د. مصطفى الستيتي  - خاص ترك برس

بعد قيام الجمهورية التركية الحديثة على يد مصطفى كمال أتارتوك حدثت تغييرات جذريّة في الكثير من المجالات، وأُريد للشّعب التّركي أن تنقطع صلته تماما بكل ما يمت بصلة إلى العرب واللّغة العربيّة. ومن أجل تنفير النّاس من العرب دأب عدد كبير من المؤرخين الأتراك على ترويج فكرة أن العرب طعنوا الأتراك من الخلف وخانوهم بتحالفهم مع أعدائهم أثناء الحرب العالمية الأولى. وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي بُذلت لترسيخ هذه الأفكار والقناعات فقد نشأ جيل جديد من المؤرخين الذين احترموا قواعد البحث العلمي ونظروا في الحقائق التاريخية بعيدا عن الأهواء والإيديولوجيات وبعيدا عن التأثيرات السياسية ليخلصوا أخيرا إلى أن ما زُعم من "الخيانة العربية الكُبـرى" لا تعدو أن تكون حركة منفصلة قام بها عدد قليل جدّا من العرب، ولذلك تعدّ استثناء قياسا إلى مواقف الجماهير العريضة.

يقول المؤرخ والكاتب في صحيفة "حريّت" التّـركية مراد بارداقجي أوغلي متسائلاً "لماذا انهارت الدّولة العثمانية بسبب الدّين الّذي زُعم طويلاً أنّه العنصر الموحّد والجامع؟ ولماذا تلقّى الأتراك طعنة موجعة من العرب والمسلمين الذين كانوا يشكلون العُنصر الأكبر في الدّولة في فترة تفكك الدّولة وتشرذمها"؟  وهو بذلك ينتقد الرأي الذي عاد للظّهور بقوة في السّاحة التركية في الوقت الحاضر، عند الكثير من الكتاب والسّياسيين من أن الدّين كان عاملاً مهمّا في قوة الدولة العثمانية واستمرارها لمدة ما يقرب من ستمائة عام، وسوف يظل كذلك حسب رأيهم. 

 في الواقع بارداقجي أوغلي لم يأت بشيء جديد، فهو يكرّر القصة القديمة التي ظلت تُلقّن للناس لأكثر من ثمانين عاما وتبدأ بالقول "إن إخوانَكم العرب والمسلمين الآخرين قد باعوكُم في الحرب العالمية الأولى"، وتنتهي بالقول "لا صديقَ حميمًا للتّركي غير التّركي".

لا يمكن إنكار حقيقة أنّ هناك من بين العرب من وقف ضدّ الأتراك في فترة انهيار الدولة العثمانية، وساند الأعداء، بل وهناك من تلقى الأمــوال بسخاء من الانكليز من عرب الجزيرة العربية لكي يساندوهم في إثارة النّاس ضد حكم العثمانيين، وينقلوا لهم الأخبار بالتفصيل ويجهضوا عمليات المقاومة التي كانت تتشكل في مناطق مختلفة. لكن من الخطأ الكبير اعتبار هذه التّحركات المعادية للأتراك هي الموقف العام للشّعوب العربية آنذاك. 

مثلما ذكرنا من قبل كان كلّ شابّ تركي، فترة تعلّمه بالمدرسة وبالجامعة يتلقى معلومات مكرّرة، ويتشربّها منذ نعومة أظافره مفادها "أنّ العرب خذلونا في الحرب العالمية الأولى".  وهذا صحيح بشكل جزئيّ جدا، فمن المعروف أنّ الشّريف حسين أمير مكّة تحالف مع الانكليز وأعلن العصيان ضدّ العثمانيين، وطعن الجيش العثماني في الظّهر، ولا أحد يُنكر هذا، لكن ما يجب توضيحه هنا هو المغالطة التي يقع فيها الكثير من الدّارسين، فالشريف حسين لم يكن يمثل العربَ جميعَهم، بل بالعكس من ذلك كان نشازًا واستثناء.  وفي هذا السّياق يقول الباحث والمتخصص في شؤون الشّرق الأوسط جنكيز جاندار مبيّنا الفرق بين الحقائق التاريخيّة ومزاعم "خيانة العرب": "صحيح أن الشّريف حسين أمير مكّة حرّض بعض القبائل البدوية العربية على العصيان والتمرّد في الحجاز وتحالف مع الانكليز سنة 1916م، لكن في ما يتعلّق بالحرب العالمية الأولى، فإنّ كل دارس وصاحب علم يعرف أن ما قام به لم تكن له أية قيمة من النّاحية العسكرية. ومعلوم أن الانكليز أخلّوا فيما بعد بوعد الاستقلال الذي منحوه للشّريف حسين وتبين أنه خُدع بكلامهم. أما في فلسطين فلم نرى عربيا واحدًا يُعلن العصيان، كما أنه لم تُلاحظ ولو حادثة واحدة يُطعن فيها تُركي من الظّهر من بين أفراد القوات المتمركزة سواء في سوريا أو في العراق أو في لبنان. والأغلبية الكبيرة من العرب بقيت مخلصة لاسطنبول ولتركيا، وباستثناء الجبهة الممتدة من منطقة الحجاز بالجزيرة العربية إلى العقبة لم يحدث أن تعرّضت القوات التركية لأي أذًى من قبل العرب، ولا يُوجد أيّ دليل تاريخي على ذلك".

والحقيقة نفسها يؤكدها الخبير الأمريكي في شؤون الشرق الأوسط ميشال ج. بارد فيقول: "بعكس ما يروج فإن العرب في تلك الفترة (الحرب العالمية الأولى) لم يقاتلوا ضدّ الأتراك". ومن بين المؤرخين الأتراك المتخصّصين الذين تحدثوا في هذه المسألة البروفيسور الدكتور زكريا قورشون، فقد ألف كتبا قيمة في العلاقات العربية التركية، ومن أهمها كتاب "العلاقات العربية التركية في مفترق طرق". وقد أوضح فيه الكثير من المسائل وفند فيه الكثير من الأمور التي اعتبرت إلى وقت قريب من المسلّمات، واعتمد في أبحاثه على المصادر الأرشيفية الموثوقة. يقول الدكتور قورشون في معرض حديثه عن التعاون العربي التركي في مواجهة الهجمات الغربية " في الحرب العالمية الأولى. "لقد أظهر العرب شجاعة فائقة في قتالهم جنبًا إلى جنب مع الجيش التّركي في جبهات مختلفة".

ومن الأمور التي ينبغي التنبيه لها أن نزعة القوميّة العربية قد نشأت قبل نشوء النّزعة القومية لدى الأتراك. وقد نشأت هذه النزعة في ستينيات القرن التاسع عشر بين المثقفين العرب السوريين. وما يجلب الانتباه هنا هو أنّ أغلب الذين تزعموا هذه الحركة القومية هم من المسيحيين مثل بطرس البستاني وفارس الشدياق والنقاش وجرجي زيدان، أما الذين شاركوا في هذه الحركة من المسلمين فأغلبهم قد تأثر بالفكر الأوروبي وبفكر الحركات القومية في أوروبا. ومن الملاحظ أن عددًا كبيرا من الشيّعة في العراق وفي سوريا بقوا متعلقين بالخلافة وبالدولة العثمانية إلى جانب أغلب العرب السنة.  وفي سياق التأكيد على أن العرب – باستثناء المسيحيين- لم ينخرطوا في لعبة الانفصال حتى آخر لحظة يقول المؤرخ التّركي الكبير كمال كارباط " من الملاحظ أن حركة القوميّة العربية لدى العرب لم تكن في الأساس حركة انفصالية، وأغلب العرب لم يكونوا ينظرون إلى الحكام العثمانيين على أنّهم قوة أجنبية محتلّة، بل كانوا ينظرون إليهم على أنهم حكام من غير العرب، وما داموا مسلمين ويحترمون عادات العرب وتقاليدهم، ويقفون سدا منيعا في وجه الاحتلال الأوروبي لبلادهم فإنهم لا يقصرون في أداء واجب الطّاعة. وفي الماضي أوّل من أراد الرجوع إلى الأصول العربية الأولى والتباهي بها لم يكن مسلما بل كان عربيّا مسيحيا".

إننا اليوم عندما ننبه إلى هذه الحقائق ندرك أهميّة ما لأحداث التّاريخ من تأثير في واقعنا اليوم. فالمعلومات التاريخية التي تتعلمها الأجيال المتعاقبة ، والتي تصور العرب على أنهم "خونة" أو تصوّر الأتراك على أنّهم "طغاة" لا شكّ أنها تقفز إلى الواجهة في المنعطفات الكبرى التي تمر بها العلاقات التركية العربيّة، وتترك تأثيرها واضحاً، بل وتُبنى على أساسها المواقف وترسم السياسات. ومن الخطأ الجسيم أن تظل العلاقات التركية العربية خاضعة للأهواء والإيديولوجيات ومواقف الأشخاص الفردية. من الحكمة أن نتخلّى عن العواطف في عالمنا العربي في مجالات البحوث العلمية، خصوصا في مجالات العلوم الإنسانية والتاريخ أساسا لكي نبني لأنفسنا معرفة راسخة تقوم على قواعد صلبة ينهض بها أهل الاختصاص. ولقد تمكن الجيل الجديد من المؤرخين في تركيا من قطع شوط كبير في هذا الدّرب وتخلصوا من إرث ثقيل ظلوا يرزحون تحته مدة عشرات السنين بسبب الفجوة التي أحدثها مصطفى كمال أتارتوك بإحداثه القطيعة الكاملة مع العرب في لحظة تاريخية ما.          

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس