ترك برس

يعزو المؤرخ التركي "رشاد أكرم كوجو" تكرار الانقلابات العسكرية في تركيا، خلال السنوات الماضية، إلى الإرث التاريخي الذي يحمله الجيش التركي الوريث الأساسي لجيش الانكشارية العثماني.

ويشير كوجو، في دراسته الأكاديمية "التسلسل التاريخي لانقلابات جيش الانكشارية"، إلى أن انقلابات الانكشارية العسكرية ظهرت للسطح تكرارًا ومرارًا، لعدة أسباب أهمها؛ تراجع بعض السلاطين العثمانيين عن الخروج للفتوحات وبالتالي افتقار جيش الانكشارية للغنائم التي كانت تمثله مصدره الأساسي في التمويل، اتباع بعض السلاطين العثمانيين سياسات تغيير جذرية تناقض أفكار شيخ الإسلام أو الوزراء المُحيطين بالسلطان، فيتأمرون مع جيش الانكشارية عليه، مثل انقلابهم على السلطان "سليم الثالث" لإعلانه قوانين "النظام الجديد" عام 1807.

ووفقًا للدراسة الأكاديمية التي يتناولها كوجو، فإن واقعة "بوجوك تابه" هي أول انقلاب عسكري في تاريخ الدولة العثمانية، فبعد هذه الواقعة أصبح احتمال "انقلاب الانكشارية" يُلاحق جميع السلاطين الذين اعتلوا عرش السلطنة في الدولة العثمانية.

وجيش الانكشارية هو المؤسسة العسكرية للدولة العثمانية، وتُبين المواثيق التاريخية أنه تم تأسيسه في عهد السلطان العثماني الثاني "أورخان غازي"1281 ـ 1362" ، وكان يحرص السلاطين العثمانيين على جعل جنود جيش الانكشارية من الأطفال المسيحيين الذين كانت تأخذهم الدولة العثمانية وتلحقهم بالقصر لتعليمهم تعاليم الإسلام وضمهم إلى مراكزها المدنية والعسكرية، لاعتقادهم بأنهم أكثر ولاءً من الجنود المسلمين الذين يمكن أن ينتفضوا عليهم.

على الرغم من حرص السلاطين العثمانيين على تحييد جيش الانكشارية إلا أنهم لم يفلحوا في ذلك، وواجه أكثر من سلطان عثماني انقلابات ناعمة وأخرى دموية من جيش الانكشارية، وكانت واقعة "بوجوك تابه" أولى هذه الانقلابات.

حدثت واقعة "بوجوك تابه" في عهد السلطان العثماني "محمد الفاتح" الذي تسلم مقاليد الحكم بعد تنازل والده له عنها طوعًا عام 1443، إذ قام "محمد الفاتح" عقب توليه مقاليد الحكم بتخفيض قيمة النقود من خلال تخفيف نسبة الفضة الحقيقية المُكونة لها، الأمر الذي أثر سلبًا على اقتصاد الدولة العثمانية، وطال التأثير السلبي للأكجا العثمانية جيش الانكشارية وجنوده.

امتعض جيش الانكشارية بشكل كبير من قيام "محمد الفاتح" بذلك، وعبروا عن انزعاجهم من خلال إشعال النيران سرًا في أحد أكبر أسواق مدينة "أديرنة"، لم يكتفي المنقلبون من جيش الانكشارية باشعال النيران بالسوق بل قاموا أيضًا بنهب منزل وزير الدولة "صباح الدين باشا" ووصلوا إلى مكان إقامة "محمد الفاتح" إلا أنهم ووجهوا بحراسة مشددة للقصر، فاضطروا للانسحاب إلى منطقة تُسمى "بوجوك تابه".

حاول "محمد الفاتح" تهدئة المنقلبين من جيش الانكشارية من خلال رفع رواتبهم بشكل جيد، إلا أنهم لم يوقفوا عصيانهم، وبعد تفاوض الصدر الأعظم "خليل باشا" معهم، تبين أنهم يريدون رجوع السلطان "مراد الثاني" أب السلطان "محمد الفاتح" إلى رأس الحكم، لتعود الأمور إلى نصابها من جديد، ويصلح ما قام "محمد الفاتح" بإفساده عقب توليه مقاليد الحكم.

وكان من نتائج الانقلاب الأول لجيش الانكشارية على أحد السلاطين العثمانيين، اضطرار السلطان العثماني "محمد الفاتح" للنزول عن العرش وتسليمه لوالده من جديد، وعاد والده إلى مقاليد الحكم بعد أقل من عام على اعتلاء "محمد الفاتح" لسدة الحكم.

وتُعتبر واقعة "بوجوك تابه" البذرة الأولى التي زرعت منطق الانقلاب العسكري داخل أركان الدولة العثمانية، فأصبحت الانكشارية على أهبة الاستعداد للانقلاب على السلطان العثماني الذي لا تتوافق سياسته مع مصالحهم العامة.

ولم يقف منطق انقلاب الجيش على الحاكم على الدولة العثمانية، بل امتدت عدواه إلى الجيش التركي الذي تم تأسيسه بالتزامن مع تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، حيث انقلب الجيش التركي على الحكومات التركية المتعاقبة أربع مرات؛ أولها كان عام 1960 ثم عام 1971 وتلاها عام 1980 فعام 1997.

ويُذكر أن الجيش التركي حاول الانقلاب على حكومة حزب العدالة والتنمية عام 2007، إلا أن حزب العدالة والتنمية رفض الانصياع لقرار الجيش القاضي بتنحيه عن الحكم، وقرر محاكمة قيادات الجيش التي دعت لذلك، ونتيجة لعدم وجود داعم غربي ممول للجيش وانقلابه ونتيجة للانتفاض الشعبي العارم منقطع النظير الذي أذهل الجيش لكونه أول اعتراض شعبي جماهيري حاسم، تراجع الجيش عن تحركه الانقلابي.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!