أسامة السيد عمر - خاص ترك برس

اعتلى السلطان عبدالحميد الثاني عرش السلطنة العثمانية عام 1876م ، و"كانت تمر بمرحلة من أصعب مراحلها، فتجاوزت الديون الخارجيّة والفوائد التي ترتّبت عليها نِصفَ الإيرادات، هذا فضلاً عن القروض الداخليّة ، إلى جانب "استبداد الوزراء واشتداد سياستهم التغريبية بقيادة جمعية العثمانيين الجدد، والتي كانت تضم النخبة المثقفة التي تأثرت بالغرب .

وقد تسلم عبدالحميد الدولة العثمانية وهي على حافة الهاوية بعد الخسائر التي لحقت بها في الأراضي والسكان، بعد أن أصبحت في مرتبة متأخرة عسكريا واقتصاديا مقارنة بالدول الغربية . وفي تلك الأثناء، وبين هذه الأزمات "اعترف السلطان عبد الحميد الثاني بأنه لم يكن لديه الطاقة ولا القوة لمحاربة الدول الأوروبية... ولكن الدول الكبرى كانت ترتعد من سلاح الخلافة، وخوفهم من الخلافة جعلهم يتفقون على إنهاء الدولة العثمانية ، والتي كان تضم بين رعاياها "يونان وبلغار وأرمن وأفلاق وأكراد وزيبق وأرنؤود ودروز وشوام مع يهود وعرب وشركس" .

ونتيجة لذلك، سعى السلطان عبدالحميد الثاني للنأيّ بدولة الخلافة من أن تكون طرفا في أي نزاع عالمي، فلم تستطع الدول الكبرى آنذاك أن تجعل السلطان معبرا لمطامعها وخططها التوسعية، "كما لعب على تعارض المصالح بين الدول الأوروبية التي تتنافس فيما بينها بلا رحمة، وبالتالي استطاع حماية دولته في عالم متنافس"

"وفي خضم تلك الأحداث كان الشغل الشاغل لعبدالحميد هو الخروج من تلك الأزمات والأحداث بأقل الخسائر ودون الزج بالدولة في أتون الحرب، أو تلويث جبينها وتخضيبه بالدماء فكان يتبع سياسة حكيمة من خلال بناء تحالفات مع دول دون معاداة أخرى" .

ولم يعرف عن عبد الحميد تأثير أي حاكم أوروبي عليه، مهما كانت صداقته ومهما كانت درجة التقارب بين بلده وبين الدولة العثمانية" .

وهنا يقول عن نفسه "لم أكن مطمحاً لدولة من الدول أيّاً كانت، لقد كان الوضع السياسي في أوربا يتأزّمُ يوماً بعد يوم، وكانت الحرب العالـمية وشيكة الاندلاع، غير أن انحيازنا لطرف من الأطراف كان من الـممكن أن يزيد النار لهيباً، والواقع أننا كنا مضطرين لعدِّ خطوات أقدامنا والتحرك بحساب" .

وحتى يجمع الشعوب الإسلامية تحت راية الخلافة ويحميها من التآكل، أطلق فكرة الجامعة الإسلامية "وهي تقوم على دعوة المسلمين إلى الإتحاد والتعاون فيما بينهم لإصلاح أحوالهم، والتكتل لمواجهة موجات الاستعمار الأوروبي، كما رأى أن هذه الوحدة الداخلية لا تكفي، ولا بد من امتداد تأثيرها إلى كل مسلمي العالم .

وكان يسعى للنهوض بأمته رغم المعوقات المختلفة التي واجهته وأبرزها ضعف همة الشعب وتفشي الخمول وهنا يقول "كل إنسان مكلف بالجد والسعي والتفكير، ومن جد وجد ومن زرع حصد. لم يدرك الأتراك هذا المعنى، وأما السوريون والعرب فهم أحسن وعياً من الأتراك، والنصارى يفكرون ويعملون ويتقدمون أما المسلمون فواقفون ينظرون" .

وبينما كانت الدول الكبرى تلهث وراء مطامعها الاستعمارية وتتسابق من أجلها؛ كان عبدالحميد ينفذ خططه وسياساته الخاصة، ويولي أهمية كبرى لمشاريع التحديث والبنى التحتية والإعمار، فقد شيد خلال عهده حوالي 1552 أثرا ومبنى في كافة أنحاء البلاد .

كما كانت السكة الحديدية من أعظم المشاريع التي شيدها "ولم يصدق كثير من المسلمين أخبارها فأرسلوا وفودا يشاهدونها بأعينهم، فكان المسافر يصل من دمشق إلى المدينة في ليلتين وكانت دمشق تستفيد كل سنة من هذا الخط ما يقارب 200 الف جنيه وعمرت القرى التي مر بها الخط وارتفعت أثمان الأراضي ارتفاعا مدهشا وتضاعف عمران المدينة المنورة أضعافا .

خلق المشروع في أنحاء العالم الإسلامي حماسة دينية كبيرة، وتسابق المسلمون من كل جهة للإعانة على إنشائها بالأنفس والأموال ، وكان مسلمو الهند أكثر مسلمي العالم حماساً وعاطفة وتبرعاً للمشروع ، وذلك على الرغم من "تشاؤم كثير من المسلمين واستهزائهم واستنكارهم وتأكيدهم أنه خط محال إنشاؤه ومشروع يكون من قلة العقل تعليق الأمل به ، حتى إن صاحب كتاب القول السديد في حرب الدولة العلية مع اليونان المطبوع سنة 1901م جعل نصف ريع الكتاب للسكة الحديدية، والنصف الآخر لأرامل وأيتام العساكر الذين استشهدوا في الحرب اليونانية.

ثم إن هذا الخط جاء من أبدع الخطوط الحديدية في العالم، هذا فضلا عما توفر من المشاق والأخطار على الحجاج والزائرين والتجار والمسافرين، وأما الصعوبات الطبيعية التي كانوا يقدرونها فلم يصح منها شيء .

وعلى صعيد التعليم، أدرك السلطان أنَّ هناك نقصاً كبيراً في عدد الـمثقفين الـمدنيين، فأنشأ كلياتٍ ومدارس عالية، مع الاهتمام في الوقت ذاته بالتعليم العسكري واستقدام البعثات العسكرية من شتى دول أوروبا، وخاصةً ألـمانيا . بل ولم يقتصر اهتمامه على الولايات التركية فحسب، فرأينا كلية الطب في دمشق، وكليةَ الحقوق في بيروت وغيرها مِنَ الوِلايات .

كما أنشأ في استانبول مدرسة العشائر العربية من أجل تعليم وإعداد أولاد العشائر العربية، من ولايات حلب، وسوريا، وبغداد، والبصرة، والموصل، وديار بكر، وطرابلس الغرب واليمن، والحجاز، وبنغازي والقدس، ودير الزور، وكانت تتكفل الدولة العثمانية بكل مصاريف الطلاب .

والحقيقة التي لا سبيل إلى إنكارها أن الكادر الذي أسس الجمهورية التركية فيما بعد قد تخرج بأكمله تقريبا في المدارس التي افتتحت خلال عهده، ويعتبر عبدالحميد هو واضع حجر أساس الجمهورية التركية الحديثة، كما إن أعداءه كانوا ينظرون بعين التقدير لجهوده في مجال التعليم .

حافظ السلطان عبدالحميد الثاني على مقدرات الأمة، و" أدخل بعض التعديلات على ميزانية القصر لطريقة أدت إلى اقتصاد كميات ضخمة من الأطعمة كانت تذهب هدراً، وكان في ملبسه يميل إلى البساطة، ولذلك اتهمه خصومه بالبخل .

وفي عهده اختلط العثمانيون بالشعوب الأخرى، وكان من أمثلة ذلك هو "الزواج من غير المسلمات، لقد تزوج كثير من كبار موظفي الدولة بفتيات من النصارى دون أن يلقوا أي عناء، فسفيرنا الحالي في لندن توفيق باشا، متزوج من امرأة سويسرية، وسفيرنا في باريس رفعت باشا متزوج من ابنة ضابط روسي، أما الضباط الذين أُرسلوا ببعثات إلى الخارج فقد عاد أكثرهم بزوجات نصرانيات، حيث وجدن السعادة الزوجية الحقيقية، فكيف ينكرون والحالة هذه تسامحنا؟".

وفي حديثه عن مشاكل الأرمن يقول "لو جال المرء بنظره في تاريخ امبراطوريتنا لثبت لديه أن الأرمن كانوا دائماً أغنياء. لقد تقلد الأرمن في جميع العهود أعلى المناصب الوظيفية في الدولة بما فيها منصب الوزير الأعظم. ولا أكون مبالغاً أبداً إذا قلت إن ثلث الموظفين هم من الأرمن .

لا مجال لإنكار أن الأرمن في ولاياتنا الشرقية محقون في شكاواهم، ولكن لا بد لنا أن نشير إلى مبالغتهم فيها. أما الأكراد فهم أقوياء جبارة، غلاظ شداد، رعاة، يعيشون في هذه الولايات منذ أقدم العصور .

وكان حريصا على حسن التدبير في التعامل مع رعيته، وهنا يتحدث عن الألبان فيقول "هؤلاء قوم مفطورون على الحرية، جربناهم وعرفنا أن ظلمهم لن يؤدي إلا إلى الثورة، هذه البلاد التي كلفتنا كثيراً من الأموال والأنفس لن تساس بالشدة والحزم، بل بالمعروف والتدبير الحسن .

ولكن المؤامرات الداخلية التي واجهها لم تكن سهله، ففي "تلك الأثناء كانَ أعضاء "تركيا الفتاة" يناهِضون عبد الحميد في بعض العواصم الأوروبية وفي القاهرة، وبدأت الجرائد والمجلات تُحدِثُ تأثيراً قوياً بينَ الأهالي، كما تكاثفت الجمعيات والـمنظمات السريّة بين الشبان داخل البلاد وخاصة بين ضباط الجيش، وكان أكثر هذه الـمنظمات قوة وتأثيراً "جمعية الاتحاد والترقي" ، وسيطرت على "مجلس الـمبعوثان" حتى تحوّلت الـمعارضة إلى مظاهرات عارمة جسدتها "حادثة 31 مارت" في 13 إبريل 1909م .

"ومن ناحية أخرى فقد كانت كتابات الفارِّين إلى الدول الأجنبية ممن بهرتهم حضارة الغرب، وكتابات الأجانب أنفسهم، والـمحاولات الخاصة بخلعه والقضاء عليه من الداخل أو الخارج، أموراً لا يجبُ علينا إهمالُها ومنها حادثة انفجار القنبلة التي دَبّرها الأرمن في عام 1905 م عقب أداء مراسم تحية الجمعة .

وحتى يحمي نفسه من هذه التدابير الداخلية والخارجية، شكل جهاز المخابرات الخاصة به، وبين الغرض منه فقال "حسب العرف العثماني، يتعرف السلطان على تفكير الرعية وشكواها عن طريق جهاز الحكم، ومن ولاته وقضاته من جانب، وعن طريق التكايا المنتشرة في ربوع البلاد بمشايخها ودراويشها من جانب آخر، فيجمع كل هذه الأخبار ويدير البناء عليها .

كما كان مثيروا الشغب يثيرون الأرمن للتمرد ضد الدولة العثمانية فكان جهاز السلطان عبد الحميد – خلال ثلاثين سنة – يخبر السلطان فور ظهور كل حركة، ولذلك تمكن السلطان من إخماد كل تمرد داخلي في حينه" .  

وفي عهده انتشرت التيارات القومية، حتى"أصبح البعض يقدم القومية على الدين، ويظن أنه يمكن مزج حضارة مصر بالحضارة الأوروبية، وتقدم الفكر القومي تقدماً ملموساً في مصر، وأصبح المثقفون المصريون من حيث لا يشعرون ألعوبة في يد الإنكليز" . كما عبر عنها في مذكراته بقوله "علينا أن نعترف – وبكل أسف – بأن الإنكليز استطاعوا بدعايتهم المسمومة أن يبثوا بذور القومية والعصبية في بلادنا. وقد تحرك القوميون في الجزيرة العربية وفي ألبانيا، وظهرت في سورية بوادر تحرك مماثل" .

وبحثا عن وطن قومي لليهود في فلسطين، تعرض السلطان عبدالحميد الثاني لضغوط من الصهيونية العالمية "وقد اقترح هرتزل قيام البنوك اليهودية الغنية في أوروبا بمساعدة الدولة العثمانية لقاء السماح بالاستيطان في فلسطين ، ولكن السلطان رفض وقال: إن أراضي الوطن لا تباع، إن البلاد التي امتلكت بالدماء لا تباع إلا بالثمن نفسه. وعندها قرر زعماء الحركة أن يدفعوا الملايين المعروضة على السلطان لشراء الذمم وتدبير المؤامرة لخلعه، وللقضاء على الخلافة الإسلامية، وتشويه تلك الخاتمة من عمر الخلافة، حتى ينفر الناس حتى من مجرد كلمة خليفة أو خلافة .

وتحركت الصهيونية العالمية، لتدعم أعداء السلطان عبد الحميد الثاني، وهم المتمردون الأرمن، والقوميون في البلقان، وحركة حزب الاتحاد والترقي، والوقوف مع كل حركة انفصالية عن الدولة العثمانية ، وقامت جمعية الاتحاد والترقي مع الماسونيين واليهود بمؤامرتها التي انتهت بخلع السلطان، ثم بإلغاء الخلافة. وحفظ التاريخ للسلطان عبدالحميد رسالة وجهها بعد خلعه الى شيخه في الطريقة الشاذلية الشيخ محمود أبي الشامات في دمشق، يبين فيها لشيخه سبب خلعه، وهو رفضه أن يصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين .

وقد اكتشف بعض هؤلاء الذين اشتركوا في المؤامرة أنهم كانوا ضحايا الخديعة الماسونية اليهودية. فهذا أنور باشا الرجل الذي قام بالدور الرئيسي في الانقلاب على الخلافة سنة 1908م، والذي تسبب في تدهور الخلافة العثمانية، يقول في حديث له مع " جمال باشا" إذ كانا يحللان أسباب الاندحار الذي أصاب الدولة التركية: " أتعرف يا جمال ما هو ذنبنا؟ وبعد تحسر عميق قال: " نحن لم نعرف السلطان عبد الحميد فأصبحنا آلة بيد الصهيونية.....

وقد كُتب عن شخص السلطان عبد الحميد وعن عهده بعد إعلان الدستور كتبا كثيرة، وكان كثيرا مما كتب بإيعاز من الاتحاديين بعد تسلمهم الحكم، أو بأيد وأقلام مشبوهة، قصدت عن عمد تشويه سمعة الرجل، والإساءة إلى دعوته في جمع شمل الأمة الإسلامية، ونتج عن ذلك تحريف التاريخ ومسخ حقائقه وتبديل وقائعه .

يتبين لنا مما سبق، أن السلطان عبدالحميد الثاني استطاع أن يوقف الدولة على قدميها ثلاثين سنة وسط أزمات عاصفة في الداخل والخارج، اضطر أثناءها إلى اتخاذ تدابير حازمة وزاجرة .

كما وحافظ رحمه الله وخلال فترة حكمه على تماسك الدولة وبنيتها بعد أن عانت من ضربات موجعة على مدار عدة قرون خلت نتيجة مؤامرات داخلية وخارجية، فاستطاع تأخير سقوط الدولة العثمانية بسياسته التي جنبت الدولة العثمانية الدخول في صراعات مع الدول الكبرى قدر الإمكان، واهتمامه بالتعليم والبعثات التعليمية وتطوير مؤسسات الدولة، والتسامح الذي أظهره مع جميع مواطني دولته من شتى الأديان، وكشف المؤامرات الداخلية والخارجية المختلفة التي كانت تستهدفه ودولته.

وبعد خلع السلطان عبدالحميد الثاني، تولى حكم البلاد الإتحاديون "فمزقوا أحشاء السلطة بالشقاق، وأدخلوا الانقسام حتى في الجيش، فأهملوا الجيش وأهملوا السياسة الخارجية واتفق ممالك البلقان بدون علمهم وزحفوا عليهم بغتة، فالعجب ليس من كونهم لم ينتصروا، بل العجب من كونهم لم ينهزموا، وكل ما حصل هو نتيجة منطقية عادة لأمة تخرب بيتها بيدها .

وفي 10 فبراير 1918 مات السلطان عبدالحميد الثاني عن ست وسبعين عاما واشترك في تشييع جنازته كل شعب إسطنبول تقريبا .

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس