سعيد الحاج - عربي 21

بعد ثورات العالم العربي، وتحديداً بعد الانقلاب في مصر، تعمقت حالة الاستقطاب في المنطقة وتكونت أحلاف ومحاور بعضها كان موجوداً قبل الثورات. وبسبب كثرة القضايا والملفات الخلافية، تتنوع العلاقات بين مختلف الدول حسب القضية والتوقيت والفواعل المتشابكة، فتزداد الخصومة أحياناً وتتراجع أحياناً أخرى، باستثناء وحيد هو العلاقات التركية – الإماراتية.

فالجانبان يقفان على طرفي نقيض في معظم إن لم نقل كل قضايا المنطقة وملفاتها، وبحدّة واضحة ومباشرة. فالإمارات هي الأكثر حدة وهجوماً على تركيا سياسياً وإعلامياً واصفة سياساتها في المنطقة بأنها استعمارية وتوسعية، وفي المقابل تحظى بالانتقادات الأوضح والأكثر مباشرة من تركيا مؤخراً وبالاسم.

السعودية ومصر أيضاً عضوان أساسيان في المحور المواجه لتركيا، لكن تحرص الأخيرة على علاقات طيبة مع الأولى قدر الإمكان، ولم تقطع مع مصر تماماً بل أرسلت بعض الرسائل الإيجابية لها مؤخراً في الملف الليبي. في المقابل، تحمّل تركيا دولة الإمارات مسؤولية “عدم الاستقرار في المنطقة وبث الفوضى فيها” كما جاء على لسان وزير خارجيتها مولود تشاووش أوغلو، كما عدَّتها “دولة وظيفية” متوعدة إياها بـ”الحساب في الزمان والمكان المناسبين” كما قال وزير الدفاع خلوصي أكار قبل أيام.

في تقييم الخلافات التركية – الإماراتية، تجدر الإشارة إلى ملحوظتين أساسيتين مهمتين:

الأولى، أنه لا يوجد في الأصل ملفات خلافية مباشرة أو بينية بين البلدين، وإنما الاختلافات في الرؤى والسياسات الخارجية لا سيما إزاء ثورات العالم العربي. فقد دعمت أنقرة بشكل عام مطالب الشعوب ووقفت مع الثورات – مع بعض الفوارق في التوقيت والمستوى والأدوات بين دولة وأخرى – بينما كانت أبو ظبي ركناً رئيساً فيما سمي لاحقاً محور الثورة المضادة.

الثانية، أن العلاقات الاقتصادية لا تتناغم مع العلاقات السياسية المتراجعة. فحجم التبادل التجاري بين البلدين ارتفع مؤخراً من 6.9 مليار دولار عام 2018 إلى 7.8 مليار دولار عام 2019 (وبعد أن وصل عام 2017 إلى ذروة 14.8 مليار دولار)، وهو حجم لا يعكس حالة التناقض الكبيرة بين الجانبين، كما أنه يتقدم على حجم التجارة البينية مع كل من السعودية وقطر التي تحظى بعلاقات شبه استراتيجية مع تركيا.

وعليه، فالخلافات بين البلدين تكمن في الأصل في اختلاف الرؤى حول مجمل قضايا المنطقة ولا سيما ما بعد ثورات العالم العربي، وقد اكتسبت طبيعة مركبة ومعقدة مع السنين. فاختلط فيها الأيديولوجي مع الجيوسياسي وحتى الشخصي. تتهم أبو ظبي أنقرة بالاصطفاف مع الإخوان المسلمين ويعدُّ بعض إعلامييها اردوغان أحد قادتهم، بينما يسود التنافس على الأدوار الإقليمية في كل من سوريا وليبيا وشرق المتوسط وغيرهم، مع مسحة شخصية متعلق بالرئيس التركي لا تخفى في اللغة السياسية والإعلامية.

بالتأكيد كان للانقلاب في مصر عام 2013 دور مهم في تباعد البلدين كثيراً، لكنهما تخطيا ذلك نسبياً بعودة السفير الإماراتي بداية 2016 إلى أنقرة، وإن لم يعد الدفء للعلاقات. إلا أن الأزمة الخليجية في 2017 ووقوف أنقرة إلى جانب الدوحة عمَّقت من الأزمة بشكل غير مسبوق وربما وضعتها على طريق اللا عودة.

لكن الأمر لم يتوقف عند ذلك، فالاتهامات التركية للإمارات تتخطى كل ما سبق وصولاً للتدخل في الشأن الداخلي التركي والإضرار بالأمن القومي. ثمة قناعة لديها بأن الأخيرة تقف خلف عدد من التطورات المحلية الحساسة أو على الأقل تدعمها وتمولها وخصوصاً المحاولة الانقلابية الفاشلة في 2016.

بعد الانقلاب قال اردوغان إن بلاده تعرف “أيَّ دول خليجية” كانت سعيدة ليلة الانقلاب، ثم قال وزير خارجيته مولود تشاووش أوغلو إن “دولة مسلمة” مولت الانقلاب بثلاثة مليارات دولار، وهي الدولة التي ادعى الكاتب الصحافي محمد أجيت – وكثيرون غيره – أنها الإمارات. ثم كشفت تسريبات لايميلات سفير الإمارات في الولايات المتحدة يوسف العتيبة عن دور إماراتي مفترض في تنسيق الانقلاب.

كما تتحدث الأوساط التركية عن دور خليجي في تمويل قوات سوريا الديمقراطية المدعومة أمريكياً شمال شرق سوريا بل وبعض القبائل العربية هناك في مواجهة تركيا التي تصنف الأولى كمنظمة إرهابية.

في ليبيا، تتهم أبو ظبي أنقرةَ بدعم منظمات إرهابية، وتدعو الأخيرةُ الأولى للكف عن دعم الانقلابيين. أكثر من ذلك، شاركت الإمارات في بيان خماسي ندَّدَ بأنشطة تركيا قي شرق المتوسط، رغم أنها ليست من دول حوض المتوسط أصلاً ولا هي متضررة بشكل مباشر منها. كما أن بعض الأوساط التركية تشير بإصبع الاتهام للإمارات في بعض الحوادث الأمنية التي استهدفت الوجود التركي في الصومال.

بالنظر لكل ذلك، يمكن القول إن الجانبين قد وصلا لذروة الخلاف والاختلاف وصولاً للمواجهة غير المباشرة. فالتصريحات باتت حادة ومباشرة، والاتهامات كبيرة وخطيرة، والتهديدات واضحة. أصدرت أنقرة قرار توقيف بحق القيادي الفلسطيني السابق محمد دحلان لدوره في تنسيق الأنشطة الإماراتية ضد تركيا، حسب أنقرة. كما يبدو أن لبييا تشهد حرباً بالوكالة بين البلدين، حيث تدعم تركيا حكومة الوفاق الوطني، بينما تدعم الإمارات قوات حفتر وتشارك في تسليحها، وصولاً لقصف الأخيرة بشكل مباشر قاعدة الوطية بعد سيطرة حكومة الوفاق عليها، وفق اتهام الحكومة لها وكذلك تغريدات بعض الشخصيات الإماراتية مسحت لاحقاً.

هنا يبرز التساؤل، هل فعلاً ستنتقل أنقرة من الانتقاد والتحذير والتهديد إلى “محاسبة” أبو ظبي وتدفيعها الثمن كما تلمح تصريحات وزير الدفاع؟

ينبغي الإشارة إلى التصاعد المستمر في التوتر بين البلدين وانعكاس ذلك على التصريحات الرسمية من جهة، وكذلك مدى تعقد المواجهة غير المباشرة بينهما مؤخراً من جهة أخرى. لذا، فالتهديد التركي الأخير مستوى جديد في الخطاب، يحمل بالتأكيد معنى زيادة الضغط على الإمارات والرد على اتهاماتها لأنقرة بخصوص ليبيا والعالم العربي عموماً، لكنه أيضاً قد ينعكس على الممارسة والواقع.

صدور التصريح على لسان وزير الدفاع وليس أي شخصية سياسية أخرى يحيل إلى جدية أكبر في التهديد، ويحمل تلميحات برد من نوع عسكري، وهو أمر يبدو مقصوداً بذاته. إذن، تقول أنقرة إنها اليوم في مرحلة مختلفة ولن تبقى مكتوفة الأيدي أمام استمرار استهدافها، وهو أمر يشمل عدة خيارات واحتمالات، ويبدو أن هذه الجدية قد ألقت بظلالها على رد الإمارات، والذي لم يحمل لهجة تهديد وتصعيد وإنما حذر من أن “العلاقات لا تدار بالتهديد والوعيد” ودعا إلى التخلي عن “الأوهام الاستعمارية”.

الرد التركي المباشر احتمال قائم لكنه ضعيف ومستبعد حالياً، فليس هناك أهداف إماراتية كثيرة تخدم هذا السياق، كما أن أنقرة ليست معتادة على هذا النوع من الممارسات، فضلاً عن تبعات ذلك ومسؤولية نتائجه.

الأرجح هو رد غير مباشر في ملفات ينخرط فيها الطرفان، بتعظيم الدور التركي وإضعاف الإماراتي، ولعل هناك عدة ساحات مرشحة لذلك. في سوريا تستمر العمليات التركية للحد من تهديد الميليشيات الانفصالية ويستمر التواصل مع الولايات المتحدة وروسيا بهذا الخصوص، بما يقلل من خطرها على تركيا.

كما أن الانتقادات التركية للدور الإماراتي في اليمن مستمرة ومتصاعدة، على صعيد الانتهاكات والمعاناة الإنسانية كما على صعيد مشاريع التقسيم والإضعاف على حد سواء، وهو أمر مرشح للتطوير أكثر في ظل التعقيدات الميدانية والمبادرات السياسية وكذلك المطالبات بدور تركي أكبر.

لكن تبقى ليبيا هي الساحة الأكثر سخونة حالياً على صعيد المواجهة بين الطرفين، ولذلك ثمة إصرار تركي على الاستمرار في دعم حكومة الوفاق في إطار الاتفاقات المبرمة معها، بل والسعي لتوقيع اتفاقات جديدة بمشاركة الأمم المتحدة. تؤمن تركيا بأن ذلك يسهم في تعظيم دورها الإقليمي وإضعاف المحور المنافس خصوصاً وأنه يرتبط بشكل مباشر بملف أمن الطاقة أي غاز شرق المتوسط.

ولذلك وضعت تركيا ثقلها خلف حكومة الوفاق في فكها الحصار عن طرابلس، ثم استعادة الغرب الليبي وصولاً لمدينة سرت الاستراتيجية، وبالتالي قضت على سيناريوهات التخلص من الوفاق وتسليم البلاد لحفتر. واليوم تسعى لتمكين الحكومة من السيطرة على سرت بعد خروج/إخراج قوات حفتر منها، وبالتالي امتلاك أوراق قوة إضافية في أي محادثات مستقبلية بشأن ليبيا. ولعل الحشود الميدانية من جهة والقنوات السياسية والدبلوماسية المفتوحة مع مختلف الأطراف من جهة أخرى يَشِيان بتطورات محتملة في الملف الليبي.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس