أحمد الهواس - خاص ترك برس
لم يكن طرح رامي مخلوف على بشار الأسد جديدًا في فهم التوازنات، تلك التوازنات التي بدأها حافظ أسد حين تزوج من آل مخلوف كي يترقى اجتماعيًا داخل الطائفة! فقد كان يُنظر لبيت الأسد أو الوحش أنّهم بيت الحسنة في القرداحة أي البيت الذي يُحسن إليه الناس نتيجة الفقر المدقع، فضلاً عن أنّهم وافدون على القرية وربما على الطائفة نظرًا لما يكتنف أصل هذه الأسرة من غموض!
أمر أدركه جيدًا حافظ أسد وبنى من خلاله فكرة التوازن التي ستنسحب فيما بعد لابنه وربما خصوم اليوم حلفاء الأمس.
نجح الضابط الصغير في الزواج من أسرة آل مخلوف الاسرة التي تحسب على القوميين السوريين فيما ينضوي هو تحت جناح البعث! لعبة أجاد أبناء النفس الأقلوي لعبها حيث استخدام الحزب وسيلة للوصول للهدف الأهم.
لم تكن تلك نهاية التوازان ولكن سيتبعها أُخر، ففي داخل الطائفة نسج حافظ أسد ما يحتاجه في جعل العشائر العلوية "متورطة" في الحكم الطائفي، وسواء قلنّا إنّ ثمة مجلسًا مليًّا يحكم في الخفاء أو هي التوازنات واقتسام الغنائم التي وافقت الطائفة عليها، ففي الحالتين النتيجة واحدة.
فقد قبلت الطائفة التضحية بالأستاذ أو بأحد الآباء المؤسسين لمجدها صلاح جديد، مقابل أن يكون الحكم لها برأس منها، وقد عاد كل ضباط وجنود رفعت للعمل تحت سلطة حافظ أسد بعد تمرد رفعت، وقد بيّنت الأيام أنّه لم يكن تمردًا ولا انقلابًا على حافظ بل تخوّف رفعت من انتقال السلطة خارج الطائفة بعد مرض شقيقه، وهكذا تمّ التضحية برفعت بالإبعاد مقابل عدم تمزّق ولاء الطائفة لرؤوس متعددة، وكذلك كان حال انتقال السلطة لبشار، حتى تنحى الضباط الكبار لأجل "صبي" بلا خبرة.
منذ أن وصل حافظ إلى السلطة، شكّل الاقتصاد الهاجس الأكبر عنده، هاجس ليس المراد منه تطويره، أو نمذجته على النهج الاشتراكي الذي يختبئ خلفه في شعارات حزب البعث، ولا بنقله لشكل آخر، بل في أن السيطرة العسكرية يمكن للطائفة القيام بها، ومن ثمة الأمنية، وربما العلمية والفنية، ولكن كيف يكون ذلك والاقتصاد يأبى أن يخرج من يد السنة؟
لعل النهب المنظّم والمقونن والفساد والرشوة كانت عنوانات حكم حافظ أسد، ولكنْ ثمة تغيير بدأ يحصل مع ترقي محمد مخلوف شقيق زوجة حافظ أسد "موظف التبغ" السابق في المناصب، ليكون فيما بعد مسؤول الظل لوزارة المالية، فالوزير لا يعمل في حكومة من حكومات حافظ بل كان يعمل ويوجه من قبل محمد مخلوف، ولاسيما بعد أن نهب رفعت المصرف المركزي، وأخذ معونة كبيرة من القذافي وبقي جزء منها دخل في البنك المركزي الذي كان يخلو حتى من الفئران كما يصف ذلك طلاس في كتابه ثلاثة أسابيع هزت دمشق.
أسست فترة الثمانينيات لمرحلة جديدة في النهب المنظّم، فقد عاش الشعب السوري سنوات من الفقر والحرمان - بعد أن انتهى الصراع مع الإخوان والمعارضة لسيطرة الأسد - في وقت تفجّر فيه النفط في سورية، وأصبح الحديث عنه، وعن مردوده من المحرمات، ليصبّ في جيوب الحاكم وأبنائه تحت شعار النفط في أيدّ أمينة! ولم يكد ينقضي عقد الثمانينيات حتى كان المرسوم رقم عشرة أو الانفتاح أو الاستثمار ليكون سبيلاً لقلب المعادلة الاقتصادية، ليفسح المجال أمام نمط اقتصادي جديد وبروز ظاهرة جامعي الأموال بغية الاستثمار، حيث تمّ بعد مدة وضع اليد على جامعي الأموال "السُنة" بذريعة حماية أموال المواطنين، وبعد ذلك بدأت المشروعات الكبيرة من طرق وبنية تحتية تمنح لابن اخت الرئيس ذو الهمة شاليش، في عروض كبرى تطرحها الحكومة، مرحلة ستتبعها مرحلة أخطر في زمن الوريث.
بدأ الاقتصاد ينسحب رويدًا رويدًا من السنة، ومن تبقى من رجال أعمالهم وتجارهم فقد كانوا - في جلّهم - تحت خدمة النظام كما رتب ذلك محمد راتب الشلاح مع حافظ أسد، أو ما بات يُعرف بقاعدة أن دمشق يحكمها من يرضي تجارها!
جاء عهد بشار بما أسماه بالتطوير والتحديث ومحاربة الفساد، وحقيقة الأمر أنّها شعارات جديدة للنهب بطريقة مختلفة، فكان الاستثمار عبر ما عُرف بالمناطق الحرّة وشركات الخليوي التي آلت لرامي مخلوف بعد إقصاء الملياردير المصري "نجيب سويرس" صاحب شركة تليكوم الذي أدخل خدمة الخليوي لسورية.
ليس مهمًا من يكون رامي مخلوف، ولا إمكاناته الاقتصادية، فالمهم أنّه ابن خال الرئيس، وابن "ناهب الاقتصاد" محمد مخلوف، والمؤتمن على الأموال التي سينهبها بشار الأسد باسم الانفتاح، وهذا يكفيه لكي يحوز على أكثر من نصف اقتصاد سورية تحت ذريعة الاستثمار، ومن خلاله يختبئ بشار الأسد فهو صاحب هذه الامتيازات.
حين اندلعت الثورة السورية كان رامي مخلوف يحوز على 60 بالمئة من الاقتصاد السوري، ولم يبرز رامي كداعم مالي للحرب ضد الشعب السوري فحسب، بل ظهر في موقف سياسي بداية الثورة ليخاطب إسرائيل بضرورة بقاء النظام في سورية، فهو الضامن لبقائها، حيث وجه خطابه للإسرائيليين بأن أمنكم من أمننا!
معادلة لم تكن جديدة، ولم يكن أحد يغفل الدور الوظيفي لهذا النظام الطائفي، فقد سبق رامي أجداده قبل ثمانين عامًا من انطلاق الثورة السورية أن خاطبوا فرنسا – في وثيقة القرداحة 1927 - بأن تقيم لهم دولة منفصلة عن سورية وأن تحميهم من السُنة على غرار ما فعلت بريطانيا مع اليهود المساكين في فلسطين!
لم تتقلص ثروة رامي في الثورة ولم ينزو للعمل الإنساني كما ادعى بأن يتخلى عن الأعمال التجارية، ويتفرّع للأعمال الخيرية! بل أنّه أسس مجموعة مؤسسات تحت هذه الصفة لدعم الشبيحة والصرف على الأجهزة القمعية كما اعترف فيما بعد بالفيديو الموجه لبشار؛ فقد كان ممولاً لآلة القتل وتجهيز قطعان الشبيحة لقتل الشعب السوري، وهذه جرائم ضد الإنسانية وهي جرائم لا تسقط بالتقادم.
الصراع الأخير، وما أشار إليه رامي من توازانات ألمح بها لبشار الأسد حول الضغط عليه من الأجهزة التي كان يصرف عليها، تدخل في باب التأثير بأنّ رامي يستطيع أن يغيّر المعادلة إن لم يستجب بشار له، ويبدو أن رامي قد أخطأ في حساباته هذه المرّة، فلا أصل مخلوف الأعرق من آل الأسد ولا المال الذي يموّل به الشبيحة والأجهزة القمعية، ولا الرصيد الذي يقدمه لآلة القتل ستشكل خيارًا لبشارالأسد للحفاظ على مخلوف، فالطائفة لن تنقسم بين مخلوف أسد، ولن تسمح بذلك، لأن ذلك سيؤدي ليس لفقدانها الحكم بل لتشرذمها، وهو ما يفتح باب الانتقام من أفعالها، وهي قبل أن تصل الحكم وقبل أن تلغ بدماء السنة فقد خاضت حروبًا مع الإسماعيليين والدروز، ولكن التوازانات التي أقامها حافظ أسد فضلاً عن التقسيم المجتمعي والتخويف من الأكثرية، جعلت ثمة شعورًا لدى الأقليات بالموافقة على الحكم "الأقلوي"، ولهذا لن تتوانى الطائفة عن التضحية برامي مقابل ألاّ تتعدد فيها الرؤوس والولاءات.
أمّا من يراهن من الأكثرية أو المنضوين تحت الثورة أو المعارضة على صراع علوي علوي فقد جانبهم الصواب كثيرًا، فآل مخلوف لن يقفوا مع رامي ضد بشار، ولن يذهب رامي بعيدًا عن توجيهات الطائفة، ولن يتجاوز فعل "رفعت" حين أخذ حصته وغادر، وإن عاند فسيكون الموت مصيره.
فالمراهنة على صراع داخل الطائفة العلوية رهان خاسر؛ فما يجمع الطائفة أكبر من أن يفرقها، فالطائفة العلوية، كمجتمع الذئاب، لا يتصارعون بل يضحون بالأضعف؛ أو بمن يعيق حركة القطيع مقابل أن يستمر مجتمع الذئاب..
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس