ترك برس

دحض مقال للكاتب التركي توران قشلاقجي، مزاعم الغرب ضد الدولة العثمانية بأنها كانت تنوي تدمير الشعب الأرمني لمجرد هويتهم الدينية أو العرقية أو القومية، وتطرق إلى اعترافات أول رئيس وزراء لدولة أرمينيا هوفانيس كاجزنوني، في هذا الصدد.

يقول قشلاقجي في مقاله بصحيفة القدس العربي إن مسألة الأرمن كانت إحدى الأجندات الرئيسية لكل من تركيا والولايات المتحدة في الأيام القليلة الماضية، وقد انتقد الرئيس رجب طيب أردوغان، استخدام نظيره الأمريكي جو بايدن، مصطلح «الإبادة الجماعية» في بيان له عن أحداث عام 1915.

وقال أردوغان إن «رئيس الولايات المتحدة بايدن استخدم عبارات غير محقة، لا أساس لها وتخالف الحقائق بشأن أحداث أليمة وقعت في منطقتنا قبل أكثر من قرن».

وأشار الكاتب إلى أن تركيا تطلب منذ أعوام طويلة تشكيل لجنة من المؤرخين تشرف على مناقشة الأحداث المتعلقة بالأرمن، "لكن مع الأسف، لا المؤرخون الأرمن ولا المؤرخون الغربيون ينظرون بإيجابية لهذا الأمر، والسبب في ذلك بسيط للغاية لأنه لا أصل ولا أساس لمعظم المزاعم المتداولة".

وتابع المقال: بينما كان الجيش العثماني منشغلًا إبان الحرب العالمية الأولى بمحاربة الروس والفرنسيين والإيطاليين والبريطانيين، على جميع الجبهات لاستعادة أراضيه المحتلة، في الشرق والغرب والشمال والجنوب، تمرد الأرمن على الدولة العثمانية وشكّلوا جيوشا من المتطوعين ليقدموا جميع أشكال الدعم للقوات الروسية والفرنسية.

في خضم ذلك، ذهبت الدولة العثمانية أولا إلى اتخاذ التدابير اللازمة لضمان أمنها أولا، واتخذت في هذا الإطار قرارا بتهجير الأرمن، بناء على مقترح من جنرالات ألمانيا، حليفتها في الحرب العالمية الأولى. في تلك الأثناء، أرسل رئيس وفد الأرمن آنذاك بوغوص نوبار باشا، رسالة إلى وزارة الخارجية الفرنسية، قال فيها إنهم يحاربون في صفوف قوات الحلفاء ضد الإمبراطورية العثمانية بنحو 200 ألف جندي أرمني. 

عندما تؤخذ هذه الأرقام في الاعتبار، فإنها تظهر مدى صواب المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي، الذي كتب أن الأرمن العثمانيين أصبحوا بمثابة «الطابور الخامس» للروس في الأراضي المحتلة للإمبراطورية العثمانية. وهذه القوة المعروفة بـ»الطابور الخامس» كانت مسؤولة بشكل صريح عن مقتل 124 ألف مسلم في الفترة بين أغسطس 1914 ومارس 1916.

ينبغي أن لا ننسى أن «قرار التهجير» المتخذ من قبل حزب الاتحاد والترقي، الذي أطاح بالسلطان عبد الحميد، شمل فقط الأرمن في الأناضول. وتشير تقارير الدبلوماسيين والمبشرين الأمريكيين عن تلك الفترة، إلى أن عدد الأرمن المعفيين يتراوح بين 300 ألف و350 ألفا. وبالتالي علينا هنا أن نطرح السؤال المهم التالي: 

إذا كانت نية الحكومة العثمانية هي تدمير الشعب الأرمني جزئيا، أو كليا، لمجرد هويتهم الدينية أو العرقية أو القومية، فلماذا أعفت الكثير من الأرمن من الترحيل؟ ولماذا إذن قررت إعفاء كل هؤلاء الأرمن من التهجير؟ ولماذا استثنت السكان الأرمن في إسطنبول من التهجير؟ علما أن جمعية الاتحاد والترقي استمرت في توظيف الأرمن في مناصب مهمة واستراتيجية حتى خلال فترة الحرب. 

ووفقا لمذكرة صادرة بتاريخ 24 يوليو 1917، كان هناك 522 أرمنيا في مناصب استراتيجية ضمن البيروقراطية العثمانية. وهذا يدل على أن الأرمن الذين ظلوا موالين للجيش، ولم تكن لهم صلة بمنظمتي «الهنجاق» و»الطاشناق» واستمروا في ولائهم للحكومة العثمانية، حافظوا على مناصبهم بمستويات مختلفة في الجيش والبيروقراطية حتى في عام 1917.

يقدر العديد من الباحثين المستقلين أنه قبل عام 1914 كان عدد السكان الأرمن في الإمبراطورية العثمانية يتراوح بين 1400000 و 1700000. وقال رئيس وفد الأرمن، بوغوص نوبار باشا، في مؤتمر باريس للسلام عام 1919، إن «عدد الذين تم تهجيرهم يتراوح بين 600 و 700 ألف». 

وكتب بوغوص نوبار باشا أيضا أنه بعد انسحاب روسيا من الحرب العالمية الأولى، ذهب 250000 أرمني عثماني طواعية إلى روسيا، وحوالي 40 ألفا توجهوا إلى إيران. أمّا ادعاءات مقتل 1.5 مليون أرمني خلال التهجير، فإنها عبارة عن بروباغندا بحتة. لأن العديد من المصادر الغربية كشفت أن هذا العدد مبالغ فيه. 

لقد كانت هناك قنصليات أو سفارات أمريكية في بعض المدن، التي مثلت نقطة انطلاق التهجير بالنسبة للأرمن وكذلك في بعض الأماكن الجديدة التي ذهبوا إليها، وكانت هذه البعثات الأمريكية تسجل بشكل منتظم عدد الذين يغادرون المدن، أو الذين يصلون حديثًا. فعلى سبيل المثال، كان جيسي بي جاكسون، القنصل الأمريكي في حلب يبلغ السفارة يوميًا بعدد الأشخاص الذين يصلون إلى المدينة بالقطار أو مشاة. لذلك، فإن هذه الوثائق لها قيمة كبيرة بالنسبة إلى المؤرخين. 

وفي تقريره بتاريخ 6 فبراير 1916 يتحدث جاكسون عن إجمالي عدد الأرمن القادمين إلى المخيمات في حلب، قائلًا: «تشير مصادر موثوقة حول المهاجرين الأرمن في هذه المنطقة، أي بين هنا [حلب] ودمشق والمناطق المحيطة ومن أسفل نهر الفرات حتى دير الزور، إلى وجود حوالي 500 ألف شخص».

شهدت فترة الحرب العالمية الأولى ظهور العصابات في أجزاء كثيرة من الدولة العثمانية. وبينما كان الجيش العثماني يقاتل على جميع الجبهات بسبب التعبئة، كانت العصابات التي ظهرت في كل ولاية عثمانية تقريبًا بسبب الجوع، تداهم القرى والمدن وتصادر بضائع السكان. والجيش العثماني، الذي يحارب العدو على أربع جبهات، لم يكن يستطيع فعل أي شيء حينها، ضد هذه العصابات. 

وتظهر الوثائق التي نشرتها المديرية العامة للأرشيف العثماني، أن الدولة حشدت كل الوسائل لتأمين قوافل التهجير وحمايتها من العصابات، حيث تم تعيين عناصر من الجندرمة على رأس كل قافلة، ورسمت الطرقات التي ستسلك قبل فترة من الانطلاق، وتم ضمان أمنها. وأعلنت الحكومة أن المسؤولين العسكريين والإداريين سيتحملون المسؤولية عن الحوادث غير القانونية التي ستواجهها القوافل على طول الطريق. ولكن على الرغم من جميع التدابير المتخذة في هذا الصدد، فقد عدد كبير من الناس أرواحهم.

هذه نقطة مهمة للغاية، لأن الدولة العثمانية كانت تفي بمسؤولياتها القانونية في ذلك الوقت، وكانت المحاكم العسكرية الاستثنائية، التي أنشئت لهذا الغرض، تعاقب بشدة كل من يسيء معاملة الأرمن. ووفقا للوثائق، تم حبس 1673 شخصا ومحاكمتهم أمام المحاكم العسكرية العثمانية في عامي 1915 و1916 لارتكابهم جرائم ضد الأرمن، بينهم 67 تم إعدامهم ووضع 524 منهم في السجون بسبب جرائم مختلفة. بالإضافة إلى ذلك، حُكم على 68 شخصا بالأشغال الشاقة، وبالتالي يجب النظر إلى هذه المحاكمات والعقوبات كدليل على رغبة الدولة العثمانية في حماية الأرمن حتى وصولهم إلى وجهتهم. 

بعد الحرب العالمية الأولى، أصدرت الدولة العثمانية مرسومًا بتاريخ 18 أكتوبر 1918 يسمح للأرمن المنفيين بالعودة إلى ديارهم. بالإضافة إلى ذلك، دعت تركيا رسميا الأطراف المعنية لتشكيل لجنة تاريخية لمناقشة أحداث عامي 1915 و1916 على خلفية الأرقام المبالغ فيها المتداولة من قبل بعض الدول الغربية، لكن أياً من هذه الدول لم يقدم ردا إيجابيا على ذلك. 

وفي عام 1921، قررت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، خلال اجتماع لها في جنيف، التحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبت إبان الحرب العالمية الأولى. وعلى إثر ذلك توافق تركيا على التحقيق لكن هذه القرار لا ينفذ بسبب معارضة فرنسا صاحبة السجل الحافل بـ»الإبادات الجماعية». وثيقة هذا الحدث لا تزال متوفرة في الأرشيف. 

حتى أن أول رئيس وزراء لدولة أرمينيا هوفانيس كاجزنوني، قال بشكل صريح في تقرير أعده حول الموضوع: «انتفضنا من أجل حلم أرمينيا الممتدة من البحر إلى البحر. نحن السبب وراء الأحداث. لقد خدعنا الروس. كان الترحيل الذي نفذه الأتراك موافقًا للهدف. لذلك علينا ألا نبحث عن الجريمة خارج أنفسنا.. عشنا معا لمئات السنين، والآن لم يعد لدينا وجه نقابل به الأتراك».

خلاصة الكلام، كانت الدولة التركية ولا تزال تدعو جميع المؤرخين منذ سنوات طويلة إلى العمل من أجل الكشف عن حقيقة هذا الحدث. لكن وكما حصل في الماضي لا المؤرخون الأرمن ولا بعض المؤرخين الغربيين على استعداد لمناقشة الوثائق الأرشيفية الموجودة لدى الأطراف المعنية. 

لا شك أن تركيا حرصت دائما على إبقاء أبوابها مفتوحة أمام الشعب الأرمني، الذي لم يقع في فخ الدعاية السوداء لمنظمتي «الهنجاق» و»الطاشناق». وآمل من أبناء الشعب الأرمني، الذين كانوا ضحايا القوى الإمبريالية في الماضي، ألا يرفضوا هذه المرة الفرصة التي منحتها تركيا لهم.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!