
ترك برس
تناول مقال للكاتب والمحلل السياسي التركي يحيى بستان، أبعاد الانتخابات الرئاسية في جمهورية شمال قبرص التركية التي أسفرت عن فوز زعيم الحزب الجمهوري التركي طوفان أرهورمان، مستعرضا دلالات هذا الفوز في ظل تحول السياسة التركية تجاه القضية القبرصية من خيار الفيدرالية إلى حل الدولتين المستقلتين.
يوضح الكاتب في مقاله بصحيفة يني شفق أن نتائج الانتخابات لا تعبّر فقط عن ميول أيديولوجية، بل عن تبدّل أولويات القبارصة الأتراك نحو القضايا المعيشية أكثر من السياسية، ويضع الحدث في سياقه الجيوسياسي الأوسع، مشيرًا إلى تصاعد التوتر في شرق المتوسط، وتنامي الدور الإسرائيلي في الجزيرة، ومساعي الغرب لإعادة الانفتاح على أنقرة في ضوء الحرب الأوكرانية.
وفيما يلي نص المقال:
أُجريت الانتخابات الرئاسية في جمهورية شمال قبرص التركية، وأسفرت عن فوز زعيم الحزب الجمهوري التركي طوفان أرهورمان. وقد اكتسبت هذه الانتخابات أهمية استثنائية لسببين رئيسيين؛ أولهما أن أنقرة غيّرت محور سياستها في قبرص وكانت تسعى إلى ترسيخ موقعها الجديد، وثانيهما أن الظرف الإقليمي فرض على تركيا اتخاذ بعض القرارات المهمة.
وفي هذا التوقيت الحاسم، من الأهمية بمكان معرفة من سيفوز. هل هم "دعاة الفدرالية" الذين يدافعون عن الاتفاق مع القبارصة الروم؟ أم هم أنصار الحل القائم على "دولتين مستقلتين" الذين يتحركون بالتنسيق مع أنقرة؟ لقد تحولت النقاشات السياسية الداخلية في شمال قبرص إلى ما يشبه "الاستفتاء". ولكن، هل تحولت فعلاً إلى استفتاء؟ وهل عبّر القبارصة الأتراك باختيارهم أرهورمان عن رغبتهم في الفيدرالية؟
عقب إعلان النتائج، اتصلت بصديق لي في قبرص، ولم أكن أعلم حينها أنه على تواصل مباشر مع أرهورمان، بل وكان برفقته وقت الاتصال. استمعت منه إلى رؤى الرئيس الجديد وتوجهاته وخططه المستقبلية، وكذلك إلى بعض النقاشات التي تجري خلف الكواليس. لكن قبل عرض تفاصيل ذلك، دعونا أولاً نرسم الإطار العام للمشهد.
هل الأمر مجرد "استفتاء"؟
من المعلوم أن أرهورمان ينتمي إلى الخط "الفدرالي". فهل صوّت القبارصة الأتراك لصالح الفدرالية؟ إذا نظرت إلى الحدث من زاوية آنية وضيقة، فستكون الإجابة"نعم". لكنها ستكون خاطئة.
وفي عام 2005، فاز "الفيدرالي" محمد علي طلعت في الانتخابات الرئاسية بنسبة 56% من الأصوات، وخسر منافسه مؤيد "الدولتين" درويش أروغلو. وبعد خمس سنوات، في عام 2010، أصبح درويش أروغلو رئيساً للجمهورية. ثم في عام 2015، فاز مؤيد آخر لـ"الفيدرالية" مصطفى أكنجي في الانتخابات، وكانت الخسارة من نصيب درويش أروغلو. أما في عام 2020، فحدث العكس تماماً، حيث فاز "أنصار الدولتين" برئاسة أرسين تتار، فيما خسر مصطفى أكنجي.
فماذا تخبرنا هذه التباينات؟ هناك "بندول" سياسي في جمهورية شمال قبرص التركية يتأرجح كل خمس سنوات من طرفٍ إلى آخر. فهل يمكن القول بالنظر إلى هذا التأرجح إن القبارصة الأتراك يغيّرون رأيهم بشأن الفيدرالية أو الاستقلال كل خمس سنوات؟ سيكون هذا تبسيطًا مفرطًا للواقع. الحقيقة أن المسألة أكثر تعقيدًا من ذلك. فهذه التحولات المتناقضة بنسبة 180 درجة كل خمس سنوات تشير إلى أن العامل الأكثر حسمًا في النتائج ليس القراءات الجيوسياسية بقدر ما هي التطلعات المتعلقة بالحياة اليومية. كما تشير النتائج السابقة إلى أنه من المُرجّح في عام 2030 أن نشهد عودة "أنصار الدولتين" إلى الحكم.
تغيّر مسار السفينة
لقد أغلقت أنقرة ملف الفيدرالية في قبرص، وهذه خطوة بالغة الأهمية. وما لا يقل أهمية عن ذلك هو أن الأمم المتحدة نفسها فقدت الأمل في "الفيدرالية". وقد كتبت تفاصيل ذلك في الأول من أيار/مايو: "الأمم المتحدة تتخذ موقفًا جديدًا حيال قضية قبرص. فبعد أن كانت في السابق تدعم المفاوضات للتوصل إلى حل نهائي، تخلّت عن هذا الموقف بناءً على تقرير ممثلة الأمين العام، هولغوين، الذي لم يُكشف عن مضمونه، لكنه يتضمن تأكيدًا بعدم بقاء أرضية مشتركة بين الطرفين لإنشاء اتحاد فدرالي،" (انظر: قبرص وسوريا.. الأحداث تأخذ منعطفًا جديدًا). وفي هذا الإطار، ترغب الأمم المتحدة الآن في التركيز على خطوات من شأنها تسهيل الحياة اليومية بدلاً من البحث عن حل نهائي. ففي شهري آذار/مارس وتموز/يوليو، عُقد اجتماعان برعاية الأمم المتحدة، بمشاركة الأطراف المعنية والدول الضامنة، ولم يُذكر فيهما كلمة "الفيدرالية". يومها قال لي أحد مصادري القريبة: "لقد تغيّر مسار السفينة."
التوتر يتصاعد في شرق البحر المتوسط
لقد حولت إسرائيل الشطر الرومي من قبرص إلى قاعدة لوجستية للإبادة الجماعية. وإلى جانب ذلك، نقلت إسرائيل خط دفاعها ضد تركيا إلى الجزيرة. فأرسلت رادارات وأنظمة دفاع جوي إلى الشطر الرومي. وبدأ الإسرائيليون بشراء الأراضي هناك. هذه التطورات أدت إلى نقاشات جعلتني أعتقد أن أنقرة على وشك اتخاذ قرارات هامة. أرى أنه ينبغي مواجهة الحشد العسكري الإسرائيلي في الجزيرة بحشدٍ مماثل، ونقل خط الدفاع عن “الوطن الأزرق” إلى الجزيرة لحماية مصالح تركيا والقبارصة الأتراك.
اجتماع لافت في لوكسمبورغ
بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، يسعى الغرب إلى إيجاد لغة جديدة في التعامل مع أنقرة. وقد وصلت الأمور إلى درجة أن وزير خارجية ألمانيا، فاديفول، قال في أنقرة الأسبوع الماضي: "إن تعزيز قدرة تركيا الرادعة يصب في مصلحتنا" (في إشارة إلى صفقة طائرات "يوروفايتر"). إن الاتحاد الأوروبي يحاول سد الثغرة العميقة في بنيته الأمنية عبر دعم أنقرة.
لكن المسألة لا تقتصر على أوكرانيا أو روسيا فحسب. فقد عُقد بالأمس في لوكسمبورغ اجتماع مثير للاهتمام لمجلس العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي تحت عنوان "الأمن والترابط الإقليميين". وشارك في الاجتماع وزراء خارجية الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وهذا أمر طبيعي، لكن اللافت هو أن ممثلين عن تركيا، وأذربيجان، وأرمينيا، ومولدوفا، وأوكرانيا، وكازاخستان، وقرغيزستان، وأوزبكستان، وطاجيكستان، وتركمانستان حضروا أيضاً.
لدى الغرب استراتيجية لتطويق روسيا والتركيز على الصين. ويطلق ممثلو ترامب على البنية الإقليمية التي يسعون إلى تشكيلها في الشرق الأوسط اسم "اتفاقيات إبراهيم". ويرغبون في توسيع هذه الاتفاقيات لتشمل القوقاز، ومن ثَمَّ آسيا الوسطى. إذا نظرنا إلى قائمة المدعوين للاتحاد الأوروبي... نجد أن رؤية الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لهذه المنطقة بدأت تتقاطع وتزداد تنسيقاً.
والعنصر الحاسم هنا هو موقف تركيا. إن التحول السريع والإيجابي في نهج الغرب مع أنقرة يهدف إلى فتح هذا الباب. ولكن أوروبا تحديداً، تتعثر في علاقاتها مع تركيا بسبب المطالب المتطرفة للإدارة القبرصية اليونانية. وتستعد برلين لممارسة الضغط على أثينا لضمان استفادة تركيا من اتفاقيات (SAFE) المتعلقة بصناعاتها الدفاعية وتعميق العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا.
ماذا سيفعل أرهورمان؟
في ظل هذا السياق المعقد الذي يجمع بين التغيرات في مفاوضات قبرص، وتصاعد التوترات في شرق البحر الأبيض المتوسط، والمعادلة الغربية التركية، تكتسب نتائج الانتخابات في جمهورية شمال قبرص التركية أهمية خاصة تتطلب متابعة دقيقة.
لذا دعونا نعود إلى المكالمة الهاتفية التي أجريتها مع صديقي. أولاً: قوبلت رسالة التهنئة التي نشرها الرئيس أردوغان على وسائل التواصل الاجتماعي بالترحيب في شمال قبرص، ولهذا تم توجيه شكر خاص لأردوغان في "خطاب الشرفة" (خطاب الفوز). ثانياً: يرغب أرهورمان في التعاون الوثيق مع أنقرة، مؤكدًا أنه "لن يتم تحديد السياسة الخارجية دون التشاور مع تركيا". ثالثاً: يدرك أرهورمان أن قرار الفيدرالية اليوم سيكون ضد مصلحة القبارصة الأتراك، ولهذا لن تُطرح هذه القضية على جدول الأعمال. رابعاً: هناك طلب قوي لحل الدولتين في قبرص. وقد صرح أرهورمان قائلاً: "أنا رئيس الجميع". لذلك لا يمكنه اتخاذ موقف ضد حل الدولتين، لكنه لن يكون أيضاً في موقع الدعم القوي كما كان أرسين تتار.
فماذا سيحدث إذن؟ لقد تغير مسار السفينة بالفعل. والعودة إلى النقاشات القديمة في قبرص لم يعد لها معنى أو فائدة. وقد تؤدي المقاربات المختلفة إلى إبطاء المسار، لكنها لن تستطيع تغييره. والخمس سنوات القادمة فترة قصيرة في عمر الدول، لذا دعونا نركز على المسار الجديد.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!