معاذ السراج - خاص ترك برس

بعيدًا عن مسار الحروب والصراعات التي قد تطول إلى آماد غير معلومة، وحتى لا يصرفنا منطق الصراع المفروض على سورية والشرق الأوسط عامة، يحسن أن نخرج قليلًا من هذه الدوامة، لنلقِ نظرة على الواقع الاجتماعي لشعوب المنطقة وخارطة التنوع والتعايش التي سادت فيها لقرون طويلة، ولا تزال قائمة إلى اليوم رغم قوة العوامل الضاغطة، والتأثير الكبير والحاسم للسياسات الداخلية والخارجية.

في بلاد الشام، وعلى الرغم مما فرضته عليها ظروف الحروب والتحولات الكبيرة في خرائط المنطقة وبناها السياسية، وهي قد رسمت بأيدي خارجية كما هو معلوم، فإن هذا كله لم يوقف الحراك والتواصل الاجتماعي بين بلدانها ومجتمعاتها، ومن بينهم الأكراد، وإلى وقت متأخر لم يكن هناك ما يمكن تسميته بقضية كردية أو ما شابه ذلك. وفي دراسة للدكتور محمد الأرناؤوط يقول: "إن أكراد سوريا القدماء كانوا دائمًا على وفاق وتفاهم مع أبناء البلاد العرب في خدمة الوطن المشترك؛ ولم يظهروا أية نية أو رغبة في الحكم الذاتي في تلك الأمكنة التي يكونون الأغلبية من سكانها. غير أن السلطة المنتدبة كانت تحاول أن تعيق تمثيل هؤلاء الأكراد في المجموعة العربية، وذلك بواسطة الدس بينهم وفتح أبواب الهجرة إلى سورية أمام اللاجئين من أكراد تركيا الثوريين". وإذا استثنينا سياسات الأنظمة لاحقًا، بما في ذلك سياسة أتاتورك في تركيا الجديدة، و التي دارت في فلك الاستراتيجية الغربية والأوربية، واستخدمت أدواتها ومعاييرها وأساليبها، فإن التراث والتقاليد الاجتماعية حافظت على قوتها وتأثيرها المباشر في الحياة اليومية والثقافة الاجتماعية السائدة.

وعلى سبيل المثال، وفي مسألة الأكراد، فإنه الملاحظة الأولى اللافتة هي أنه يندر أن تخلو من التواجد الكردي حاضرة من حواضر الشرق الأوسط، من القدس إلى القاهرة وعمان وطرابلس وعلى امتداد الساحل السوري بالمعظم، وفي دمشق وحماة تحديدًا، حيث تزداد كثافة الأكراد بصورة واضحة، ويمتد تاريخ العشائر والعوائل الكردية هناك قرونًا طويلة، وبالجملة فقلما تجد مدينة سورية ليس فيها أكراد، وقد سجل التاريخ المعاصر أن العديد من الرؤساء والوزراء والزعماء الوطنيين كانوا من الأكراد. وكانت تلك سياسة عامة تجاه السوريين بكل انتماءاتهم، أو ما سُمي بمصطلح "الأقليات" المستورد مع الثقافات الغربية، ولم تكن آنذاك قضية كهذه مطروحة على أي مستوى، ولهذا يذكر ظافر القاسمي في مشاركة له في ندوة بلبنان عن التعايش المسيحيين الإسلامي أنه: "عندما تم الجلاء الفرنسي عن سورية عام 1945 كان جميع الأمناء العامون في الوزارات السورية من المسيحيين، ما عدا أمين عام وزارة الدفاع، وهو أحمد اللحام رحمه الله، وجاءت يومها رسالة تهنئة من الفاتيكان لشكري القوتلي، رئيس الجمهورية آنذاك، بأنه لم يحاب ولم ينظر إلا إلى المصلحة والكفاءة، وقد أطلعني عليها".

أما في العراق، حيث يتركز في شماله جزء من الوجود التاريخي للأكراد، لكن وكما هو الحال في طبيعة التوزع السكاني وكثافاته في عموم الشرق الأوسط، فإن تواجدهم لا يقتصر على تلك المنطقة، بل يتسع  ليشمل أكثر المدن العراقية الرئيسية من البصرة إلى بغداد وتكريت والموصل وكركوك وغيرها، مع تفاوت في الأعداد والنسب، لكن آثار هذا الانتشار تراها جلية في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وفي التراث والتقاليد والعادات، يحملها الأكراد معهم أينما حلوا، بما في ذلك اللباس التقليدي المعروف. وفي العراق كما في سوريا، اشتهرت منهم شخصيات كثيرة في مختلف المجالات، ومن نافلة القول، وفي إطار تركيزنا على التأثيرات الاجتماعية، فإن العديد من الشخصيات الدينية المؤثرة، في مناصب الفتوى وكبار العلماء، فقد كان للأكراد الباع الطويل فيها، سواء في العراق نفسها أو في سورية وتركيا، بالإضافة إلى الشخصيات السياسية والفكرية والثقافية وغيرها.

في تركيا يسود المنطق ذاته، وبعيدًا عن الخوض في التفاصيل، مع الأخذ بالاعتبار الظروف والمحددات السياسية. وكما في العراق، يتركز الأكراد في الجنوب والشرق، لكنهم موجودون كذلك في المدن الرئيسة وبكثافات لا يستهان بها، كما أنهم يشغلون مواقع مهمة في مختلف المجالات في الدين والسياسة والاقتصاد والمجتمع والفن.

من المهم التأكيد على أن مسألة التعدد هذه، لا تقتصر على الأكراد وحدهم، وعلى الرغم من أن كثافات الأعراق وتوزعهم الجغرافي على المدن والقرى، تلعب دورًا مهمًا في إطلاق التسميات، هذه مدينة عربية وتلك كردية وأخرى تركية، لكن الواقع يشي بغير ذلك تماما، وينأى بنفسه بعيدا عن تأثيرات السياسة ومقتضياتها، ويكاد هذا المنطق يشمل الشرق الأوسط برمته.

مكة، على سبيل المثال, وهي حاضرة الإسلام الأولى، تكاد تكون في مقدمة المدن العالمية تنوعًا واختلافًا، ومثلها المدينة، ولو تفرست في وجوه المارة هناك، فإنك لا تكاد تجد تشابهًا بين معظم من تصادفهم في طريقك، وقد يمر بك في دقيقة واحد عشرات الأجناس والأشكال والألوان من بخارى وسمرقند إلى أندونسيا والفليبين وأفريقيا وشرق أوربا وغيرها.

في عمان عاصمة الأردن، وهي مدينة حديثة نسبيًا، تجد التنوع ذاته، شركس وشيشان وعرب وأكراد وأتراك وبخاريون، بينهم مسيحيون ومسلمون ودروز ويهود ومذاهب أخرى، وقد يتفاجأ المرء بأن العديد من المناصب الكبرى والمراكز الاجتماعية والثقافية والاقتصادية المرموقة، يتبوّؤها الكثيرون من غير العرب.

إسطنبول عاصمة الخلافة الإسلامية لخمسة قرون، كانت حتى الحرب الأولى تحظى بتنوع سكاني فائق، لا تعرفه عاصمة أخرى في العالم، وربما في التاريخ، فالمدينة التي كانت عشية الحرب الأولى، تحتضن قرابة المليون نسمة، كان نصفهم أو أقل فقط من الأتراك، فيما توزع الباقون بين يونانيين وأرمن وأكراد، بنسب عالية تتجاوز المائة ألف لكل منها، بالإضافة إلى أعداد غفيرة جاءت من بلاد العرب والبلقان والقفقاز وآسيا الوسطى… بل إن التاريخ يحدثنا أن ما يزيد على ثلث سكان الدولة العثمانية كانوا من غير المسلمين، لكنهم حافظوا على الدوام، هم والمسلمون الآخرون على تقاليدهم ولغاتهم وتراثهم المحلي ولم يخسروا منه شيئًا. وينقل أستاذ التاريخ المصري عبد العزيز الشناوي (في كتابه الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها) من ملاحظات ذات مغزى عميق ذكرها نابليون الأول في مذكراته التي أملاها وهو في منفاه بجزيرة سانت هيلانة على الجنرال "برتران" قوله: إنه لما جاء إلى مصر قائدًا للحملة الفرنسية العامة على مصر سنة 1798 ميلادية، وجد أن المصريين لا يتكلمون اللغة التركية، وأنهم يجهلونها، وأن هذه اللغة غريبة عليهم كما كانت اللغة الفرنسية غريبة عليهم سواء بسواء. ويعترف  مؤرخون أوربيون بأن الأقليات الخاضعة للدولة العثمانية كانت تتمتع بحقوق أكثر من تلك الأقليات التي كانت تعيش في الممالك الأوربية كفرنسا وإمبراطورية الهابسبرغ في النمسا… بل وحتى مصطلح أقليات لم يكن معروفا في البلاد الإسلامية لكنه دخل عليها مع الثقافة الأوربية الوافدة.

وفي إسطنبول ذاتها، التي خسرت، لفترة ما، سمة التعايش والتنوع الكبير، نتيجة الحرب الكبرى والصراعات الدموية التي سبقتها، ثم احتلالها من قبل الحلفاء، لقرابة خمس سنوات، وما خلفه تحالف الأقليات المعلن مع المحتلين في نفوس كثير من الأتراك، وما أدى إليه لاحقًا من تغييرات ديمغرافية وتطهير عرقي واسع النطاق، إلا هذه المدينة العتيدة بقيت أكثر تصميمًا على الحفاظ على تراثها العريق في التنوع، وما لبثت أن احتضنت مجددًا الملايين من شتى الأعراق والأجناس، الذين وفدوا إليها لأسباب شتى، من داخل تركيا ومن خارجها، ويبدو هذا ظاهرًا للعيان لكل من يزور إسطنبول ويتعرف عليها عن كثب. وبكل تأكيد فإن هذه السمات لا تنفك عما عليه حال مدن وحواضر الشرق الأوسط.

نعود مرة أخرى للتأكيد على أن واقع الصراعات التي تفرضها وتتداخل فيها سياسة المصالح الداخلية والخارجية، لا يمثل الصورة الحقيقية لمجتمعات المنطقة، ولا يعبر بحال عن واقع التعايش والتفاهم والاختلاط فيما بينها. وفي المناطق التي تدور فيها الصراعات اليوم بين الحدود التركية والسورية، بل وعلى طرفيها كذلك، ولدى استعراض التركيبة السكانية في تلك المناطق، فإننا سنجد تنوعًا واسعًا للغاية، على ضفتي الحدود، التي تحتضن مدنًا كثيرة مثل القامشلي ورأس العين وتل أبيض وغيرها، ومثل ذلك يقال في الضفة المقابلة بتركيا من أكجا قلعة وأورفا وماردين وجيلان بينار شرقًا، وهي شطر رأس العين حسب التسمية التركية، إلى كيليس والريحانية وأنطاكية غربًا… ويحسن أن نذكّر هنا أن مدينة صغيرة كرأس العين، تضم بين جنباتها أكرادًا وعربًا وتركمانًا وشيشانًا وشراكس وأرمن وغيرهم، يعيشون جنبًا إلى جنب منذ عقود طويلة. بل وأكثر من هذا، فإن مدينة داخلية على وادي الفرات مثل دير الزور، وهي حاضرة قديمة، تم تجديدها وتطويرها أواخر العهد العثماني، وعلى الرغم من طابعها العربي البدوي المسلم، فإنها احتوت على تنوع سكاني مذهل، فقد قطنها المسيحيون واليهود والأرمن، وقدم إليها الكثيرون من سكان غرب العراق، عانة وراوة وكبيسة والموصل وغيرها، وتجد فيها الأورفلي والمرعشلي والماردللي والبرجكلي وغيرهم، وسرعان ما انسجم الجميع وتعايشوا فيما بينهم وأسسوا لحياة اجتماعية لا زال يتفاخر بها سكان المدينة حتى في أحلك ظروفهم، مما يؤكد أن المسألة ترجع إلى ثقافة أصيلة تستند إلى تراث ومبادئ وأخلاق، وليست مجرد تجارب عابرة. ومما يؤكد ذلك أنه وطيلة ما يزيد على قرن، لم تشهد هذه المناطق أي فتن أو صراعات أو اقتتال مجتمعي ذي بال على الإطلاق، باستثناء ما ارتكبته السلطات والحكومات التي سارت على النهج الذي فرضته السياسات الغربية المدمرة بعد التكوين الحديث للشرق الأوسط، كما أسلفنا.

وهكذا، فإن المشهد القائم اليوم في الشرق الأوسط، وجزء منه الحدث الساخن في منطقة ما يسمى "شرق الفرات“، وهي بالمناسبة تسمية سبق إليها الفرنسيون في سياق تقسيمهم لبلاد الشام وتفكيكها وتجزئتها قبل قرن من الزمان، لا يعبر بحال عن صراعات أهلية، كما لا تصح قراءته في ضوء الصراعات أو الأزمات الآنية الراهنة وحدها، وهناك زوايا أخرى لا بد من أخذها بعين الاعتبار في ضوء وقائع التاريخ القريب وظروف التعايش الاجتماعي والتمازج الكبير الذي شهدته المنطقة عبر تاريخها، والتي لم يتعكر صفوها إلا في مراحل متأخرة، وخاصة ما بين أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، والتي اشتهرت باتفاقيات سايكس بيكو، لكن تلك الاتفاقيات رغم شهرتها لم تكن سوى عنوانًا صغيرًا لسياسات واستراتيجيات غربية أوربية، طويلة الأمد استغرق العمل عليها عقودًا وربما قرونًا طويلة.

عن الكاتب

معاذ السراج

كاتب وباحث سوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس