كوريت ديبوف - دورية السياسة التركية - ترجمة وتحرير ترك برس

جاء إعلان أبو بكر البغدادي إنشاء الدولة المزعومة لتنظيمه في 29 حزيران/ يونيو 2014 في الموصل، صدمة لكل مراقب في العالم العربي. أخفق الخبراء في التنبؤ بهذا الحدث الكبير، مثلما أخفقوا في توقع مجيء الربيع العربي في ديسمبر/ كانون الأول 2010 والأشهر الأولى من عام 2011. قبل عام 2010، نشرت كثير من المقالات في وسائل الإعلام التي تصف الوضع المروع الذي يعيش فيه السكان العرب في أجزاء واسعة من العالم العربي، غير أن المراقبين الداخليين والخارجيين أبدوا تفاؤلا حذرا في الوقت ذاته.

قبل عشر سنوات من الربيع العربي بدا أن رياحا جديدة تهب على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ففي في عام 1999، على سبيل المثال، خلف الملك محمد السادس والده في الغرب، وحدث الشيء نفسه في الأردن حين تولى عبد الله الثاني، وفي عام 2000، أصبح بشار الأسد رئيسا لسوريا، خلفا لوالده حافظ الأسد. وكان كل واحد من هؤلاء الحكام الجدد من الشباب المتعلمين في الغرب، ووعدوا جميعا بالتحديث. وفي عام 2002، فاز حزب العدالة والتنمية الذي كان قد شكل حديثا بالانتخابات في تركيا وأصبح رجب طيب أردوغان رئيسا للوزراء. ووعد بخطوة جديدة في عملية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وفي ديسمبر 2004، قرر المجلس الأوروبي بدء محادثات الانضمام  مقتنعا بأن أردوغان هو الرجل المناسب لقيادة هذه المفاوضات.

وقد أعطى عام 2005 سببا أكبر للأمل في المنطقة، ففي فلسطين انتخب محمود عباس رئيسا جديدا، وزاد التفاؤل بالتوصل إلى اتفاق سلام مع إسرائيل، وفي لبنان، لم يؤد اغتيال رئيس الوزراء، رفيق الحريري، إلى حرب أهلية جديدة، بل إلى ثورة الأرز التي دفعت الجيش السوري إلى الخروج من البلاد. وعلاوة على ذلك، أجرت مصر في عام 2005 أول انتخابات رئاسية، في حين تمت الموافقة على دستور جديد في العراق في استفتاء. وكان المعلقون الأمريكيون سعداء بهذا التحول في الأحداث وأعربوا عن تقديرهم للرئيس الأمريكي جورج بوش، وأطلقوا على هذه التحولات "الربيع العربي للرئيس بوش".

ولكن على الرغم من علامات التفاؤل في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، فقد كانت قلة قليلة من الناس يعتقدون أن التغيير الحقيقي كان ممكنا في العالم العربي. وعندما خرج التونسيون إلى الشوارع في ديسمبر 2010 وكانون الثاني/ يناير 2011، ظل المراقبون متشككين. كتب مارك لينش، في مجلة فورين بوليسي، مقالا في 6 يناير 2011 يتساءل عما إذا كانت الاحتجاجات التونسية علامات على "الربيع العربي لأوباما". كان هذا قبل ثمانية أيام من فرار الديكتاتور التونسي، زين العابدين بن علي، من البلاد، وقبل 19 يوما من بدء الاحتجاجات في ميدان التحرير في القاهرة. وعندما توافدت الحشود على ميدان التحرير في 25 يناير 2011، نقل عن محمد البرادعي في دير شبيغل قوله: "لعلنا نواجه حاليا أولى علامات "الربيع العربي".

الربيع العربي أم الثورة العربية؟

استخدم مصطلح "الربيع العربي" قبل مدة طويلة من وقوع الزلزال السياسي الحقيقي في العالم العربي. ومن الواضح أن كلمة "ربيع" تشير إلى "ربيع براغ"، حين حلت ديمقراطية قصيرة الأجل في تشيكوسلوفاكيا السابقة في عام 1968 بقيادة ألكسندر دوبتشيك، قبل أن تسحقها الدبابات الروسية. وفي هذا السياق، من الصعب إنكار المعنى الساخر لكلمة "الربيع". لم يكن أحد يعتقد أن الاحتجاجات التونسية - وبعدها الاحتجاجات المصرية - ستؤدي حقا إلى عالم عربي أكثر ليبرالية وديمقراطية.

والسؤال الذي يطرح نفسه، هل يمكننا الآن - بعد سبع سنوات - أن نستعمل كلمة "ربيع"، أم أن من الأفضل استخدام مصطلح "الثورة العربية"؟ هدف هذا المقال هو بيان أن استخدام مصطلح "الثورة العربية" أكثر ملاءمة.

إن إشكالية مصطلح "الثورة" هو أن له تعريفات متعددة، بيد أن جميع التعريفات تتفق على حقيقة أن الثورة، على عكس التطور، تعني الجهود الرامية إلى تغيير المؤسسات أو السلطات السياسية في فترة قصيرة نسبيا من الزمن. وتضيف بعض التعريفات عنصر المظاهرات الشعبية. على أن تعريف الثورة ما يزال إشكاليا، حيث لا يوجد توافق في الآراء على متى يطلق على الدعوة إلى التغيير ثورة أم لا.

ومن الأمثلة على ذلك ما يشير إليه بعض المصريين بـ"الثورة الثانية"، عندما أطيح بالرئيس محمد مرسي من منصبه. وفي الفترة من 30 يونيو إلى 3 تموز/ يوليو 2013، سار ملايين المصريين في الشوارع للمطالبة باستقالة مرسي (أو الدعوة إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة). وفي 3 يوليو 2013، أطاح الجنرال، عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع آنذاك، بمرسي من الرئاسة وسجنه. وأطلق أنصار مرسي ومعظم المراقبين الدوليين -على ذلك انقلابا عسكريا، لكن من خرجوا إلى الشوارع ضد مرسي يطلقون عليها ثورة.

تشريح الثورة

في عام 1965، كتب الباحث، هارفرد كرين برينتون كتابا بعنوان "تشريح الثورة" تتبع فيه أوجه الشبه بين أربع ثورات عظيمة: الثورة المجيدة في إنجلترا ضد طغيان الملكية، والثورة الأمريكية، والثورة الفرنسية، والثورة الروسية. ومستعينا بنموذج الثورة الفرنسية، يقسم بريتون هذه الثورات الكبرى إلى أربع مراحل: حكم المعتدلين، وعهد الإرهاب والفضيلة، وحكم المتطرفين، ونهاية الثورة.

تاريخ الثورة الفرنسية معروف جيدا. في 5 أيار/ مايو 1789، دعا الملك لويس السادس عشر إلى اجتماع لمجلس طبقات الأمة في فرساي لمناقشة الإصلاح الضريبي. لم توافق الطبقة الثالثة على نظام التصويت، حيث كانت تمثل 25 مليون شخص ولها نفس أصوات الطبقتين الأخريين الأصغر منها وهم رجال الدين والنبلاء. وعندما لم يستجب لمطالبهم، اجتمع أعضاء الطبقة الثالثة فيما بينهم، وأعلنوا لأول مرة عن تشكيل الجمعية الوطنية. وبعد ذلك، وفي 9 يوليو 1789، أسست الجمعية التأسيسية الوطنية واشتعلت الأجواء الثورية. وفي 14 يوليو قررت مجموعة من 954 شخصا السيطرة على سجن الباستيل في وسط باريس الذي كان رمزا للاستبداد.

بعد الأحداث الثورية و"شهر العسل" القصير، بدأت المرحلة الأولى من "حكم المعتدلين". تحت حكم  حزب "جيرونديون"، وتبنَّت الجمعية الوطنية في آب/ أغسطس 1789م، مراسيم الرابع من أغسطس وإعلان حقوق الإنسان والمواطن والدستور الذي حول فرنسا إلى ملكية دستورية. وكانت مشكلة "المعتدلين" أنهم لم ينجحوا في الوفاء بوعودهم أثناء الثورة، ولم يستطيعوا وقف العنف عندما غزت النمسا وبروسيا فرنسا.

وقد مهد ذلك الطريق أمام الثوار الأكثر تطرفا لتولي السلطة. شنت مجموعة من المتطرفين المنظمين تنظيما جيدا هجوما على قصر التويلري في باريس وأطاحت بالنظام الملكي في 10 أغسطس 1792. تولى المحامي والسياسي جاكوبينز ماكسيميلين روبسبير السلطة في 10 أغسطس 1793 وبدأ "عهد الإرهاب والفضيلة"، وهي المرحلة الثانية وفقا لبرينتون. وقد وضعت الجمعية الوطنية الجديدة دستورا جديدا. والأهم من ذلك، تعرض كل شخص " فاسد" أو يعارض الثورة ومبادئها إلى الموت على المقصلة في عهد "روبسبير" . وقد أعدم قرابة 19.000 شخص في نهاية المطاف. وإلى جانب "عهد الإرهاب"، كان هناك أيضا "حكم الفضيلة". واستخدم اليعاقبة خطابا دينيا ونظموا اجتماعات "الهيئة العليا"، وغيروا أسماء الشوارع والميادين ووضعوا تقويما جديدا، وعارضوا القمار والسكر، والمخالفات الجنسية من جميع الأنواع، و"التباهي بالفاحشة" من الثروة والكسل. وفي الوقت نفسه، شن روبسبير وقواته الثورية حربا في فندي، غرب وسط فرنسا، ضد القوات الملكية، وقتل ما يقدر بنحو 200.000 شخص في هذه الحرب الأهلية.

في الشهر التاسع من السنة الثانية للتقويم الثوري (27 يوليو 1794) تآمر جميع أعضاء الجمعية الوطنية ضد روبسبير الذي أعدم دون محاكمة مع 22 من أقرب أقربائه. أعاد النظام الجديد في إطار المرحلة الثالثة الحرية الدينية، لكنه بدأ أيضا "الإرهاب الأبيض" حيث اضطهد وسجن مئات المتعاطفين مع روبسبير. وضع دستور ثالث وحصل على موافقة 95.4% من الأصوات في الاستفتاء. وبعد عامين من الاستقرار النسبي، بدأ أعضاء الديركتوار الخمسة وهو هيئة مكونة من أصحاب السلطة التنفيذية في فرنسا بعد تشكيل الجمعية الوطنية في التناحر فيما بينها، الأمر الذي أدى إلى انقلاب آخر (18 فركتيدور)، وبداية عملية تطهير جديدة، وسوء الإدارة الاقتصادية الكبرى.

شهدت المرحلة الرابعة، نهاية الثورة، وفقا لبرينتون، عددا من الدساتير والاستفتاءات الجديدة. بدأت مع انقلاب نابليون بونابرت في 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 1799 (المعروف أيضا باسم برومير الـ18). واعتمد دستور جديد وأنشئت جمعية وطنية. على أن نابليون بدأ انقلابا آخر وعين نفسه القنصل الأول. ومرة أخرى اعتمد دستورًا جديدًا فى استفتاء وافق عليه 99.9 %، وفي عام 1802، اعتمد استفتاء آخر وافق عليه 99.8% نابليون "القنصل الأول"، وبعد عامين، أصدر مجلس الشيوخ مشروع قانون إلغاء الجمهورية الأولى وإقامة الإمبراطورية الفرنسية وتنصيب نابليون إمبراطورا لها.

بقية تاريخ الثورة الفرنسية معروف جيدا، فقد  شهدت فرنسا تغييرات في النظام الواحد تلو الآخر، وحلت جمهوريات وممالك محل بعضها. واستمر ذلك حتى عام 1870، عندما أصبحت فرنسا ديمقراطية مستقرة تحت الجمهورية الثالثة. كان دستور 1875 هو الدستور الرابع عشر منذ بداية الثورة الفرنسية قبل 86 عاما.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس