أسامة حساني - خاص ترك برس

في القرن التاسع عشر زاد اهتمام الدولة العثمانية  بالحجاز أكثر من أي وقت مضى، ذلك كونها تضم الأماكن المقدسة، ومركز المسلمين الروحي الأوحد، لذا انطلاقاً من السياسة الإسلامية التي تبناها السلطان "عبد الحميد الثاني" والتي كانت تميل إلى التركيز على الجامعة الإسلامية وجذب كافة الأجناس في الدولة العثمانية تحت هذه المظلة.

جاءت فكرة "سكة حديد الحجاز" بهدف الربط بين دمشق ومكة المكرمة، لغايتين رئيسيتين الأولى تهدف إلى تسهيل الحج عوضاً عن قوافل الأبل التي كانت تستغرق قرابة 40 يوما مليئة بالتعب والمشقّة بين دمشق والمدينة المنورة، أو عن طريق البحر الذي كان يستغرق حوالي اثني عشر يوماً من ساحل الشام إلى الحجاز، في حين سيختصر القطار هذه المدة إلى خمسة أيام فقط.

أما الغاية الثانية في نفس السلطان عبد الحميد من إنشاء سكة الحديد فكانت لتسهيل نقل الجنود والمعدات العسكرية لإحكام السيطرة على الشام والحجاز واليمن بعد أن استولى الإنجليز على مصر وقناة السويس، وبات الخطر محدق بباقي أراضي الدولة العثمانية، من وجهة نظر أخرى فسيؤدي ذلك الخط إلى تعزيز الإقتصاد والتجارة بين الشام والحجاز وبين ولايات الدولة العثمانية الأخرى.

في شهر نيسان/ أبريل من عام 1900م أفصح السلطان "عبد الحميد الثاني" عن رغبته في بناء خط حديدي يمتد من دمشق إلى المدينة المنورة إلى الحجاز.

نظراً لتكلفة المشروع المرتفعة فقد فتح باب التبرعات من أجل تمويله، وقد لبى المسلمون النداء بدافع وطني وديني خالص، إذ كانوا يرون فيه سبيلاً لإنجاح فكرة الجامعة الإسلامية وتثبيت مكانة الخلافة.

 سرعان ما انهالت التبرعات من شتى بقاع الأرض الإسلامية حتى البعيدة منها كالصين، حتى بلغ مجموع تلك التبرعات قرابة 760 ألف ليرة عثمانية، إلا أنه لم يكن كافياً للبدء في التنفيذ، لذا تم تخصيص إيرادات بعض المناطق وبعض الضرائب بأمر من السلطان لتوفير السيولة اللازمة للبدء بالمشروع، وتنازل موظفي الدولة عن راتب شهر واحد، وفُرض على كل حاج يسير الحال مبلغاً قدره ريالاً واحداً يدفعه أثناء موسم الحج.

في الأول من أيلول/ سبتمبر عام 1900م بدأ العمل الفعلي لتنفيذ المشروع بعد أن توفرت السيولة المالية المطلوبة لتغطية النفقات، وقد قُدرت في البداية بخمسة ملايين ليرة عثمانية، وقد وُكِل المشروع إلى شركة ألمانية متخصصة بأعمال البناء.

بدأت الشركة أعمالها في جنوب دمشق، وأُسندت مهمة الإشراف على تنفيذ المشروع للجنة مركزية عينها السلطان برئاسة المهندس الألماني "مسنر باشا" وكان مقرها دمشق، وبسبب نقص الحرفيين المهرة في هذا المجال فقد تم إستخدام مهندسين أوروبيين لبناء الجسور والعبارت حيث تم إنشاء نحو ألفي جسر مختلفة الأحجام مابين جسور ضخمة وعبّارات صغيرة، وتم إنشاء محطة كل 20 كم وأحيانا أقل لحراسة السكة وفي الغالب يكون هناك بئر أو خزان لحفظ الماء في كل محطة، لقد كان الهاجس الأمني هو الأهم لكثرة المحطات فهذه السكة تعبر في مناطق منعزلة موحشة لا يوجد قربها أي تجمع مدني، وتم الإستعانة ببعض الصنّاع السوريين والمصريين أيضاً، أما الأعمال التي لا تحتاج إلى مهارة فقد أنجزها الجنود العثمانيين الذين قدر عددهم بحوالي 5000 جندي.

اضطرت الدولة العثمانية لشراء القضبان والعربات من أوربا وأمريكا، في حين تم تأمين باقي المواد اللازمة للبناء من موارد الدولة الداخلية، ومع بداية إنشاء الخط تم صنع العديد من القاطرات البخارية والعربات من قبل عدة شركات أبرزها شركات ألمانية، وكان يتبع للخط 132 قاطرة و 1700 شاحنة.

تم الإنتهاء من إنشاء أول قسم ما بين عامي 1902 – 1903م والذي وصل ما بين المزيريب – درعا – الزرقاء بطول 250 كم ، ثم تم الربط ما بين دمشق – درعا بطول 124 كم، وفي عام 1904م وصلت السكة حتى "معان" التي تبعد عن دمشق 470 كم.

في عام 1907م اكتمل تمديد المشروع إلى "تبوك" التي تبعد عن المدينة المنورة حوالي 650 كم، وقبل نهاية عام 1907م تم افتتاح خط تبوك – مدائن صالح التي تبعد حوالي 960 كم عن دمشق، وقد توجب حينها على المهندس الألماني "مسنر باشا" أن يسلم إدارة ما تبقى من المشروع إلى الدولة العثمانية، كونه وصل إلى حدود لا يسمح بتخطيها لغير المسلمين، لذا فقد تابع العمل فيما بعد مجموعة من المهندسين العثمانيين والمصريين بإشراف المهندس العثماني "مختار بيك"، وقد وصل المشروع إلى المدينة المنورة في الثاني والعشرين من آب عام 1908م ، وتعتبر من أبرز محطات الخط الرئيسية وآخر نقطة وصول فيه، وقد بنيت بتصميم معماري فريد، وفيها مستودع قاطرات يتسع لاثنتي عشرة قاطرة بخارية إضافةً إلى أنها تضم أكبر خزان ماء على طول الخط.

تم الافتتاح الرسمي للمشروع في الأول من أيلول عام 1908م، وقد أضيئت المدينة المنورة بالكهرباء لأول مرة يوم افتتاح سكة الحديد فبدأ بإنارة الحرم النبوي أولاً، وارتبطت المدينة المنورة يومها بوزارة الداخلية العثمانية، ومع أن الخط الحجازي أنشئ لأغراض قد تكون غير عسكرية إلا انه أسهم في توطيد سلطة الدولة العثمانية لا سيما في المناطق الثائرة وكذلك في حماية الأماكن المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة.

قدر طول الخط بحوالي 1305كم، وبلغت التكلفة النهائية قرابة ثمانية ملايين ليرة عثمانية.

ساعد خط الحجاز في نهضة حضارية واقتصادية لمدن الحجاز وكافة المدن الواقعة على امتداد الخط وقد ظهرت مجتمعات عمرانية نتيجة استقرار بعض القبائل والتجمعات البدوية على جانبي الخط واشتغالهم بالزراعة.

وصف السفير البريطاني في القسطنطينية في تقريره السنوي لعام 1907م أهمية الخط الحجازي فقال: "بين حوادث السنوات العشر الأخيرة عناصر بارزة في الموقف السياسي العام، أهمها خطة السلطان الماهرة التي استطاع أن يظهر بها أمام ثلاثمائة مليون من المسلمين في ثوب الخليفة الذي هو الرئيس الروحي للمسلمين، وأن يقيم لهم البرهان على قوة شعوره الديني وغيرته الدينية، ببناء سكة حديد الحجاز التي ستمهد الطريق في القريب العاجل أمام كل مسلم للقيام بفريضة الحج الى الأماكن المقدسة في مكة والمدينة".

استمر الخط بالعمل من عام 1909م حتى عام 1917م، وبعد إندلاع الحرب العالمية الأولى استخدمه العثمانييون لإرسال التعزيزات العسكرية إلى المدينة المنورة حتى الخامس من يونيو عام 1916م حيث أعلن أمير مكة الحسين بن علي ثورته على الدولة العثمانية، فقام فيصل بن الحسين بمحاصرة المدينة المنورة، وقرر مهاجمة السكة لقطع الإمدادات العثمانية، وتم تدمير محطة "العلا" التي تبعد حوالي 300 كم شمال المدينة المنورة بقنابل الطائرات البريطانية، ثم خرجت المدينة المنورة عن سيطرة العثمانيين في يناير عام 1919م، وانتهت بذلك السيطرة العثمانية على سكة حديد الحجاز.

من رسالة إمام الشافعية في الشام "محمد عارف الحسيني" مثنياً على جهود السلطان عبد الحميد الثاني : "سيدنا ومولانا، من نفتخر بوجوده بتوفيقه لإنشاء السكة الحجازية الشامية ذات المنافع الجليلة، إعماراً للبلاد وإحياءاً للعباد وخدمة للحرمين، وتسهيلاً لقاصدي الزيارتين، وتوسيعاً لدائرة التجارة الرابحة، وتأسيساً لخطة الزراعة الراجحة، وحفظاً للموازنة السياسية في البلاد المتسعة الشاسعة، ونفعاً للبلاد...".


* مصادر:

- علي حافظ، "فصول من تاريخ المدينة المنورة".

- د.نزار علوان، "سكة حديد الحجاز وأشراف مكة".

- محمد حرب، "العثمانييون في التاريخ والحضارة".

عن الكاتب

أسامة حساني

محرر في وسائل التواصل الإجتماعي في ترك برس


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس