خلود الخميس - العرب القطرية

قضى أنصار حزب العدالة والتنمية في تركيا ليلة الثامن من يونيو وغصة في قلوبهم تلتحف الفرح بنصر على حرف تسبب في فقدان حزبهم تسع نقاط وثمانية عشر مقعداً في البرلمان وخسارتهم حق الانفراد بتشكيل الحكومة.

العلويون، رغم كل محاولات الحزب الحاكم التعامل معهم بمساواة المواطنة فإنهم لنزعتهم الفئوية لا يصوتون له. وبالطبع فإن التقية التي مارسوها مع العدالة والتنمية يجب ألا تخفى على حنكتهم السياسية. ويبقى الفرق بين حسن الظن والتغافل وسوء التقدير شعرة. فقد أساء الحزب في حساب حقيقة أن المواطنة مشروع لا يدخل ضمن مؤيديه كثير من الأحزاب التي تتبنى فكرا قوميا وطائفيا وعنصريا.

الخسائر التي حققها العدالة والتنمية يراها العامة بسيطة لأنه يبقى في الصدارة. ونراها فادحة لأنه فقد حق تشكيل الحكومة منفرداً، ثم حق الإدارة التنفيذية عبر كتلة متجانسة، ثم تطبيق الخطط والوعود الانتخابية بلا منغصات. الحكومة التوافقية ليست حلاً في حالة تركيا. وهي الحل الوحيد في وضع العدالة والتنمية وإلا التوجه للصناديق مرة أخرى بعد خمس وأربعين يوماً وهذا جهد كبير غير مضمون قد يكون فرصة كبيرة ومواتية لتشحن الأحزاب الأخرى قواعدها بعد أن عرفت أين نقاط ضعفها وفي أي الولايات؛ فتنقلب المعادلة ضد العدالة والتنمية. كل شيء جائز ومتوقع في معركة السلطة.

الأكراد رقم مهم في الانتخابات وقد تعامل العدالة والتنمية بوعي مبكر مع هذه الحقيقة وبدأ طرح مشروع المصالحة الوطنية منذ تسلمه سدة السلطة في تركيا قبل اثني عشر عاماً وقدم جهوداً فائقة لدعم دمج القومية الكردية في المجتمع التركي. وهذا التذويب إن صح التعبير للفروقات المناطقية يعتبر أحد اهتمامات بل أولويات حزب العدالة والتنمية الحاكم؛ حيث أعلن أن المشاريع التنموية ستصل ولايات تركيا بلا تفرقة واستثاء، وأن المواطنين سواء في الحقوق والواجبات ومن واجب الدولة أن توفر للجميع ما يحقق الحياة الكريمة والاكتفاء.

في حين أن الحركة القومية ترفض المشروع المذكور أعلاه، وقد أعلنت بعد ظهور النتائج عن رفضها له جملة وتفصيلاً مبدئياً. وكذلك الأحزاب العنصرية مثل الشعب الجمهوري الأتاتوركي الذي يرى قادته بل يؤمن، وهذه هي الفكرة الرئيسة التي تأسس عليها، أن النخبة هي التي لها حق الحكم والقيادة. وأن العامة رعاع تُستخدم أصواتهم لتعلو عليها صفوة اجتماعية واقتصادية وُلدت بميزة انتمائها العائلي والطبقي؛ ولذا حصلت على تعليم أفضل وفرصتها في تقلد السلطة وإدارة شؤون البلاد يجب أن تكون أكبر من غيرها. هذا الفكر الذي جاء حزب العدالة والتنمية بعكسه؛ حيث طرح مشروع المواطنة والمساواة والعدل والتنمية للجميع ما دام تركي الجنسية بغض النظر عن أي مرجعية في عرقه ودينه. ألا يذكركم هذا بأسلوب قيادة الدولة العثمانية؟

لقد كان من كبار وزراء الدولة العثمانية بل بلغوا منصب الصدر الأعظم من هم ليسوا بعثمانيين، وكان الشرط الوحيد إسلامهم، ولم يُنظر لكونهم مماليك وعبيد وأسارى. نتحدث عن دولة عاشت أكثر من ستة قرون. رغم سيئاتها فالحسنات تفوقت وأثبت ذلك استمرارها الذي أرهب العالم المحيط بها. وخضوع اليهود تحت سلطتها فقد كانوا يعملون في البلاط. رغم أن هذا أحد أهم أسباب ضعفها. دسائس اليهود وقتل أطبائهم لأبناء السلاطين تسميماً وللسلاطين أيضاً لتفوقهم في الطب آنذاك. ولكنه أيضاً دليل قيام دولتهم على العدل والمواطنة ما دام الولاء للدولة العثمانية.

اليوم تركيا لديها مكانة دولية. في الوقت الذي كانت مغلقة على نفسها في العهود التي سبقت العدالة والتنمية، ومشروع أتاتورك العنصري يتراجع ويفشل لصالح مشروع المحافظين الانفتاحي التقدمي على الإقليم والعالم.

التطور الاقتصادي لم يشفع للحزب الحاكم. سداد الدين كذلك. المصالحة الوطنية أيضاً. تغيير الدستور والرغبة بالتحول للنظام الرئاسي القشة التي قصمت انتصاب الحزب وحرمته من 18 مقعداً ودفعته لزاوية الاضطرار لتشكيل حكومة ائتلافية مع الأحزاب الفائزة. تجربة يمر بها أحمد داود أوغلو بعد أربعة أشهر من رئاسته حزب العدالة والتنمية ولم تكن سلسة وسهلة.

تبين أن القواعد الانتخابية لديها نزعاتها ولوبياتها وأجندتها، وأن محاولات العدالة والتنمية في إقامة المساواة بين الشعب، والعدل بين البشر، وبث الرحمة باستضافة المظلوم والمستجير، تتقاطع مع أولويات %60 تقريباً من الشعب التركي الذي صوت لغير هذه القيَم.

وهنا يجب أن يكون بداية تقييم الحزب للنتائج، إعادة النظر في المشاريع السياسية والاقتصادية والنظر لرفع دخل المواطن، التركيز على السياسة الداخلية حيث أشغلت المشاكل الحدودية وأزمات الحروب المجاورة والجارة السلطة في تركيا عن منح الداخل كل التركيز. وهذا بالطبع مخطط له وقد نجحت الخطة جزئياً. وإن أراد الحزب العودة لمكانته وجب عليه جلسات طويلة في حساب الذات وإعادة صوغ الخطاب السياسي ليقترب أكثر من القواعد، من دون أن يقدم تنازلا عن القيم الأخلاقية والدينية التي في سبيل تحقيقها وُجِد.

عن الكاتب

خلود عبد الله الخميس

كاتبة وروائية كويتية مختصة في الإعلام السياسي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس