خليل المقداد - خاص ترك برس

لم يكن أشد المتفائلين بترامب يتوقع منه توجيه ضربة عسكرية لأحد أهم المطارات العسكرية في سورية، ألا وهو مطار الشعيرات الواقع في ريف حمص وسط سورية، فكل الدلائل كانت تشير إلى أن ترامب في طريقه للتحالف مع نظام الأسد في الحرب التي تشنها الولايات المتحدة على ما يسمى الإرهاب في كل من العراق وسورية.

ما عزز هذا الاعتقاد هو تصريحات ترامب نفسها قبل أسبوع واحد من مجزرة السارين التي استهدفت مدينة خان شيخون في ريف إدلب وذهب ضحيتها المئات بين شهيد وجريح، حيث أكد أن إسقاط الأسد ليس أولوية لدى إدارته، وأنه مهتم بالقضاء على تنظيم الدولة (داعش)، تصريحات ترامب هذه جاءت رغم المجازر التي يرتكبها طيران الأسد وروسيا يوميًا، حيث القصف بالكلور والنابالم والفوسفور الأبيض، وهذه أسلحة تعتبر محرمة دوليا خاصة في حال استخدامها ضد المدنيين، إذًا ليست مجازر الأسد ولا قتله لعشرات السوريين يوميا، هي ما حرك إنسانية رجل الأعمال والرئيس ترامب التي تكاد تكون مفقودة، أو مشابهة لإنسانية سلفه أوباما على أحسن تقدير.

في الشهر الثامن من العام 2013 ارتكب الأسد مجزرة مروعة بحق المدنيين العزل في ريف دمشق، راح ضحيتها حوالي 1400 شخص، فتحرك الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية التي هدد رئيسها أوباما باستهداف النظام عسكريا، حتى أن التكهنات حينها باتت تنحصر في التنبؤ بموعد الضربة التي كانت أمرًا شبه مفروغ منه، وهو ما دفع روسيا للتدخل وإبرام صفقة مع الولايات المتحدة يقوم خلالها نظام الأسد بالتخلي عن مخزونه من الأسلحة الكيميائية، وهي صفقة أسعدت إسرائيل التي يهمها تحييد أي سلاح فتاك أو استراتيجي قد يستخدم ضدها في حال سقط بيد الجماعات الجهادية.

مع إنجاز صفقة تسليم الأسد للسلاح الكيميائي، تبخرت تهديدات أوباما وذهبت أدراج الرياح، وبنفس الطريقة التي تبخرت بها خطوطه الحمراء ومقولته الشهيرة بأن "الأسد فقد الشرعية، وأن أيامه باتت معدودة"، فتنفس الأسد وحلفائه الصعداء، ليستمر مسلسل العنف والقتل اليومي بالتصاعد خاصة بعد التدخل الروسي المباشر في الشهر التاسع من العام 2015 وحتى يومنا هذا، حيث شهد العالم على تهجير الأسد وبإشراف روسي – إيراني للسكان، من عشرات المدن والقرى والبلدات لعل أهمها الشطر الشرقي لمدينة حلب والذي قدر عدد المهجرين منه بحوالي 270 ألف شخص.

روسيا شاركت الأسد في ارتكاب جرائمه بل وارتكبت عشرات المجازر بحق المدنيين، من خلال استهدافها للبنى التحتية والتجمعات السكانية من مستشفيات وأسواق وأفران وأحياء مكتظة بالمدنيين، إضافة لاستخدامها أسلحة ذات قوة تدميرية هائلة عدا عن تجريبها واختبارها لأكثر من 60 سلاح جديد باعتراف قادة روس.

في العام 2012 أوقفت الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية عملية إحصاء عدد القتلى من السوريين عند الرقم 270 ألف تقريبا، وذلك بحجة عدم القدرة على التأكد من صحة ما ينشر، وهو موقف لا أخلاقي يحسب عليها، كونه يعتبر هروبًا من تحمل مسؤولية وقف الجرائم المرتكبة بحق السوريين؟!

من كل ما سلف، نستنتج أن سقوط مئات ألوف القتلى من المدنيين العزل في سورية، لم يكن هو الهم الشاغل للمجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، فلماذا إذًا تحرك ترامب وقام بخطوته الإستعراضية المتمثلة بقصف مطار الشعيرات العسكري بتسعة وخمسون صاروخ كروز من طراز توماهوك؟ هل هي مشاهد ضحايا السارين وهم في النزع الأخير من الحياة، هي ما حركت مشاعر ترامب؟ أم أنها دموع المدللة إيفانكا؟

بكل تأكيد لا ليست مشاهد الضحايا ولا دموع إيفانكا، هي ما حرك مشاعر ترامب وإنسانيته ودفعته للقيام بخطوته الغير متوقعة، إنه غاز السارين الذي كان من المفترض أنه قد تم سحب مخزونه من مستودعات الأسد العسكرية بالكامل، فهكذا غاز يعتبر من أشد أنواع الأسلحة الكيميائية خطورة وذلك نظرًا لسميته العالية، وهو ما يعني تهديدًا حقيقيًا لأكثر من جهة في المنطقة والعالم، خاصة في حال وصل إلى يد تنظيم الدولة الإسلامية تحديداً والذي لن يتردد باستخدامه ضد أعدائه.

مصدر الخوف هذا يتأتى من القناعة الثابتة لدى كافة أطراف الصراع في سورية والمنطقة، بأن تنظيم الدولة (داعش) يعتبر المطارات أهدافا استراتيجية وحيوية، يعمل على إستهدافها، بغية تحييدها واغتنام ما فيها من أسلحة متطورة، وقد أثبتت التجارب أنه قادر على المناورة والمباغتة وتحييد المطارات، التي اشترك نظام الأسد والمعارضة في الدفاع عنها.

بنيامين نتنياهو أعرب عن تأييده للضربة الأمريكية لمطار الشعيرات، لكنه وفي نفس الوقت عبر عن غضبه من امتلاك نظام الأسد واستخدامه لغاز السارين، حيث قال ليس من المسموح استخدام أو تداول الأسلحة الكيميائية، التي تعتبر تهديدًا خطيرًا للمنطقة والعالم.

تصريح نتنياهو هذا كشف السبب الحقيقي للضربة الأمريكية التي يمكن اعتبارها عقوبة على عدم تسليم الأسد لكامل مخزونه من الأسلحة الكيميائية بما فيها غاز السارين، وبالتالي فإننا قد نشهد تصعيدًا في هذه المسألة قياسًا على المواقف الأمريكية، وخاصة تصريح وزير الخارجية تيلرسون، الذي حمل موسكو المسؤولية عن عدم تأمين المخزون الكيميائي في سورية، ومطالبته لها الوفاء بالتزامها نزع كامل هذا المخزون، حيث قال: "سواء كانت روسيا متواطئة أو خُدعت من النظام السوري، فإنها قد فشلت في الوفاء بالتزاماتها إزاء المجتمع الدولي، لأنها وافقت على أن تكون الضامن لتدمير ترسانة سوريا من الأسلحة الكيميائية"، لكن تيلرسون كان واضحًا جدًا عندما قال: لن نسمح بأن يقع مخزون الأسلحة الكيميائية بيد تنظيم الدولة (داعش) أو أي جهة أخرى!

الولايات المتحدة الأمريكية مستمرة في التصعيد، أقله لتسجيل حضورها والعودة إلى المنطقة كلاعب أول، بعد أن سمحت لروسيا أن تقوم بكافة المهام القذرة بالنيابة عنها، ما يجب فهمه هو أنها قد لا تهدف من خلال تصعيدها هذا إسقاط نظام الأسد، بل كبح جماحه وإعادة روسيا إلى الخلف قليلًا، فهدف ترامب الأساسي يتمثل في القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية وهيئة تحرير الشام (النصرة سابقا) لذلك فهو بحاجة لتوظيف كافة الأدوات بما فيها فصائل المعارضة المسلحة، التي لابد وأنه يعول عليها في قتال التنظيمين، وهو ما يفسر التهديد بقطع المعونات عنها، وإجبارها على الانخراط في غرفة عمليات عسكرية واحدة، وهو ما تحقق له.

علاقة ترامب وأعضاء من إدارته بروسيا، وما يشاع عن فضائح ترامب الجنسية، ستبقى هي بيضة القبان والناظم لكل ما سيتخذه من قرارات تمس العلاقة مع روسيا، التي تستطيع التأثير كثيرًا وحتى إعاقة خطط ترامب في سورية، لكنها أيضًا رهينة تفاهمات محلية وإقليمية معقدة، أهمها مع "إسرائيل" التي لا يمكن بحال إستثناء تأثيرها على قرارات كل من ترامب وبوتين.

تباكي الإدارة الأمريكية على استخدام السلاح الكيميائي في سورية، لا ينبع من منطلق إنساني، لكنه مدخل لترتيبات جديدة لها علاقة بالتسوية السياسية، فالاستعصاء الحاصل في مدينة الموصل وتأخر البدء بعملية الرقة أثرا كثيرًا على خطط الولايات المتحدة، وبالتالي لا بد من المناورة لحشد أكبر عدد ممكن من الحلفاء في سورية وقيادتهم أمريكيًا، وهذا أمر لن يتأتى إلا من خلال السعي لإزاحة بشار الأسد، أو إلزامه القبول بالتسوية المقترحة لحل الأزمة.

التوتر الحاصل في العلاقة الأمريكية – الروسية لا يبدو مقنعًا جدًا، كونه لا وجود لخلافات عميقه بين إدارة ترامب والكريملين، حتى رغم الجدل الحاصل سياسيًا وإعلاميًا، بل على العكس من ذلك فالطرفان يتمتعان بعلاقة متينة، وربما كانت الخلافات بينهما مفتعلة للتغطية على علاقتهما المشبوهة في بعض جوانبها، وذلك لصرف أنظار الداخل الأمريكي عنها، ولا شك أن زيارة "تيلرسون" لموسكو ستسهم في تعزيز التعاون بين البلدين.

عربيا، فإن كافة المؤشرات تدل على قرب تدخل عسكري في الجنوب السوري ضد تنظيم الدولة الإسلامية ورافضي التسوية السياسية، حيث بات الأمر مسألة وقت لا أكثر، من هنا فربما تكون قمة البحر الميت وبطلب أمريكي قد أنتجت تفويضًا للأردن، لقيادة تحرك عسكري عربي بدعم ومشاركة أمريكية بريطانية، ما يعزز هذه الفرضية هو التحشدات الأخيرة على الحدود السورية – الأردنية والتدريبات العسكرية التي تجريها السعودية مع كل من السودان وتركيا.

يمكننا القول إن هناك محورًا أمريكيًا عربيًا إسرائيليًا قد بدأ يتشكل، وفي حال حصل التدخل الأردني – العربي البري في سورية، فإنه سيكون بدايةً لفصل جديد من الصراع في المنطقة، وسيترتب عليه تداعيات كثيرة ستنقل هذا الصراع لأبعاد جديدة أكثر خطورة مما هي عليه اليوم.

تصاعد حدة النبرة الأمريكية ضد نظام الأسد دون إيران، ربما يعني أن الوقت قد حان من وجهة نظر الإدارة الأمريكية، لإحداث اختراق ما في الأزمة السورية، خاصة بعد فشل كافة جولات جنيف وأستانا، إضافة للاستعصاء الحاصل عسكريًا على الأرض، والذي يمكن إعتباره فشلاَ غير معلن، لكن وبكل تأكيد فإن أية تسوية سيتم فرضها في هذه المرحلة لن تكون لصالح السوريين، لأن هدفها الرئيسي هو توحيد النظام والمعارضة والزج بهم في آتون معركة القضاء على التنظيمات المصنفة إرهابية.

الحرب على ما يسمى الإرهاب، أسهمت في نشر الفوضى وكبت الشعوب تعزيز سلطة الأنظمة المستبدة، وما خلفه وسيخلفه ذلك من ظلم وفقر وبطالة، جميعها عوامل ستسهم في زيادة التطرف والعنف، وقد تؤدي لانفجار شعبي غير متوقع، وستنتج جيلًا جديدًا أكثر شراسة وقوة وتمرسًا عمن سبقه من أجيال، وهو ما سيهيئ المنطقة والعالم لصراعات دموية يجري الإعداد لها بعلم أو بدون علم، لكن من المؤكد أنها لن تتأخر طويلًا.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس