د. أحمد البرعي - خاص ترك برس

يا لها من مصادفة، في (الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني) 2006 توجه الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية لصناديق الاقتراع لاختيار ممثليهم في المجلس التشريعي الفلسطيني في ثاني انتخابات تشريعية منذ إقامة السلطة الوطنية الفلسطينية في العام 1994. كانت تلك هي الانتخابات اليتيمة التي استطاع فيها أبناء جيلي الادلاء بأصواتهم واختيار ممثليهم في عرس ديمقراطي لم تُتَح لنا الفرصة أن نشهده مرة ثانية.

اليوم هو الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 وهو اليوم الذي تشهد فيه الجمهورية التركية الانتخابات البرلمانية في دورتها السادسة والعشرين، وكفلسطيني يعيش في تركيا، خرجت أتجول في شوارع إسطنبول أرقب وجوه الناس وكيف تسير هذه العملية الانتخابية الديمقراطية، فقد اشتقت حقًا لأجوائها وعليل نسيمها الذي يدغدغ "عاطفة الحرية" فينا. لا أخفيكم القول، لا يستطيع المرؤ إلا أن يغبط إخوانه الأتراك على هذا المشهد الديمقراطي المهيب، إذ ترى الرجل بعائلته، بأبويه، وأبنائه، وزوجته، وأطفاله، يؤمون مراكز الاقتراع في إقبال قل نظيره في أرقى الديمقراطيات الغربية. يحرص كل تركي بالغ "عاقل" على ممارسه حقه في اختيار نوابه والمشاركة في هذه العملية الديمقراطية التي تدعم أركان دولة مدنية حديثة تحترم اختيارات الشعب وتوجهاته.

لا يقتصر الأمر على أولئك الذين يحق لهم الانتخاب، فقلما تجد من يذهب لمراكز الاقتراع وحده، بل يحرص المعظم منهم على اصطحاب أبنائه وأطفاله الذين لا يحق لهم التصويت لا لشيء إلا إظهارًا لحرصه الشديد على ترسيخ هذا المشهد الديمقراطي في عقول وضمير هذا الجيل الصاعد، وتربيته تربية رشيدة على التمسك بحقوقهم الديمقراطية وعدم التنازل عن استخدام الحق في اختيار نوابهم وممثليهم.

هل سألت نفسك كعربي في أي قطر كنت من الأقطار. متى كانت المرة الأخيرة التي شهدت فيها عملية انتخاب حقيقية، شعرت فيها بأن لصوتك قيمة، وأنك تشارك فعلياً في بناء تصور لمستقبل بلادك باختيارك للقوي الأمين الذي سيكافح وينافح عن حقوق الشعب والمظلومين والمقهورين من أبناء هذه الشعوب الضائع حقها؟ متى شعرت فعلاً أن لصوتك معنى، وأنك تشارك في التأسيس لمجتمع يُحترم فيه رأي الناس واختياراتهم دون تدليس ولا تدنيس لأصواتهم بفنون التزوير والتلاعب والتضليل؟ متى شعرت أن من يقومون على أمور بلادنا معنيين حقًا بأن يكون للشعب حرية اختيار أو تعبير عن الرأي؟ متى شعرت أن هؤلاء القائمين على شؤون بلادنا يحترمون هذه الشعوب وينزلون عند قراراتها واختياراتها؟ أم أنك تشعر كما يشعر الجميع أن تلك الطغمة الفاسدة والزمرة العفنة التي سُلّطت على رقاب شعوبنا لا ترى لهذه الشعوب أي حق في اختيار أو حرية في ابداء رأي أو تقرير مصير، فهم يروننا، إن كانوا فعلاً يرون، أننا مجرد رعاع لا نصلح لشيء وغير مؤهلين للاختيار، فنصّبوا أنفسهم وكلاء عن الشعوب واختاروا أنفسهم حكامًا ورؤساء، وركبوا هذه الشعوب، وامتطوا ظهورها، وعملوا على تشويه وعييها، وتجريف حاضرها، وتشويه تاريخها، وتدمير عقولها بشتى فنون التغييب والإفساد الأخلاقي والقيمي، فأضحى الحديث عن الحرية وحق اختيار النواب من كماليات الحياة وهوامش الأولويات.

ولكني أحلم أن يومًا قريبًا جدًا، ليس بالحلم ولا بالتمني، ستصبح هذه البلاد واحة للديمقراطية، وستفر تلك الفئران والجرذان التي أخضعت رقاب الشعوب دهرًا من الزمن، وستصبح جزءًا من ماض غير مأسوف عليه، فالشعوب وإن استكانت إلا أنها لا تموت، وشعوبنا العربية واعية والخير فيها، وتعلم أنه قد آن الأوان لكي تعود إلى واجهة التأثير، وأن تصبح فاعلاً لا مفعولاً به، فها هي تعاين وترقب شعوبًا أخرى قاست وعانت ما نقاسيه ونعانيه اليوم، وها هي ترسم مستقبلها بوعيها واصرارها على التمسك بحقوقها وحريتها.

أيًا كانت النتائج التي ستتمخض عن هذا العرس الديمقراطي الجميل، فإن الجمهورية التركية قد وضعت أقدامها على طريق صحيح لبناء المستقبل، وبناء الإنسان الحر الفاعل المؤثر الإيجابي الذي يشارك في تصميم سياسات وتوجهات بلده، وليس السلبي الخانع الذي رضي أن يمثله أراذل الناس وأتفههم، وقبل أن يُغيّب عن بناء مستقبل أفضل لنفسه ولأبنائه من بعده.

يرى معظم المراقبون أن العدالة والتنمية سيحقق فوزًا، ليس ساحقًا، ولكنه سيضمن له تشكيل الحكومة بمفرده، وسيمضي بتركيا في طريق النمو والاستقرار، وسيرفع من شأنها إقليميًا ودوليًا، ولا يسعنا إلا أن ندعو لتركيا بالخير والاستقرار فهي عمق لأحلامنا المنسية، ونصير لتطلعات شعوبنا العربية.

عن الكاتب

د.أحمد البرعي

باحث ومحاضر في قسم الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة أيدن


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس