ترك برس
أعرب السياسي والبرلماني التركي السابق ياسين أقطاي، عن استيائه من طريقة تعامل وسائل الإعلام في تركيا مع جريمة الطفلة نارين في ولاية ديار بكر جنوب شرقي البلاد، داعيا إلى تقييم أعمق وأشمل لكيفية التعامل مع القضايا الإنسانية والجرائم البشعة.
وقال أقطاي في مقال بصحيفة يني شفق إنه ورد في القرآن الكريم أن من قتل نفسًا واحدة فكأنما قتل الناس جميعًا. وذلك ليس فقط بسبب فظاعة قتل النفس بغير حق، بل أيضًا لأن القتل يحرم الأجيال القادمة من فرصة الوجود. فحين قتل قابيل هابيل في أول جريمة قتل بتاريخ البشرية، قطع شجرة عائلة كاملة، وحرم الإنسانية من سلالة كاملة. وهكذا تحول نسل آدم إلى نسل قابيل، وحُرم أبناء هابيل من فرصة الحياة. وليس بالضرورة أن يكون جميع أبناء هابيل مشابهين له في الخلق والأخلاق، كما أن جميع أبناء قابيل لم يكونوا جميعاً مثله. فقد ظهر من نسل قابيل أناس صالحون وأنبياء.
وأوضح أن أول جريمة قتل في تاريخ البشرية كانت بدافع الحسد، فبعد أن قدم قابيل قرباناً لله ظن أنه يستطيع خداع الله أو التفلت من أوامره. وكان ساخطاً على وجود ونفوذ أوامر الله في جميع شؤونه حتى في شؤونه الدنيوية. وهكذا فإن النزعة العلمانية ليست كما يعتقد البعض ظاهرة حديثة ظهرت مع تطور البشرية أو نتيجة تطور ذهني أو مؤسسي، بل هي نزعة جاهلية قديمة نشأت مع أول إنسان. وقد قدم قابيل قربانه على مضض، مختارًا أدنى الأشياء قيمة. فتقبل الله قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل، فحسد قابيل أخاه وغضب منه فقتله انتقامًا. وبقتل هابيل، قتل قابيل إنسانية أخرى، وحرم العالم من نسل هابيل. ولكن سرعان ما ندم قابيل على فعلته، وحار بأمرِ جثّة أخيه ماذا يصنع بها، حتى أرسل الله له غراباً ليعلمه ماذا يجب أن يصنع {فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} (المائدة، 31).
ووفقا للكاتب، تتضمن كل جريمة، مهما كانت، درجة من الوحشية والخطورة والبشاعة وكأنها تقتل البشرية جمعاء. ويتم ارتكاب مئات بل آلاف هذه الجرائم البشعة يوميًا في العالم. والذين أزهقوا روح نارين الصغيرة هم أيضًا كمن قتلوا البشرية جمعاء، لا شك في ذلك. وكلما دققنا في تفاصيل الجريمة، زادت بشاعتها وفظاعتها وتجلت مظاهر انحطاط الإنسان أكثر. إلى أي مدى يمكن للإنسان أن ينحط وينحدر إلى مستوى يقدم فيه على قتل طفل بريء؟
وتابع المقال:
ما الذي يميز جريمة قتل نارين عن غيرها من الجرائم لتصبح الشغل الشاغل للبلاد بأكملها منذ حوالي شهر؟ هل نارين هي الضحية الأولى التي تعرضت لهذا الانحطاط البشري في هذا العالم أو في هذا البلد أو حتى في دياربكر؟ بالطبع لا.
ففي دياربكر، هناك أمهات يحاولن منذ أشهر إيصال صوتهن إلى العالم، حيث تم انتزاع أطفالهن بالقوة أو بالخداع أو بتضليل عقولهم. كل واحدة منهن هي نارين جديدة، ولكلٍ منهن قصتها الخاصة. فما تعرضت له بعضهن في الجبال من معاملة وحشية يكفي ليشغل الرأي العام لمدة شهر كامل لو تم التركيز على تفاصيل أي واحدة من هذه الجرائم. ولكن لم تحظَ أي من هذه القصص بنفس القدر من الاهتمام.
ما أقوله هنا لا يتعلق بما إذا كانت جريمة قتل نارين تستحق كل هذا الاهتمام أم لا. بالعكس، كل جريمة قتل وكل مظلوم يستحق أن يكون محور النقاش بنفس القدر. علينا أن نشعل كل ما تبقى فينا من شرارة الإنسانية مجددًا. فربما يتزايد الوعي الإنساني، ويزداد غضبنا تجاه المجرمين، ونستمر في تغذية الحس المشترك بيننا لمنع حدوث مثل هذه الجرائم مرة أخرى.
ولكن للأسف، لا أرى أي مؤشر على أن اهتمام الناس بقضية نارين يدل على زيادة في الحس الإنساني. بل يبدو أن هذا الاهتمام أقرب إلى الفضول الإعلامي الرخيص، ورغبة الناس في إيجاد موضوع للثرثرة وإشباع فضولهم المرضي بمعرفة التفاصيل الدنيئة للقصة. فقد تحولت كل تفاصيل القضية إلى قصص وحسابات جانبية، وكأن جسد نارين البريء أصبح ساحة لتصفية الحسابات.
فما الذي دفع بعض السياسيين أو نساء حزب المساواة وديمقراطية الشعوب إلى ربط القضية بالحكومة أو بحزب الدعوة الحرة (هدى بار) أو بمدارس تحفيظ القرآن؟ نعم، ذُكر في قصة نارين أنها كانت في دورة لتحفيظ القرآن، ولكن لا علاقة سببية لذلك بالجريمة. في الحقيقة القصة تشمل المدرسة وتشمل البيت والأب والأم، وتشمل العالم بأسره.
وقد حاول شخص آخر تحليل القضية من منظور التوجهات السياسية في القرية، وربطها بأحداث أخرى. فالجميع يحاول أن يجد روابط لكل شيء. وعندما تتحول القضية إلى دعوة للجميع لإفراغ ما في جعبتهم، سيحاول الجميع استغلال جسد نارين البريء كأرضية لتحقيق مكاسب خاصة.
لكن في الحقيقة، نحن أمام جريمة قتل، جريمة تمثل قتل الإنسانية كلها، وهي ليست الجريمة الوحيدة التي تحدث في هذا العالم. يجب أن يُحاسب كل قاتل على فعلته، ويجب أن يُعاقب كل مجرم على جرائمه.
ولأول مرة ألاحظ أن تغطية وسائل إعلامنا لهذه القضية باتت تشبه إلى حد كبير تغطية وسائل الإعلام الأمريكية لجرائم القتل. ففي أمريكا، غالبًا ما تستمر تغطية جريمة قتل أو أي خبر من الأخبار المثيرة لعدة أيام أو حتى أسابيع، مع التركيز على جميع التفاصيل والشخصيات المتورطة. أعتقد أن هذه التغطية المفرطة لجريمة واحدة في بلد يعاني من أعلى معدلات الجريمة في العالم تعتبر ظلمًا لبقية الجرائم. فإذا كان التركيز منصبًا على قضية واحدة، فذلك يعني محاولة صرف الانتباه عن قضايا أخرى.
أو يُراد بنا أن نعتقد أن أمريكا تهتم بحياة الإنسان لدرجة أنها تجعل من ظلم فرد واحد قضية وطنية تستمر لأيام. ولكن في الوقت نفسه، تزخر شوارع الولايات المتحدة بالمشردين والنساء اللواتي يتعرضن للقتل ظلماً، بينما أصبحت حياة الإنسان، في ظل الهيمنة الأمريكية لا تساوي قيمة ذبابة في جميع أنحاء العالم، حيث أصبحت المجازر والإبادة الجماعية مجرد أرقام إحصائية.
يمكننا اليوم أن نوجه أنظارنا إلى حياة كل طفل من آلاف الأطفال في سن نارين أو أصغر، الذين يُقتلون ظلماً كل يوم على يد الإسرائيليين، الذين كان الأمر الإلهي موجهاً إليهم في قوله تعالى {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا}، ستدركون حينها مدى وحشية وفظاعة وخسة جرائم القتل التي يرتكبها الإسرائيليون. والتي يتم تجاهلها وتغييبها في زوايا الإعلام المظلمة، فتصبح مجرد أرقام تنسى تدريجياً.
ونتذكر الشهيدة عائشة نور أزغي إيغي، التي قتلت بدم بارد على يد الصهاينة، والتي كانت نموذجاً للإنسانية والبراءة والشرف والبطولة. نسأل الله أن يتقبلها في الشهداء، وأن يجعلنا من الشاهدين على جرائمهم.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!