د. محمد عزيز عبد الحسن - خاص ترك برس

من هو المهندس البروفسور نجم الدين أربكان؟

إذا كان  القائد أرطغرل  أسس لقيام العثمانيين القدماء، فإن البروفسور أربكان يُعد من رجالات تركيا المعاصرة. فقد أسّس لقيام "العثمانيين الجدد" ومهّد الطريق لـ"تركيا العثمانية الجديدة".

وهو مؤسس نهضة تركيا الحالية... وإليه يعود الفضل بوضع منظومة الفكر السياسي  الإسلامي في الثمانينيات. وشكّل بوقته مجموعة الدول الثماني الإسلامية كأكبر تكتل إسلامي.

بدأ أربكان حياته السياسية في حزب الخلاص الوطني سنة 1970، ثم أسّس أحزابًا سياسية أخرى منها  حزب السلامة الوطني الذي فاز عن طريقه  بمقاعد في البرلمان التركي. وأسس لاحقا حزب الرفاه ثم حزب الفضيلة، اللذين تصادما مع النظام العلماني للدولة التركية.

ومهّد أربكان السبل لقيام حزب العدالة والتنمية التركي بقيادة رجل الدولة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي ساهم في تطوير تركيا في أقل من عشرين سنة منذ 2002 ولحد الآن.

وفي السنة السادسة على وفاة نجم الدين أربكان (أب الإسلام السياسي في تركيا)، وقائد الإنزال التركي في قبرص سنة 1974، والذي تقلد منصب رئاسة وزراء تركيا بين 1996/ 1997، يقول رجل الدولة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان: "أحيي بكل رحمة واحترام ذكرى أستاذنا البروفسور نجم الدين أربكان رئيس وزراء الحكومة الـ54".

يستمد "حزب العدالة والتنمية" هويته من تقاليد و شخصية نجم الدين أربكان (1926-2011)، الذي أسس "حزب الرفاه"، سلف "حزب العدالة والتنمية"، الذي أعطى الأولوية للحضارة الإسلامية على حساب ثقافة الحكم التركي آنذاك، ذي الطابع العلماني. ومنه استمد حزب العدالة والتنمية ديناميات الاعتدال في العمل السياسي.

وإن تجربة تركيا في ظل حكم  "حزب العدالة والتنمية" تثبت أن هذا الأمر ممكن. بيد أنها تظهر أيضاً أن الكثير من الاعتدال لا يتحقق نتيجة تقبله طواعية من قبل الإسلاميين، بل لأن الضوابط والتوازنات القوية - الداخلية والخارجية - تفرض ذلك الاعتدال، وهذه المعادلة فهمها حزب العدالة والتنمية.

ففي خلال السنوات التي أعقبت انقلاب العسكري التركي عام 1980، لم يمنح الحظر القضائي على الأحزاب الدينية غير الديمقراطية للإسلاميين أية فرصة غير الاعتدال، لا سيما وأن الحظر كان مدعوماً من قبل الجيش التركي، وجماعات الشركات التجارية الليبرالية القوية، والأحزاب العلمانية، ووسائل الإعلام القوية الموالية للغرب.

وعند إغلاق جماعات مثل "حزب الإنقاذ الوطني" بعد الانقلاب، شكّل الإسلاميون فصيلاً أكثر اعتدالاً وهو "حزب الرفاه". وبعد تحقيق انتصارات انتخابية كبيرة على مدار سنوات، تم حظر "حزب الرفاه" في نهاية المطاف عام 1998 بسبب "اتباعه لأجندة دينية"، على حد زعم الدولة العميقة.

وقد دفع هذا إلى تكوين "حزب الفضيلة"، الذي قدم نسخة أقل حدة من خطاب "حزب الرفاه". ومع ذلك، فقد حُظر "حزب الفضيلة" في عام 2001، مما دفع زعيم "حزب الرفاه"/"حزب الفضيلة" ورئيس الوزراء السابق نجم الدين أربكان إلى إضفاء طابع أكثر اعتدالاً على خطابه وإعادة تجسيد الحركة في شكل "حزب السعادة" في عام 2001.

وقد لعبت أوروبا دوراً كذلك في هذا الاعتدال التدريجي. فقد كانت تركيا قد قبلت منذ فترة طويلة بـ "المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان" باعتبارها أعلى محكمة لها، لذلك عندما تم حظر حزبي "الفضيلة" و"الرفاه"، فإنهم رفعوا قضاياهم أمام تلك المحكمة للاستئناف.

بيد أن "المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان" أيدت ذلك الحظر بقرار صدر في عام 2001، حيث كتبت: "نحن نقبل عن طيب خاطر ما تقوله الحكومة بشأن الأهمية الحيوية للعلمانية في المجتمع التركي"، مشيرة إلى أن تركيا هي "الدولة الوحيدة التي تتميز بعدد كبير من السكان المسلمين وتتمسك بمبادئ ديمقراطية ليبرالية".

وهذه الديناميكيات الداخلية والخارجية هي التي أثمرت عن قيام "حزب العدالة والتنمية"، الحزب الحاكم حالياً في تركيا وإليه يعود الفضل في تحقيق نهضة تركيا منذ عام 2002 إلى الآن.

ورغم أن "حزب العدالة والتنمية" يستمد جذوره بصفة أساسية من أسلافه الإسلاميين بشكل أكثر وضوحاً، إلا أنه وضع برنامجاً سياسياً معتدلاً في انتخابات عام 2002 من أجل كسب ناخبي الوسط وإقناع السكان أنه ليس حزباً دينياً.

 كما شهد "حزب العدالة والتنمية" انفراجة في الأزمة الاقتصادية عام 2001، وهي أسوأ أزمة من هذا النوع في التاريخ التركي الحديث، وكانت عاملاً رئيسياً في نزع الثقة عن الأحزاب العلمانية الموجودة في السلطة في ذلك الحين.

كان نجاح "حزب العدالة والتنمية" ينبع أيضاً من قراره تكوين قيادة تضم وجوهاً جديدة، مثل رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، ورئيس الجمهورية عبد الله غُل، ونائب رئيس الوزراء بولنت أرينج. وكانت هذه الأسماء الجديدة في وضعية أفضل لإقناع الأتراك بأنهم لا يتبعون أجندة متطرفة.

استقراء نجم الدين أربكان لاستفتاء انفصال كردستان العراق في 25 أيلول/ سبتمبر 2017

هل قرأ البروفسور نجم الدين أربكان التاريخ عام 1992، واستقرأ منه الآتي:

أولا: تخطيط إسرائيل لإقامة كيانات كردية سورية وتركية وإيرانية تحت إدارة حزب العمال الكردستاني إداريا وعسكريا؟

أوضح تقرير صدر في أيار/مايو 2017 عن "مجموعة الأزمات الدولية عن حزب الاتحاد الديمقراطي وجناحه العسكري وحدات حماية الشعب الحقيقة الآتية:

"على الرغم من أن صفوف "وحدات حماية الشعب" وقيادتها تتألف بمعظمها من أكراد سوريين، إلّا أنّ القيادة الكردية التركية عموماً لـ"حزب العمال الكردستاني" في شمال العراق هي التي تتولى إدارتها.

وكما، توجه الكوادر المدربة لـ"حزب العمال الكردستاني" معظم العمليات الرئيسية لـ"وحدات حماية الشعب": "فهم يتخذون القرارات بشأن الميزانية الإدارية وتعيين قادة الخطوط الأمامية والمناطق وتوزيع العتاد العسكري والتنسيق مع الجيش الأمريكي.

وأما التكنوقراط، ومعظمهم من المتعاطفين مع (أوجلان) الذين لا يتمتعون بأي خلفية عسكرية في «حزب العمال الكردستاني»، فيقودون اسمياً المؤسسات الرسمية في منطقة الحكم الذاتي...".

ثانيا: إن قيام كردستان العراق سيؤدي بالضرورة لقيام الإدارة الذاتية الكردية السورية لأن هذا الترابط بين الاثنين سوف يسهم بحل معضلة عدم وجود منفذ بحري لنفط  (كردستان العراق) بعد اجرائه لاستفتاء الانفصال عن العراق  عبر ربطه بالإدارة الذاتية الكردية السورية، ولتكون عفرين وبيشابير بديلا عن منفذ إبراهيم الخليل وجيهان؟

ثالثا: تهيئة المنطقة لحرب إقليمية الغرض منها استنزاف تركيا وإيران عسكريا واقتصاديا؟

بعد إجراء كردستان العراق استفتاء الانفصال عن العراق في 25 أيلول الجاري رغم التحذيرات الإقليمية (التركية والإيرانية) والدولية (مواقف أمريكا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة الرافضة له)، فإن هذا الاستفتاء قد أعاد ذاكرة الأتراك إلى كلمة ألقاها رئيس الوزراء الراحل نجم الدين أربكان، أمام البرلمان التركي في العام 1992، يُحذّر فيها من خطط أمريكية إسرائيلية لإنشاء دولة كردية في المنطقة عبر تقسيم الدول، بما فيها تركيا. وكان المخطط كما يلي:

أولا: ينقل أربكان عن عقيد أمريكي قوله لأحد الصحفيين الأتراك في العاصمة السعودية الرياض وهو يشير بيده فوق الخارطة التي تضم مدينتي كركوك والموصل في العراق وغيرها: "هنا ستقام الدولة الكردية".

ويُضيف العقيد الأمريكي: "سيسقط (الرئيس العراقي) صدام حسين وسيبرز فراغ سلطة في المنطقة وفي هذا الوضع سيقوم الأكراد بملء هذا الفراغ بتشكيل دولة مستقلة، وسوف يستولون على أسلحة صدام الثقيلة ويفرضون سيطرتهم على أراضٍ تتجاوز حدودهم بعد عام 1991. وحتى أنهم سوف يطالبون بأراض من تركياوايران وسوريا".

وعندما يقال للعقيد الأمريكي: "إن تركيا بالتأكيد لن تتماشى مع هذا الموضوع"، يجيب: "إذن ستضطرون عندها للحرب الإقليمية الاستنزافية العسكرية والاقتصادية مع الأكراد". ويقول الصحافي التركي: "لكن تركيا لديها جيش منظم وقوي،
 ومن جهة أخرى فإن سوريا وإيران سوف تعارضان هذه القضية، فكيف تتوقعون أن يقاوم الكرد هذه المعارضة؟". عندها يجيب العقيد الأمريكي: "في المستقبل القريب سيكون لأكراد العراق كميات كبيرة من الأسلحة التي تركها صدام وستقع في أيديهم، بل حتى سيكون لديهم أسلحة أحدث من أسلحتكم. سيكون لديهم طائرات ومروحيات ودبابات ومدافع رشاشة ومطاراتِهم الخاصة بدعم أمريكي وإسرائيلي".

ويُتابع أربكان: "متى تم هذا الحديث؟ في بداية حرب الخليج 1991."

وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد حذر في وقت سابق من خطورة التعاون العسكري بين الولايات المتحدة الأمريكية ووحدات الشعب الكردية الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي على الأمن القومي التركي. وأن دعم إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية  المستمر لوحدات حماية الشعب  الكردية في سوريا لم يكن من أجل محاربة داعش في الرقة وباقي الأراضي السورية، بل هو مكمل لسيناريو إقامة كيان كردي مستقل على حدود تركيا الجنوبية.

وهذا الأمر إن صح وتم إنشاؤه مستقبلا سيكون محفوفا بالمخاطر التي تهدد العلاقة الأمريكية- التركية. وقد استحوذ حزب العمال الكردستاني على أسلحة أمريكية من «وحدات حماية الشعب» واستخدمها ضد تركيا، وسيؤدي ذلك حتماً إلى شرخ في العلاقات بين واشنطن وأنقرة التي تعتبر أقدم حليف ذي أغلبية مسلمة للولايات المتحدة والعضو الوحيد من دول الشرق الأوسط في حلف "الناتو".

وإن انفصال إقليم شمال العراق  لن تسمح به أنقرة وطهران، وكل الخيارات مطروحة للتعامل معه بما فيها الخيار العسكري سواء بعملية عسكرية مشتركة ثلاثية تركية إيرانية عراقية أو ضربات جوية مع تدخل عسكري تركي محدود داخل أراضي كردستان العراق لأن تركيا وإيران تدركان الحقيقة الاستراتيجية الماثلة إذا نجح أكراد العراق باستفتاء انفصالهم عن العراق فإنه سيكون بمثابة كرة الثلج التي تكبر وتتسع لتشمل أكراد إيران وتركيا وسوريا لإعلان انفصالهم.

 وعند ذلك ستجد تركيا وإيران نفسها بحزب استنزافية  لن تقدر على إخمادها لأنها ستكون حرب عصابات وأكراد تركيا وسوريا متمرسون فيها. وقد تستمر هذه الحرب لعدة سنوات وربما يعد مشروع إنشاء كيانات كردية مستقلة المدعوم إسرائيليا وأمريكيا يعزز الحقائق الآتية:

أولا: ورقة ضغط على تركيا وإيران لدخول حرب إقليمية استنزافية عسكرية واقتصادية.

ثانيا: رسالة إسرائيلية واضحة وغير مشفرة للإيرانيين لا تعبثوا بحدودنا بالجولان حتى لا نعبث بحدودكم.

والمنطق يقول: ليس أمام تركيا وإيران إلا خيار مواجهة الأكراد عسكريا. وهذه الحقيقة المتمثلة بالمواجهة العسكرية كانت  الخيار الاستراتيجي وليس التكتيكي، والذي من أجله وضعت إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية مشروعهما لقيام كيانات كردية مستقلة على حدود تركيا وإيران...

وبقراءتنا المتواضعة فإنه لا بد من الإشارة إلى الحقائق الآتية:

فإنه على الرغم من العلاقات الاستراتيجية الوثيقة بين تركيا وإقليم شمال العراق، فإن تركيا لن ولم تتردد باستخدام القوة العسكرية ضد الإقليم إذا تعلق الأمر بقيام دولة كردية مستقلة على حدودها مع العراق... وعلى الرغم من الدعم الأمريكي والإسرائيلي لانفصال إقليم شمال العراق فإن العلاقات الاستراتيجية التركية الأمريكية الإسرائيلية سوف يكون لها أولوية على العلاقات مع الإقليم.

واستنادا لاستراتيجية "مصادر الطاقة تجعل من المتنافسين والخصوم شركاء"، فإن تركيا على استعداد للتخلي عن نفط إقليم شمال العراق إذا وضعت بين خياري دولة كردية مستقلة أو نفط كردستان. إلا أن خيار التدخل العسكري التركي ضد الإقليم سيبقى مشروطا بكركوك، والتركمان. وبطلب الحكومة الاتحادية ببغداد المساعدة العسكرية التركية والإيرانية لمساعدتها على إدارة المعابر الحدودية وتوفير الحماية العسكرية لموظفي الحكومة الاتحادية، أو في حال رفض إقليم شمال العراق تسليمها، ومنع القوات المسلحة العراقية من دخولها، أو حدثت مواجهة بين الإقليم والجيش العراقي.

ويبقى خيار بغداد حاليا التعويل على فرض العقوبات المتمثلة بالحظر الجوي وغلق المعابر. أما  الخيار العسكري فإنه مستبعد  إما لضغوط أمريكية على الحكومة الاتحادية، أو لاعتبارات تتعلق بتعدد مصادر صنع القرار السياسي وانعدام وحدة الموقف بسبب الاختلاف بين الرئاسات الثلاثة: البرلمان، والرئاسة، ومجلس الوزراء، في التعامل مع الأزمة، ومراقبة تواجد بيجاك والعمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية على أراضي الإقليم، ومتابعة ردود أفعال هذه القوات الكردية من تداعيات فرض الحصار الاقتصادي أو قطع أو غلق صمامات تصدير نفط الإقليم عبر تركيا.

لأن كل الاحتمالات درستها تركيا بما فيها قيام أكراد العراق بتأجيج أكراد تركيا لإحداث قلاقل وإعمال شغب في الداخل التركي رفضا لإجراءات الحصار على أكراد العراق. وتخشى تركيا ربما من ردود حزب الشعب الديمقراطي (وهو حزب سياسي تركي يساري يعتبر مواليا للأكراد، رئيسه صلاح الدين دميرطاش.

وفي نيسان/ أبريل عام 2015 فتح مسلحون النار على مقر الحزب في أنقرة من دون أن يوقعوا ضحايا. وأدانت الحكومة التركية الاعتداء واعتبرته صفعة  للديمقراطية والاستقرار في تركيا.

وعليه فإن قرار التدخل العسكري وإن كان واقعا إلا أنه سيكون آخر الخيارات التركية ضد الإقليم. لأن ثمن هذا الخيار سيكون مكلفا لتركيا على مستوى سياستها الداخلية (ردود أفعال أكراد تركيا) والخارجية (ردود أفعال الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل). وعلى إقليم شمال العراق أن يعلم بأن التقارب العسكري الثلاثي التركي والإيراني والعراقي الأخير، ووضع آلية لتنسيق إجراءات فرض العقوبات على الإقليم بأنها جدية وتتسم بالتدرج من الحظر الجوي وغلق المعابر وصولا إلى الخيار العسكري.

إذًا، طبول الحرب تدق بالفعل في الشرق الأوسط، و الأصم فقط هو من لا يسمعها؟

فهل تسمعها إسرائيل وأمريكا لكي تقنع الإقليم بإلغاء الاستفتاء والاكتفاء بمزايا الحكم الذاتي الذي تمتعت به منذ عام 1991؟ أم أنهما سوف سيكتفيان بالمراقبة وانتظار نتائج استراتيجية القبول بالأمر الواقع؟ والتي يراهن عليها إقليم شمال العراق في تعامله مع نتائج الاستفتاء محليا وإقليميا ودوليا ؟؟؟

عن الكاتب

د. محمد عزيز البياتي

أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي في كلية العلوم السياسية بجامعة بغداد


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس