
إبراهيم قاراغول - يني شفق
ماذا تمثّل غزة بالنسبة لنا؟ هل نضال الشعب الفلسطيني العظيم محصور فقط بفلسطين؟ أم أن ما يتعرض له هذا الشعب من إبادة جماعية في غزة يُلقي بمسؤوليات جسيمة على عاتق الدول القوية في هذه الجغرافيا؟
هل الحل الوحيد لأهالي غزة هو إخراجهم من أرضهم ونقلهم إلى أماكن أكثر أمانًا؟ أليس هذا ترحيلًا، تهجيرًا قسريًا، وتطهيرًا عرقيًا؟ من هو الطرف الذي يسوّق هذا الرأي؟ ومن يستخدمنا لتمرير هذه القناعة؟
غزة... هل هي مجرد رقعة جغرافية؟ أم أنها أنقى تجليات الوجود، وأشدها تحدّيًا؟
غزة ليست قطعة أرض. ليست عقارًا يُباع ويُشترى. ليست مكانًا يُقدّر بثمن. شعب غزة ليس مجرد جماعة بشرية بحاجة إلى معونات اقتصادية. ولا هم شعب يُعامل بصفة "لاجئ".
ما يدافعون عنه بأرواحهم هو الهوية، الكرامة، وأصفى صور الوجود الإنساني. إنها الحقيقة التي تفضح تقصيرنا، وتدفننا في ضمائرنا، وتُحرج رؤوسنا، وتُرتجف لها قلوبنا، وتدفعنا لإعادة النظر في وجودنا، وتقبض على أيدينا من شدة الغضب، وتكسرنا من وطأة العجز.
غزة الصغيرة، تمثل نداءً يتجاوز فلسطين والعالم العربي، ليبلغ كل جغرافيا العالم الإسلامي. إنها الرسالة الإلهية التي تُبلغ إلى مئات الملايين من البشر من خلال حفنة من الأحرار.
إنها النموذج الأشد وضوحًا في التحدي لحملات "الحروب الصليبية" في القرن الحادي والعشرين، التي شهدناها بأبشع صورها في هذا العصر، وتحوّلت خلال الثلاثين عامًا الأخيرة إلى عملية إبادة شاملة.
هل أسأتم فهم التاريخ منذ الحروب الصليبية حتى اليوم؟
إن هذا النضال من أجل الوطن والحق في الحياة، يتجاوز حدود الأرض والعيش، ليحمل معنى أعمق يتعلق بالتاريخ والجغرافيا. وقد أظهر شعب غزة، عبر تضحياته الجسيمة، أن القضية أكبر من مجرد البقاء، وأنها متجذرة في جوهر الوجود نفسه.
إذا كانت غزة مجرّد أرض، وإذا كان الهدف هو إنقاذ حياة مليونين ونصف المليون من البشر، فالعالم الإسلامي واسع، ويمكن إيواؤهم في أي مكان. لكن مجرد التفكير بهذه الطريقة يجب أن يكون مدعاة للخجل.
من يفكر بهذا الشكل، لم يفهم شيئًا من هوية التاريخ والجغرافيا. إن فهمه للنضال الذي خيض منذ أولى الحملات الصليبية، في الأناضول والقدس، هو فهم عديم الشخصية. لم يدرك جوهر المواجهة الكبرى التي نخوضها اليوم إلى جانب تركيا، ولا الأثمان الباهظة التي دُفعت في سبيلها.
هل خضنا ملحمة ملاذكرد وغزونا الأناضول من أجل النهب؟
من يظن أننا، عندما دافعنا عن المدينة المنورة قبل مئة عام، أو خضنا معارك غزة عام 1917، أو أرسلنا شباب الأناضول إلى اليمن، وبلاد الرافدين، وقناة السويس، إنما فعلنا ذلك من أجل الأرض فقط، فهو إما جاهل أو غبي.
وإذا كان يقول ذلك عن قصد، فهو خائن.
من يفكر بهذه الطريقة قد يتصور أننا دخلنا الأناضول في عام 1071 لنهبها، أو اجتزنا أبواب فيينا لنهب ثروات البلقان وأوروبا.
قد يظن أننا حين حاربنا الاستعمار وأرسلنا المساعدات إلى آتشيه (في إندونيسيا)، كنا نطمح إلى نهب "نفطها"! نعم، لم يكن هناك نفط آنذاك، لكن من يتبنّى هذا الفكر الأعوج قد يتوهم حتى هذا.
هل احتلوا القدس من أجل "زيتونها"؟
قد يظن البعض أن العثمانيين حشدوا ثرواتهم في لبنان والشرق الأوسط خلال الحرب العالمية الأولى من أجل الفوز على البريطانيين في حرب ثروات! وقد يتوهم آخرون أن البريطانيين احتلوا القدس من أجل بساتين الزيتون فيها!
بل ربما يتصور أن مشروع تدمير الدولة العثمانية بعد الحرب، وما أعقبه من إقامة دول وظيفية وقواعد استعمارية، كان فقط من أجل السيطرة على النفط.
لكن التاريخ، والجغرافيا، والهوية، والإدراك، ووعي الماضي، ورؤية المستقبل، وحسابات القوة التركية، تتجاوز مسألة الأرض والثروات والرفاه بمراحل. نعم، كل هذه الأمور جوهرية وأساسية، ونحن بالطبع نرى في مفهوم الوطن قداسة لا جدال فيها.
لكن هناك حسابًا آخر، ضارب الجذور في عمق التاريخ الإنساني. ونحن نقف عند هذا الحساب. ومن لا يفهم هذا البعد، فإن كل تصوراته وتوقعاته بشأن تركيا والمنطقة اليوم وفي المستقبل، لا قيمة لها إطلاقًا.
حرّروا عقولكم!
لقد خلّف القرن العشرون، ذلك العصر الاستعماري، تلوّثًا ذهنيًا عظيمًا أصاب بصيرتنا بالعمى. ومن لم يُطهّر ذهنه من هذا التلوّث، لن يتمكن من فهم كل ما يجري من حوله على حقيقته. ومن لم يعِ معنى الحرية الذهنية، فلن يدرك ما يحدث في غزة، ولا المسار الذي تسلكه تركيا.
علينا أن نتخلص فورًا من أولئك الذين ما زالوا يفكرون بعقلية أمريكية أو بريطانية أو أوروبية، بل حتى إسرائيلية، ثم يتحدثون عن مصير أوطاننا ومستقبل شعوبنا.
تسويق أطروحات أمريكا وإسرائيل بغطاء المفاهيم الإسلامية!
أصدرت رئاسة دائرة الاتصال في الرئاسة التركية يوم الأحد بيانًا نفت فيه بشكل قاطع المزاعم التي تقول إن "أهالي غزة سيتم نقلهم إلى المخيمات المُعدّة للسوريين". وكانت قد انتشرت سابقًا في تركيا تقارير تُروّج لفكرة نقل سكان غزة إلى دول مثل تركيا أو الجزائر. ويا للأسف، فإن هذه الأطروحة بدأت تُسوّق تحت مسمّى "الهجرة"!
لكنها في الحقيقة هي الجوهر الأساسي لأطروحة أمريكا وإسرائيل؛ فهي غاية لا يمكن لإسرائيل تحقيقها بقدراتها الذاتية: أن تُهجّر شعب غزة، ثم تستولي على القطاع، وتنتهي المسألة.
ولكن، إذا طُرحت غدًا المطالبة بالبوسفور في إسطنبول، هل سنُهجّر من إسطنبول أيضًا؟ وإذا طُلبت غدًا مناطق الغرب السوري، هل سنُهجّر سكانها تحت مسمى "الهجرة" أيضًا؟ هل سنقول: "لا نملك القوة حاليًا، فلنرحل، ثم نعود لاحقًا"؟
هل تقترحون خيانة الوطن؟
غدًا، إذا طالبوا بتراقيا، هل علينا إفراغ سكان المنطقة؟ وإذا سعوا إلى اقتطاع جزء من تركيا عبر تنظيم بي كي كي الإرهابي، فبحسب هؤلاء "المروّجين"، كان علينا منذ زمن بعيد أن نتخلى عن شرق وجنوب شرق الأناضول!
لقد عايشنا مثل هذه الخيانات كثيرًا في زمن الحرب العالمية الأولى. كما شهدنا خيانات مماثلة خلال القرن العشرين، في ظل العقول الاستعمارية التي تولت إدارة شؤون المنطقة.
دعك من المعاني العميقة التي تتجاوز مجرد كون غزة وطنًا، فحتى لو كانت القضية مجرد مسألة أرض، فإنهم يقترحون علينا خيانة الوطن. إن هذه العقول المسمومة بالاستعمار في حقيقتها تبعية استعمارية، فهم يحاولون تشكيل وعينا وفقًا لأطروحات الولايات المتحدة أو بريطانيا.
حتى التنظيمات الإرهابية التي دمّرت جغرافيتنا صيغت بهوية "إسلامية"!
المثير للريبة أن هذه الأطروحات تُسوّق دومًا بمفاهيم دينية إسلامية. فمواقف إسرائيل وأمريكا وبريطانيا تُمرَّر عبر الأوساط المحافظة والإسلامية.
بل حتى أعضاء "الموساد" الذين أُلقي القبض عليهم في تركيا ظهروا بهويات "إسلامية"، ولهذا دلالة خطيرة. من الملفت أيضًا أن أولئك الذين طالبوا بالحماية البريطانية منذ العهد العثماني هم من الدوائر المحافظة نفسها.
ومن المُفجع أن معظم التنظيمات الإرهابية التي نشأت في العالم الإسلامي خلال العقود الثلاثة الماضية (باستثناء واحد أو اثنين) حملت هوية "إسلامية".
فتنظيم داعش، والشباب، وغيرهما، خدموا المصالح الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية، ودمّروا المجتمعات الإسلامية، ومهّدوا الطريق أمام الاحتلال الغربي.
رأينا من يقاتل باسم "الجهاد" لأجل أمريكا، وبريطانيا، وإسرائيل!
نعم، لقد قيل على هذه الأرض إنهم "يجاهدون من أجل أمريكا"! وشاهدنا كثيرين "يجاهدون" سرًا من أجل بريطانيا طوال قرن من الزمن! وحدث أن جرى القتال سرًّا من أجل إسرائيل!
تُنظَّم صفوف المسلمين، يُسلَّحون، يُزجّ بهم في المعارك، فيقتلون ويموتون... ولكن لحساب من؟
لم ينتهِ الأمر. فاليوم، هؤلاء أنفسهم هم من يقررون مصير أهل غزة، وتمامًا كما تريد إسرائيل، يروّجون لتهجيرهم كحل وحيد، بل ويُسوّقون هذا التهجير تحت غطاء ديني تحت اسم "الهجرة".
لكن، أن تتخلى عن وطنك، وأرضك، ووجودك لصالح عدوك ليس هجرة! من يروّجون لهذا المفهوم يستخدمون مصطلح "الهجرة" لأغراض خبيثة للغاية. إن فهمهم للإسلام مشوَّه، بل مشبوه.
هؤلاء يشكّلون خطرًا حتى على هوية هذه الأرض. فهم امتداد للعقلية التي أعادت تشكيل جغرافيتنا في القرن العشرين وفقًا لمحور أمريكا وبريطانيا، وهم "المسوّقون الداخليّون" لهذا المخطط.
هذه العقول... هي بريطانيا التي احتلّت القدس! ولن تكون يومًا صلاح الدين أو الفاتح أو يافوز سليم!
هذه العقليات ليست امتدادًا لروح الأمة، بل هي بريطانيا التي احتلت القدس. لن يكونوا يومًا صلاح الدين، ولا الفاتح، ولا السلطان يافوز سليم. لن يكونوا من سلالة أولئك القادة العظام.
وإذا ضاقت بهم الأمور، سيبيعون حتى الأناضول، ويقولون: "دعونا نغادر، نعود إلى آسيا الوسطى، فقد جئنا أصلًا من هناك!"
نعم، حتى لو كانوا مسلمين، فإنهم غرباء عن هذه الأرض!
بدأت نهاية إسرائيل وتراجعها. القوى العالمية التي تقف خلفها بدأت تتفكك. وانتهى عهد الحصانة الذي استمر منذ عام 1948. ومع تواصل هذا التراجع، ستنهار كل المظلات التي كانت تحمي إسرائيل. لقد بدأ موسم استخدام القوة ضد إسرائيل.
زمن حبس إسرائيل داخل حدودها وخنقها في عقر دارها
المعادلات الجيوسياسية العالمية تغيّرت. المزاج العام تغيّر. والوعي التاريخي والسياسي الممتد لألف عام في تركيا بدأ يستيقظ. الموقف التركي يزداد تجذّرًا في المنطقة. في مثل هذا الزمن، لن نعيش قرنًا آخر من الهزائم بالاحتماء بخطط الانسحاب القديمة التي سادت في القرن العشرين.
يجب تفعيل كل عناصر الحرب غير المتماثلة ضد إسرائيل. ويجب الدفع بكل خيارات التدخل غير المباشر إلى الميدان. على إسرائيل أن تُحبس داخل حدودها، وتُخنق في دارها. الجغرافيا سلاح، ويجب تصويبه دون تردد نحو إسرائيل. يجب عزلها برا وبحرا وجوا.
إسرائيل ضعيفة وجبانة... قوتها في عقولكم، فتخلّصوا من هذه الهيمنة!
يجب أن تُواجَه كل اعتداءاتها على سوريا وسيناء ولبنان وغزة فورًا. إسرائيل دولة ضعيفة. دولة جبانة. بلد لم يستطع رغم ارتكابه مجازر الإبادة ضد حفنة من سكان غزة أن يخضعهم، فهل يتجرأ على تحدي دول المنطقة؟ هذا محض استعراض.
قوّتها في السيطرة على العقول... وهي تُحسن استغلالها. وإذا كان هؤلاء يروّجون الآن للتهجير باسم "الهجرة"، فعلينا أن نبدأ بالتخلّص من تلك العقول أولًا. يجب ألّا نسمح لهم برهن الجغرافيا من جديد. ويجب إنهاء لعبة العقل البريطاني والأمريكي والإسرائيلي على الأرض التركية إلى الأبد.
يجب استخدام القوة ضد إسرائيل، وإدخال الخيار العسكري إلى المعادلة بطريقة ذكية ومدروسة وشاملة. لقد آن الأوان لذلك. وفي ظل كل هذا، فإن الذين لا يزالون يروّجون لفكرة "الانسحاب" لن تكون لهم أي كلمة مسموعة أو مؤثرة على هذه الأرض.
لا تسمحوا لأحد أن يستخدم الإسلام لضربنا! أنتم لا تفهمون... غزة انتصرت، وأنتم الخاسرون!
من يعجز عن مقاومة الإبادة، ويروّج لفكرة الهزيمة، لم يعد له أي احترام. لقد طُويت صفحة هزيمة الدولة العثمانية. ومن لا يزال يعيش في تلك الهزيمة، فهو خارج السياق؛ لا وجود لتركيا، ولا لغزة، ولا للعالم الإسلامي في منطقه... بل هناك فقط أمريكا وبريطانيا وإسرائيل.
على الجميع أن يعيد النظر في مكانه.
لا تسمحوا لأحد أن يضربنا بالإسلام، أو يُسخّر مفاهيم الإسلام لتسويق الخيانة. لقد رأينا بأعيننا عملاء مخابرات بريطانية يصلون إلى مرتبة "شيخ" في هذه الأرض، ولا نريد رؤية مزيد منهم!
ربما لا تدركون، لكن مقاومة غزة قد أطلقت شرارة انهيار إسرائيل. لقد فُتحت كل الأبواب أمام استخدام القوة ضدها. والتاريخ سيتحرك في هذا الاتجاه... سواء شئتم أم أبيتم.
أما من يروّج لفكرة "الهجرة"، فقد انتهى دوره في هذه الجغرافيا. إنهم لا يفهمون هذا العالم الجديد.
لقد انتصرت غزة، وأنتم من هُزم!
فلننظر الآن إلى المستقبل الحقيقي للتاريخ.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!