أحمد الهواس - خاص ترك برس

لاشك أنّ مصر هي بيضة القبان في العالم الإسلامي وليس العربي ، وهي القلب إن نبض وضخ الدماء نهض المسلمون، وإن كان العكس فهم في سبات ، وهذا ما حصل منذ حكم محمد علي؛ فقد تمّت السيطرة على العالم الإسلامي بالتدريج، سواء بالأفكار القادمة من خلف الحدود بالعلمنة وتنحية الشريعة وتطبيق القوانين الغربية ، أو بناء الجيش الحديث أو مشروع الدولة الوطنية ، ومن خلال ” التجريب” في مصر انتشرت كثير من الأفكار التي تنعت بالهدّامة ، ولكن في ظل التراجع في الرأس” الحكم” ، كانت القاعدة بخير فهي- أي مصر- بلد الأزهر وبلد العلماء ، ولكن ثمّة قلّة تسيطر على مصر منذ ذلك الوقت ولا تسمح للكثرة بحكم مصر أوتسمح لمصر بالانعتاق !

هذه القلّة هي دولة “الجنرال والأقليات المتساندة ” كما يطلق عليها أ. محمد القدوسي ، أو هي دولة العسكر كما يطلق عليها معارضو الانقلاب ، أيًا كانت لا يهم ، ففي كلتا الحالتين نحن أمام قلّة منظّمة تجمعها مصالح ومدعومة من الخارج لإبقاء مصر تحت السيطرة أو القلب تحت رحمة أجهزة التغذية !

يوم الخامس والعشرين من يناير ، كنتُ خارجًا من مكان عملي في مدينة الانتاج ، ومتجهًا نحو قناة قريبة من عملي لزيارة صديق يعمل مدير برامج فيها ، وكان ثمة تخوّف حول ما يحصل لاسيما وأن التجربة التونسية في إسقاط “بن علي” كانت حاضرة في أذهان المصريين شعبًا ونظامًا، ولكلّ حساباته .كنّا وقتها – أنا وزميلي- على موعد في شارع فيصل ، مع عادل الجوجري في مكتبه وهو موعد محدد قبل أيام ، والجوجري رجل ناصري إلى النخاع – كان قبل أن يلتحق بجوقة المدافعين عن النظام الطائفي في سورية من أقرب الناس لقلبي – وقد أيّد ثورة تونس ، ومن ثمّ الثورة المصرية ، وادعى أنّه مع الثورة السورية في بداياتها ثم غيّر البوصلة أو أنّها بوصلته الحقيقية كغيره من الناصريين لاسيما جماعة حمدين صباحي ، ووقف مع النظام السوري ، وزار دمشق ، ودافع عن النظام الطائفي ، وقد مات على الهواء في لقاء على قناة الحدث العراقية ” الممولة إيرانيًا” وهو يدافع عن بشار الأسد في 13 – يونيو 2013 !

عندما التقيت بصديقي ، كنّا نتحدث عن الموعد مع الجوجري ، والظروف التي عليها البلد ، لاسيما أن موعد التجمع قد حدد مسبقًا من قبل الناشطين يوم عيد الشرطة 25 يناير ، وهذا ما دفع بالنظام إلى أخذ احتياطاته وكذلك أوقفت الجامعات تحسبًا لأي طارئ ، وقد أصرّ أحد المحررين المصريين على أن يوصلنا بسيارته ، إلى شارع فيصل . كان الرجل محسوبًا على النظام أو مؤيدًا له ، وربما قريبًا من الأجهزة الأمنية ، ولعلّه أراد أن يتحدث أو يستأنس برأينا ونحن برفقته ، فقال :أظن أنّ الجيش لن يسمح بأن يحصل في مصر ماحصل في تونس ، فمبارك ليس كبن علي ! قلت له : استطيع أن أقول لك إن الجيش لن يحمي مبارك إن استمرت الاعتصامات وتحوّلت لثورة شعبية ، وسيطيح بالرأس ! ردّ لي بلهجة الواثق “كونه ابن البلد” دعني أقول لك إن مصر وضعها مختلف ولن يسمح الجيش بإسقاط مبارك ، ولكن في الغالب سيتم التفاهم معه على أمور أخرى – وأظنه كان يلمح لقضية توريث جمال – ولو أنّه لم يصرّح بذلك .

استمرت الثورة وتصاعدت وكانت جمعة الغضب 28 يناير ، واتضح أنّ الشعب لن يعود ، والجيش لن ينحاز لمبارك ، وبدا أنه جيش وطني منحاز للثورة أو هكذا كان الدور – اتضح بعد ذلك في مذكرات أوباما أن ثمة تنسيقًا تمّ مع الأمريكان في التعامل مع الثورة – وهكذا تمت الخديعة أو سرقة الثورة ..

الملفت في الأمر ، أنّ بقاءنا في المنازل ، كما فعل كثيرون – كان بسبب التخويف من المجهول – وقد كان الحديث إبّان الثورة عن البلطجية الذين يهاجمون الأحياء السكنية ما دفع بالناس للنزول للشوارع لإقامة الحواجز تحسبًا لتلك الأعمال ، وكانت كل الأحياء تنسق مع الجيش بوصفه الحامي لمصر من الخطر الداهم ..

لم يسأل المصريون أنفسهم – في حينها – من كان يدير المشهد في الخفاء ؟ من كان يرسل الرسائل النصيّة يطمئن فيها الناس أن الجيش لن يسمح للخونة بتخريب مصر ؟ من كان يحرّك البلطجية ؟ كيف انهار جهاز الشرطة ؟ أم أن ثمة أوامر اعطيت للقائمين عليه بالانسحاب من المشهد؟ من الجهة التي أصدرت أوامرها بمنع وزراء بعينهم من السفر وإلقاء القبض على آخرين ؟

قبل الانقلاب بشهرين تقريبًا ، استضفت أحد أعضاء حزب الحرية والعدالة في لقاء عن الحالة المصرية ، وقبيل أن ندخل الاستديو ، كنا “ندردش” على هامش اللقاء ، فقلت له نحن أمام نصف ثورة ونصف انقلاب ، وأظن أن أحد النصفين سيبتلع الآخر ! فقال لي : لا أبدًا ، ولكنها مرحلة حرجة ، ومازالت دولة مبارك أو الدولة العميقة تعمل على عرقلة النظام الحالي ..

بعيدًا عن قراءة ما مضى من أخطأ ومن أصاب ، وماذا حصل ، فكل عرض لما مضى سيكون قياسًا بما حصل ، ولم يكن أحد يتوقع ما يجري كما جرى بحذافيره ، بل ربما كان لدى بعض العارفين بعقلية الحكم العسكري هاجس الانقلاب ، ولكن ليس لديه شعور أو يقين بدفن ثورة يناير وتشريد أهلها وقتل واعتقال قادتها والاعتذار لمبارك ومنحه البراءة وتشييع جنازته فيما بعد على عربة مدفع !

ولأننا أمام عقد مضى على ثورة عظيمة ، كادت أن تكون أيقونة الثورات في العالم وليس المنطقة ، وكانت ستفضي لحكم ديمقراطي وتداول للسلطة يؤدي إلى سيادة الشعب وأنّ الحاكم يستمد شرعيته من شعبه وليس من داعمه الخارجي أو مموّل انقلابه ، ثورة ستحول مصر لأنموذج وقاطرة للعالم العربي ومن ثمة الإسلامي ، ثورة هددت ما بنوه في مئة عام أو يزيد وبشّرت بشكل جديد ، ثورة كانت تحمي شقيقتها السورية وفتحت مصر للسوريين أبوابها وقبل ذلك قلبها ، لأنها كل ذلك ما زلنا ننتظر انكسار الثورة المضادة ، وهي ستنكسر ولكن بعد أن تأخذ المضادة حصتها من الدماء والأموال وتعطّل دور مصر سنوات !

الثورة المضادة كانت قاسية فقد تعددت فيها أدوار الدول العظمى والكبرى والثرية والإقليمية ، حتى تمكنت من الانقلاب والضرب في العمق، فهي لم تتوقف في مصر بل شملت كل البلاد الثائرة وعطّلت حركة الثورة التي كادت تشمل الدول العربية ، ثورة قهرت الثورة الحلم أولنقل إعادت القلب ليعمل تحت رحمة أجهزة التنفس .

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس