د. سمير صالحة - العربي الجديد

يتحمّل الشعب الليبي أعباء تدخل قوى محلية وإقليمية كثيرة تضع مصالحها هناك فوق مصالحه، وأقحمت البلاد في حالةٍ من الاصطفافات الداخلية والخارجية، فعقّدت المشهد أكثر فأكثر. وتركيا في سياستها الليبية المعتمدة منذ عام 2011 عانت من المواقف المتناقضة والقرارات المتباعدة، سواء في موضوع المشاركة في العمليات العسكرية ضد نظام معمر القذافي أو في اختيار التنسيق والتعاون مع العواصم العربية التي تريد حقا إنهاء الأزمة الليبية. 

دعت إيطاليا، في نوفمبر/ تشرين الثاني المنصرم إلى قمة دولية تبحث الحل في ليبيا، وشاركت تركيا على مستوى نائب الرئيس الذي وجد نفسه يغادر المكان، قبل أن تفتتح الجلسات، بسبب المناورة الإقليمية التي حاولت إرضاء اللواء المتقاعد خليفة حفتر، في اجتماع جانبي ينجز التفاهمات والاتفاقات بشأن البيان الختامي، من دون دعوة ممثل تركيا في القمة. هل حاول بعضهم أن يطلق يد حفتر هناك في ليبيا، وتركه منذ شهر تقريبا يحاول السيطرة على العاصمة طرابلس، بدعم بعض العواصم العربية، من دون أن يسأله عن مشروعية ما يفعل؟ 

تنسق أنقرة اليوم مع الحكومة الشرعية في طرابلس التي تعاني، ليس من استرداد شرق البلاد، بل من محاولات تحرّك خليفة حفتر، لفتح الغرب باسم الحرب على الإرهاب والجماعات المتطرّفة ومن يدعمهم. وهي معنيةٌ، شئنا أم أبينا، بالمعايير التي يضعها حفتر ومن يدعمه. 

الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي نسقت بلاده مع أنقرة قبل ثماني سنوات في الخطط العسكرية خلال عمليات إسقاط النظام القديم، وإرضاء لبعض شركائه العرب، هذه المرة، يرفع سماعة الهاتف، ليبحث مع حفتر آخر خطط الحرب على الجماعات الإرهابية الليبية، وموعد تحرير غرب البلاد منها. لا يريد البيت الأبيض أن يتذكّر القرارات الأممية والدولية حول شرعية الحكومة الوطنية الليبية في طرابلس، لأن ما يهمه أكثر مصالح واشنطن النفطية والتجارية في الشرق، ومصالحه الكثيرة في هذه المرحلة مع من يدعمون الجنرال. 

هناك تناقضات وتشابكات كثيرة، كما تقول أنقرة، في قراءة المشهد الليبي ومتابعته: 

تُتهم تركيا بالتدخل في شؤون ليبيا الداخلية، ولكن لا أحد يريد أن يتحدث عن حجم الدعم الذي يقدّم لمجموعات حفتر على المستويات العسكرية والمالية والاقتصادية والسياسية من عواصم عربية وغربية عديدة. يُطلب إلى تركيا مثلا أن تتخلى عن دعم حكومة شرعية معترف بها دوليا، ويطلب إليها أيضا أن تتغاضى عن عملية إرسال السلاح والعتاد والتخطيط والتمويل لخليفة حفتر، ليهاجم العاصمة الليبية. ولكن لا أحد يريد أن يجيب على سؤال: من أين يحصل حفتر على السلاح والتدريب والتجهيز والتمويل، ليتحرّك باتجاه العاصمة الليبية للسيطرة عليها. .. وتركيا تدعم مليشيات مسلحة، وتنظيمات الإسلام السياسي في طرابلس، كما يقول وزير الخارجية والتعاون الدولي في "الحكومة الليبية المؤقتة"، عبد الهادي حويج. لذلك ينبغي رفع الحظر عن قوات حفتر "التي تحارب الإرهاب نيابة عن العالم في ليبيا". ولكن لا أحد يتساءل ما إذا كان استهداف طرابلس تحديا لكل القرارات والتفاهمات الدولية والإقليمية بشأن الحل في ليبيا أم لا. 

الواضح أن أنقرة ستستجيب لطلبات حكومة الوفاق والقوات المتحالفة معها بأسلحة هجومية متطوّرة، ومدفعية ثقيلة، لمواجهة الدعم الجوي والذخيرة والسلاح الذي تقدمه بعض الدول العربية لحفتر. ولكن الواضح أيضا من خلال الرسائل والمواقف التركية أن أنقرة لن تتوقف عند هذا الحد، وستزيد من دعمها الحكومة الليبية، بحسب زيادة الآخرين هجماتهم وتصعيدهم ضد الشعب الليبي. 

يتهم حويج تركيا بتسيير رحلات جوية مباشرة إلى مدينة مصراتة، لنقل مقاتلين من جبهة النصرة في سورية، ولا يعجبه تزويد الجيش الليبي الشرعي بالسلاح والعتاد في إطار اتفاقيات موقعة بين الجانبين. ما يقلقه حتما أن حكومة الوفاق الوطني في ليبيا تعلن أن طرابلس فعّلت اتفاقيات قديمة مع أنقرة بشأن التعاون العسكري بينهما. لا أحد يعرف تماما طبيعة (وحجم) هذا التعاون الذي يتم تحت غطاء القانون الدولي والعلاقات بين الدول. السؤال الذي يقلق حريج أكثر: هل تعطي أنقرة بعضهم ما يريدون، وتقرّر الدخول مباشرة إلى طرابلس، استجابة لطلب الحكومة الليبية، وهو حق قانوني أممي تطبقه دول كثيرة في علاقاتها؟ يتصل ترامب بحفتر ليرفع من معنوياته، لكن أنقرة تسأل: هل اتصل ترامب بالقيادات الليبية الشرعية في طرابلس، بعد اتصاله مع حفتر المنشغل بتنفيذ عمليته العسكرية ضد العاصمة؟ وهل سأل ترامب حفتر عن أسباب ساعة الصفر في هجومه خلال وجود الأمين العام للأمم المتحدة في طرابلس، وبينما كان الليبيون يستعدون لعقد المؤتمر الوطني الجامع في إطار مبادرة الأمم المتحدة؟ 

لماذا يحظى حفتر بالدعم والرعاية من بعض العواصم العربية، واستقباله على أعلى المستويات، تحت عنوان التنسيق لمحاربة الإرهاب والجماعات المتطرّفة في ليبيا؟ وما هو المسند القانوني والسياسي والأخلاقي الذي يعطيه حق تحريك قواته ضد الحكومة الليبية الشرعية في طرابلس؟ لن تتراجع أنقرة عن سياستها الليبية، حتى ولو كان بعضهم يريد تحويلها إلى الطرف المشاغب المتمرّد والمعرقل للتسويات في ليبيا، لأن تركيا تريد أن تفشل مساعي بعضهم إلى تحويل ليبيا إلى سورية جديدة. وأنقرة تريد قطع الطريق على مشروع يجعل ليبيا مسرحا لـ"سيناريوهات مظلمة تستهدف أمن المنطقة". وهي متمسّكة حتى الآن بطرح أن "هناك حكومة تتلقى  شرعيتها من الشعب. ومن جهة أخرى، يوجد ديكتاتور مدعوم من أوروبا وبعض الدول العربية". وأن "طرابلس فعّلت اتفاقيات قديمة مع أنقرة عن التعاون العسكري بينهما، وتركيا ستستجيب لكل طلبات الدعم". و"بعضهم يريد أن يفرض نفسه على النموذج الليبي السياسي والدستوري الجديد، وأنقرة لن تقبل ذلك". و"ساحة الصراع في ليبيا امتداد لصراعات إقليمية ودولية، نقلت خلافاتها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية إلى أرض جديدة". 

ما ستواصل تركيا التمسك به إلى جانب حماية مصالحها في شمال أفريقيا هو رفض خطة بعض الدول العربية تسليم الملف الليبي للاعبين إقليميين ودوليين في إطار صفقة إبعاد الأتراك عن المشهد، حتى ولو كان الثمن إعادة الاستعمار إلى ليبيا، أو إبقاءها تحت الاحتلال الغربي. تردّ تركيا على ذلك بتمسكها بسياستها الليبية ومصالحها هناك، من خلال تعيين السياسي والأكاديمي أمر الله إيشلار عام 2014 ممثلا خاصا لها يتابع الملف الليبي، وهو ما لم تفعله في مكان آخر. أنقرة متمسّكة بإدارة الأمم المتحدة الملف، على الرغم من أن الموفد الأممي غسّان سلامة خيب آمالها، عندما تحول إلى أول من تخلّى عنها، وقبل الانفتاح على فكرة القمة البديلة في باليرمو التي وضعت أسس ساعة الصفر لعملية حفتر ضد طرابلس. 

لتقريب الصورة أكثر لبعض المتسائلين، ردّدت القيادات التركية أن أنقرة لن تقبل فرض معادلات استراتيجية مصرية إسرائيلية يونانية عليها في شرق المتوسط، وأن محاولات ترتيب طاولة تفاهمات في شمال أفريقيا لمحاصرة تركيا في شرق الفرات لن تتم بمثل هذه السهولة. .. ما يجري في ليبيا تحد مصري واضح لسياسة أنقرة ومصالحها هناك، وهو حلقة من المواجهة بين البلدين في أفريقيا، ومقدمة لتصعيد إقليمي أوسع، يخدم مصالح أطراف ثالثة، ويعطيها كثيرا من الفرص والنفوذ، وتركيا تتحرّك على هذا الأساس.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس