جلال سلمي - خاص ترك برس

هل فعلا التقاربات التركية الروسية تسير وفقا للسياسة الليبرالية؟ وإن كانت كذلك ماهي البوادر والظواهر والدلائل لهذه السياسة؟ وماهي الأهداف المنشودة من قبل كل من تركيا وروسيا لاتباع هذه النوع من السياسة؟

1- أولا وقبل كل شي يتوجب علينا شرح السياسة الليبرالية بشكل سريع ووجيز؛ السياسة الليبرالية الخارجية تعتمد بشكل كبير علي الاتحاد الاقتصادي والمؤسساتي بين الدول. فحسب مفهوم السياسة الليبرالية عن طريق الاتحاد الاقتصادي تلتقي المصالح بين الدول، وان كان بين هذه الدول المتحدة اقتصاديا قضايا سياسة عالقة تحل بشكل اضطراري لأن الضغط الاقتصادي يجبر هذه الدول علي الرضوخ لشروط الاتفاقيات الراعية للاتحاد الاقتصادي بينهم. وللمؤسسات الاقتصادية دور كبير جدا في هذه المهمة، فهي تقوم على إعداد الاتفاقيات الاقتصادية وشروطها بشكل يجعل الدول مرتبطة ببعضها البعض بشكل شديد حيث لا تستطيع هذه الدول التخلي عن بعضها مهما حدث بينها خلاف سياسي.  

تقوم هذه الموسسات بتقوية أواصر العلاقات بين الدول من خلال عدة أساليب منها توفير البيئة المناسبة لعقد الاجتماعات بين السياسين والاقتصاديين من كلا البلدين، العمل على تنظيم الاجتماعات بشكل دوري حتى تبقي الحماس الاتحادي موجود بين البلدين، توفير الفرص لجميع المواطنين من كلا البلدين للاتقاء ببعضهم البعض لكي يتم توثيق علاقات الاتحاد الاقتصادي. 

ولإتمام هذه النوع من السياسات يقوم الفكر الليبيرالي بطرح عدة نظريات من أهمها هي النظرية الفنكوشناليزمية أي الوظائفية. 

وتعتمد النظرية الوظائفية في تطبيقها حسب ما يوضح طارحها ديفيد ميتراني على عدة مراحل هي:

- التقارب الاقتصادي في مجال تجاري معين عن طريق رجال الأعمال والتجار من كلا الدولتين وتسمى هذه المرحلة ببذرة التقارب الاقتصادي. 

- انتقال التقارب الاقتصادي إلى مجالات تجارية أخرى وتوسيع التبادل التجاري بعد نجاح العملية التجارية في أول مجال تم العمل به، وتسمى هذه العملية بعملية التفرع التجاري.

- بعدما يصبح التبادل التجاري ضخم جدا بشكل يستدعي تنظيمه بشكل قانوني وحقوقي لحفظ حقوق التجار وتسهيل أعمالهم تضطر الدول المتبادلة للتجارة بعقد اتفاقية اقتصادية حقوقية رسمية وتدعى هذه المرحلة بمرحلة الاتفاقية التجارية.

- لتطبيق هذه الاتفاقية ومتابعة عملها يتم إنشاء منظمات اقتصادية تنسيقية للاهتمام بهذا الموضوع وهنا يتضح دور المؤسسات الاقتصادية في هذه العملية كما أسلفنا.

- بعد قيام المؤسسات بتقوية الترابط الاقتصادي بين الدول و تطويره، تصبح الدول مرتبطة ببعضها بشكل كبير ولا تستطيع أي دولة التخلي عن الأخرى لأن بعد هذه العملية ستصبح مرتبطة ومتصلة ببعضهما بشكل مؤسساتي وتجاري أي سيكون هناك ضغط اقتصادي تجاري ومؤسساتي كبير على هذه الدول، وبما أنا هذه المؤسسات تتشكل من رجال أعمال وتجار واتحادات اقتصادية سيكون تأثيرها كبير جدا على الدول حيث سيضطر السياسيون للخضوع لشروط هذه المؤسسات كي لا يتأثر عملهم ومستقبلهم السياسي بأي سوء خاصة أن نجاح السياسي يعتمد بشكل كبير على دعم الاقتصاديين له ماليا وإعلاميا.

وهكذا بعد هذه الخطوات تصبح الدول معتمدة على بعضها اقتصاديا لحد كبير. وبعد الوصول لهذه المرحلة يتم حل جميع القضايا السياسية بينهم عن طريق الدبلوماسية والتفاهم دون اللجوء لأي وسائل أخرى مثل المقاطعة الاقتصادية أو الحرب العسكرية الخ؛ وهذا هو الهدف التي تسعى السياسة الليبرالية إلى تحقيقه من خلال تلك العملية، ألا وهو إدامة العملية التجارية التبادلية بين الدول مهما كان حجم الخلافات السياسية.

وأكبر مثال ناجح لهذه النظرية الاتحاد الأوروبي الذي يتشكل من دول أرهقت نفسها وهي تتقاتل وتتنازع من أجل السيطرة على التفوق الاقتصادي والسياسي. ولكن الآن وبعد تطبيق النظرية المذكورة أعلاه أصبحت أكثر الدول اتفاقا وأريحية وجميع هذا الدول أصبحت متفوقة اقتصاديا.

2- في مقالنا هذا نرنو إلى دراسة القضايا والخلافات السياسية الموجودة بين روسيا وتركيا والنظر إلى الأسلوب الليببرالي الذي عن طريقه تسعى الدولتان لحل هذه الخلافات وايجاد سبيل لتحقيق التفوق الاقتصادي الثنائي.

لو أردنا ذكر الخلافات السياسية الظاهرة للعيان والموجودة بين السياسة الروسية والتركية؟

=الخلاف السياسي في قضية تقييم الأوضاع الجارية في سوريا،  فروسيا تدعم النظام في حربه على الإرهاب كما تدعي أما تركيا تدعم الجيش الحر الثائر ضد النظام الأسدي الاستبدادي على حد زعمها.

 =الخلاف السياسي الأيديولوجي؛ حيث أن تركيا حسب تقييم الكثير من الخبراء بشوون الشرق الأوسط تمثل القطب العثماني المنبعث من جديد، وحسب ادعاءات روسيا فهي تقوم بدعم وتحريض الدول المحيطة بروسيا مثل الشيشان وكزاخستان وأوزبكستان الخ ضد روسيا،  وهذا ماتصفه روسيا تدخل في شوؤن حديقتها الخلفية وحسب ادعاءات الدولة الروسية الاتحادية فإن أكبر مؤشر لهذا التدخل السافر قيام تركيا بإيواء عدد كبير من العلماء والسياسيين الكزاخستيين والأوزبكيين والشيشانيين، الخ.. المعارضين لسياسة روسيا في المنطقة. ولكن على النحو الآخر لو قمنا بتقييم أيديولوجية روسيا السياسية حسب الخبراء نجد أنها قريبة أكثر لفكر الاتحاد السوفياتي والأوراسي الذي يسعى لوضع الحديقة الخلفية السوفيتية القديمة في حضن روسيا من جديد وهو ما تعتبره تركيا خطرا كبيرا على مصالحها السياسية والاقتصادية.

3- تركيا وروسيا تعرفان وبشكل كبير أنه يوجد بينهم هذه النوعية من الخلافات السياسية ولكنهما ولحد الان لم تستطيعان تجاوز هذه الخلافات بشكل جدي، حاولت تركيا حل هذه الخلافات عن طريق نظرية تصفير المشاكل أي إلغاء المشاكل الماضية والحاضرة والمستقبلية مهما كان حجمها مع دول الجوار ولكن هذه السياسة لم تجدي نفعا. إذ كل فينة وأخرى نجد عند حدوث أي خلاف سياسي في السياسة الخارجية للدولتين تنقلب الطاولة في وجه التعاون والعلاقات الاقتصادية ويتم اغلاق المعابر وتسحب الدولتان مواطنيها ورجال أعمالها وتجارها.

بعدما أثبتت العلاقات التركية الروسية تذبذبها وتوثرها علي الدوام بالأحداث السياسية وعدم نجاحها في ايجاد حل يديم العلاقات الاقتصادية، و فشلها بالحفاظ علي العلاقات السياسية متينة، وتخطي الخلافات السياسية والايديولوجية باالأساليب السياسية اتجهت الي النظريات الاقتصادية السياسية كبديل للنظريات السياسية البحتة التي تعتمد فقط علي السياسيين ولا تعطي للعناصر المجتمعية الاخري كرجال الاعمال والموسسات الاقتصادية أي دور. لهذا السبب ولتطوير العلاقات وتخطي هذه العراقيل التي تعيق التطور الاقتصادي و تطفو علي الساحة بعد حدوث أي خلاف سياسي اتجهت كل من تركيا والعراق الي حل هذه الخلافات واطفاء نيرانها للأبد عن طريق السياسية الليبرالية الاتحادية الاقتصادية. هذه العملية بدأت بين تركيا وروسية خاصة بعد طفو الأحداث الجارية في سوريا وأوكرانيا علي السطح حيث اتجهت تركيا الي السوق الروسي لتعويض خسائرها نتيجة فقدان السوق السوري أيضا اتجهت روسيا الي السوق التركي وذلك لتعويض خسائرها الناتجة عن الحصار الغربي لروسيا بعد احتلالها لشبة الجزيرة القرمية التابعة لأوكرانيا أيضا بعد خسارتها المواني الاستراتيجية في سوريا.

بعد الأحداث السورية والأوكرانية تكاثقت التجارة بين روسيا وتركيا بمجال المكائن والغاز)بذرة التقارب الاقتصادي*. بعد نجاح التعامل التجاري بهذا المجال اتجهت الدولتان لتطوير نفسيهما في مجالات اخري كالغذاء والدواء والنقل التجاري والملابس والأحذية (التفرع التجاري). بعد نجاح هذه العمليات التجارية وتطورها اضطرت روسيا وتركيا لضبط هذه العملية فقامت الدولتان بتاريخ 2 ديسمبر 2014 بابرام اتفاقية تجارية شاملة قامت بتوقيعهما كلا من الرئيس الروسي بوتين ونظيره التركي أردوغان شخصيا لايجاد تعاون اقتصادي مجدي وقوي (مرحلة الاتفاقية التجارية). ولتفعيل دور المؤسسات الاقتصادية تعمدت الدولتان أن يحضر حفل توقيع الاتفاقية رووساءالغرفة التجارية في كلا الدولتين أيضا رجال الأعمال أصحاب الدور الكبير في انجاح أي عمل اقتصادي كان لهم حضور بارز. توقيع هذه الاتفاقية بحضور روؤساء كلا الدولتين والمؤسسات الاقتصادية والتجارية كان الهدف منه تسريع الوصول الي المرحلة الاخيرة التي تعتمد علي ربط الدولتين بشكل جدي يجعل السياسيون يتحركون حسب مصالح الموسسات و رجال الاعمال والتجار والمؤسسات المستفيدين من هذه العمليات التجارية المتبادلة واللذين يملكون التاثير الكبير علي المستقبل السياسي للسياسيون كما أسلفنا.

كما رأينا وصلت العلاقة بين تركيا وروسيا ضمن السياسة الليبرالية الي مرحلة العمل المؤسستي فالأن المسيطر علي العلاقة هي المؤسسات الاقتصادية ورجال الأعمال ذو النفوذ،  الأمر الذي جعل كلا من روسيا وتركيا يبدون جديتهم في السعي للوصول للتفوق الاقتصادي الاتحادي. أيضا الضغوط الواقعة عليهم بعد خسارة بعد الأسواق نتيجة الأزمات الواقعة في المنطقة كان لها دور كبير في جعلهم يتبعون السياسة الليبيرالية للسعي خلف محاولات تحقيق التفوق الاقتصادي الناجح والمترابط والقائم علي أساس لعبة 1+1 بمعني أن يكون كلا الطرفين مستفدين من تلك العملية وليس لعبة 0+1 التي تكسب شخص علي حساب شخص أخر. والسؤال الذي يطرح نفسه الأن هل تنجح هذه العلاقة وتصل الي مرحلة الاتحادية والترابط الي درجة عدم القدرة علي التخلي عن بعضهم البعض وهل العلاقة الاقتصادية ستبقي ثابتة وستنجح في تشكيل السياسات الاتحادية المتفقة في المستقبل هذا وغيره الكثير من الاسئلة نستطيع معرفة اجابتها في الأيام القادمة .

عن الكاتب

جلال سلمي

صحفي وباحث سياسي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس