر نفي ماكرون دعم خليفة حفتر، 29 يونيو/ حزيران الماضي، عن واقع السياسة، لكنه يكشف عن إدراك فرنسا انتهاء صلاحية المذكور من دون تغيير في مواقفها، غير أنه يعد مؤشّراً على إحباط فكرة تحالف تحاول تكوينه لتجديد الصراع حول ليبيا، خصوصاً أن التراجع جاء في سياق انحسار نفوذها في حلف شمال الأطلسي، وخضوعها لتقييد نشاطها العسكري في البحر المتوسط، يمكن قراءة هذه التغيرات في سياق شعور فرنسا بالعزلة الأوروبية ـ الأميركية لمواقفها وضعف قدرتها على تطوير سياساتها حول ليبيا، ولذلك تحوّلت إلى اعتبار أن تركيا تشكل عقدة الصراع الإقليمي.

تعمل إيطاليا على مكافحة محاولات فرنسا المتكرّرة للاستيلاء على السياسة الأوروبية

وعلى وجه مقابل، تعمل إيطاليا على مكافحة محاولات فرنسا المتكرّرة للاستيلاء على السياسة الأوروبية، فمنذ سقوط نظام معمر القذافي سنة 2011، لم توافق روما على سياسة باريس، واعتبرتها سبباً لموجات الهجرة، سواء لإصرارها على التدخل العسكري وتفكيك الجيش الليبي ومعارضة حكومة الوفاق، فضلاً عن سعي فرنسا إلى الحصول على امتيازاتٍ نفطية في ليبيا على حساب الشركة الإيطالية إيني، وتوقيعها اتفاقات مع "المكتب التنفيذي"، الحكومة المؤقتة، ثم اتفاقيات غير معلنةٍ مع حفتر في حالة وصوله إلى رئاسة ليبيا لمنح امتيازات للشركات الفرنسية.

وخلال شهر مايو/ أيار الماضي، بدأت إيطاليا في حسم خياراتها لصالح حكومة الوفاق والتقارب مع تركيا، بعد أن حاولت، طوال سنوات النزاع، التواصل مع فريق مجلس النواب في طبرق وخليفة حفتر، لكنها لم تتمكّن من توطيد علاقة ما بسبب اعتراض فرنسا، ولذلك لم تتأخر إيطاليا في استثمار نتائج ما بعد خسارة خليفة حفتر وفرنسا نفوذهما في غرب ليبيا، وبدأت في تحديد وجهتها السياسية بدعم حكومة الوفاق الوطني، وتفعيل التواصل السياسي مع تركيا.

وفي هذا السياق، تبدو السياسة الفرنسية محاولةً لتعويض الخسائر في ليبيا، من خلال تطوير مظلة تحالفاتها جنوب المتوسط، بحيث تشكّل سلسلةً من الشبكات السياسية تجمع ما بين مكونات سياسية في مصر، السعودية، الإمارات، بالإضافة إلى محاولاتٍ مع تونس والجزائر. 

ولذلك، يصعب تصور أن فرنسا تطرح سياسة تطوّرية، فهي تحاول امتصاص تداعيات تدهور نفوذها في ليبيا، حيث تلقى منافسةً شديدة من تركيا، ليس فقط بسبب القلق من تكرار النموذج السوري، ولكن لإدراكها بأن وجود منافسين سوف يفقدها زمام المبادرة، خصوصاً مع تزايد إدراك أن الملف الليبي يتحوّل، بمرور الوقت، إلى صراعات دولية.

ويمكن القول إن تحرّكات السياسة الفرنسية أقرب إلى النوع العملياتي منه إلى التغير السياسي، ففي نهاية المطاف تركّز جهدها على استبعاد تركيا من نطاق المتوسط وليبيا، لكن إخفاقاتها داخل حلف الأطلسي وفي ليبيا يفقدها ميزاتٍ سياسية كثيرة، أوروبياً وأميركياً.

عن الكاتب

خيري عمر

أستاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثًا في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثًا عديدة عن السياسة في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس