د. سمير صالحة - أساس ميديا

يقول الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف إنّ "من حقّ إيران أن تقوم داخل أراضيها بما تريده من أعمال عسكرية. هذا حقّ سياديّ. لكنّ المناورات الإيرانية الأخيرة على حدودنا المشتركة مسألة لافتة. لماذا الآن؟ ولماذا يتمّ ذلك بعد 30 عاماً من احتلال أرمينيا لهذه المناطق؟".

يربط الجانب الإيراني المسألة مباشرة بعدم رغبته بتحمّل "الوجود الصهيوني ونشاطاته على حدودنا ليهدّد أمننا"، كما قال وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان. ثمّ أضاف قائد القوات البرية الإيرانية كيومرث حيدري إلى ذلك أنّ "إرهابيّي داعش وصلوا إلى الحدود بدعوة من دولة إقليمية خلال الاشتباكات بين أذربيجان وأرمينيا". لكنّ الجديد والعاجل، الذي يتعارض مع ما تقوله طهران، جاء على لسان رئيس الوزراء الأرمنيّ نيكول باشينيان، الذي حاول أن يدعم وزير خارجيّته أرارات ميرزويان، خلال زيارته الأخيرة لطهران، بقوله إنّه "لولا الدعم الذي قدّمته إيران لأرمينيا في التسعينيات لكانت خسرت الحرب مع أذربيجان".

تقول القيادات الإيرانية إنّها محايدة في صراع إقليم ناغورني قره باغ، فكيف سينجح الرئيس الجديد إبراهيم رئيسي، الذي قرّر تبنّي سياسة إيرانية مغايرة في القوقاز حتى لو وصلت إلى المواجهات العسكرية مع باكو وأنقرة، في الالتفاف على مواقف باشينيان التي ستُغضب حتماً 20 مليون إيرانيّ من أصل أذريّ أعلنوا وقوفهم إلى جانب أذربيجان في استرداد أراضيها؟

هي سلسلة تصفية حسابات تركية إيرانية لم تنتهِ، ويبدو أنّها لن تزول بسهولة بسبب تباعد وتضارب السياسات والمصالح بين أنقرة وطهران في جنوب القوقاز بعد أبيات من الشعر ألقاها الرئيس التركي في منتصف كانون الأول الماضي حول نهر أراس وتقسيمه، وواكبها ردّ جواد ظريف: "ألم يخبر أحد إردوغان أنّ القصيدة التي تلاها بشكل غير صحيح في باكو تتعلّق بالفصل القسري لمناطق أراس الشمالية عن موطنها الأصلي إيران؟".

لكنّ أسباب غضب إيران الأخير في مناطق حدودها مع أذربيجان، وما دفعها إلى تنفيذ مناورات عسكرية برّية وجوّية بهذا الحجم، كثيرة ومتشعّبة ومقلقة:

- أوّلاً، ظهور معادلات جيوستراتيجيّة جديدة إلى العلن بعد حرب قره باغ الأخيرة، التي أنهت استغلال إيران أراضٍ أذريّة بطول 130 كلم كانت تصول وتجول فيها كما تشاء لأنّها كانت خارج السيطرة الأذرية، وأسقطت العديد من الامتيازات والفرص التي كانت تتمتّع بها طهران في جنوب القوقاز، خصوصاً نتيجة الانسحاب العسكري الأرمنيّ من غالبية المناطق المحتلّة على الحدود الإيرانية الأذربيجانية.

- ثانياً، بروز تنسيق أذريّ واسع مع تركيا وإسرائيل وروسيا ودول آسيوية وأوروبية أخرى يفتح الطريق أمام توازنات واتفاقيّات في مشاريع تجارية ضخمة، ويُفعِّل خطوط نقل الطاقة والسلع التي تربط آسيا الوسطى بالقوقاز بعيداً عن الأراضي الإيرانية.

- ثالثاً، انزعاج إيراني غير معلن من قرار تركي أذري باكستاني بإجراء مناورات ثلاثيّة مشتركة تحت شعار "الإخوة الثلاثة 2021"، وارتدادات تقارب من هذا النوع على سياستها القوقازية. ولا يمكن فصل هذه المناورات عن قرار إجراء مناورات "فاتحو خيبر"، حتى لو كانت الرسالة في العلن إلى إسرائيل، وبهدف منع الوجود الإسرائيلي على حدودها مع أذربيجان، كما تقول.

- رابعاً، إعلان تركيا عن خط أنابيب غاز جديد لتزويد نهشيفان الأذرية بالطاقة مباشرة، الأمر الذي سيؤدّي إلى تراجع أهميّة ونفوذ إيران بالنسبة إلى أذربيجان، وستتغيّر إثر ذلك ديناميكيات العلاقات لمصلحة الثنائي التركي الأذري.

- خامساً، إنهاء استغلال طهران لأراضي الدولة الجارة من خلال عبور العشرات من شاحناتها ممرّ لاشين باتجاه مدينة هانكندي من دون دفع أيّ رسوم جمركية، مستفيدةً من الفراغ العسكري والأمني هناك باتجاه العمق الأرمني. وكانت ردّة الفعل الأذرية على ذلك قد بدأت عبر استدعاء الخارجية الأذرية للسفير الإيراني في باكو عباس الموسوي أكثر من مرّة لإبلاغه بضرورة وضع حدّ لهذه التصرّفات، وقرار باكو نشر دوريّات ثابتة ومتنقّلة في المنطقة، وهو ما أدّى إلى إيقاف بعض الشاحنات الإيرانية، التي تحمل منتجات نفطية متّجهة إلى قره باغ وأرمينيا، واحتجاز سائقيها.

- سادساً، تزايد التنسيق التركي الروسي والتركي الأذري، وتفعيل الحوار الاستكشافي بين أنقرة ويريفان في الأسابيع الأخيرة بعد إعادة انتخاب باشينيان رئيساً للحكومة، وقرار فتح الأبواب أمام مصالحة تركية أرمنيّة، وبناء تفاهمات رباعية جديدة تدعمها إسلام آباد وتل أبيب وجمهوريات آسيا الوسطى.

- سابعاً، مسألة الوجود العسكري التركي والروسي في أذربيجان، واحتمال حصول البلدين على عقود أمنيّة، وإقامة قواعد عسكرية على مقربة من الحدود مع إيران تقلِّص من حركتها ونفوذها في القوقاز.

- ثامناً، هاجس تحريك الأقلّيّات الأذرية النافذة في المجتمع الإيراني التي وقفت إلى جانب باكو في ضرورة استرداد أراضيها بعكس القيادة السياسية الإيرانية التي اختارت دعم يريفان وإمدادها بالسلاح والعتاد، الأمر الذي أدّى إلى رفض منح إيران فرصة الدخول على خط الأزمة هناك لمصلحة النفوذين التركي والروسي.

- تاسعاً، فشل محاولات الانتشار الإيراني الديني بغطاء عرقي في أذربيجان، التي أعلنت مراراً علمانيّة الدولة والمجتمع ورفض النموذج الإيراني.

- عاشراً، العامل الأكثر إزعاجاً لطهران، والذي يدفعها إلى التصعيد الجديد ضدّ أذربيجان وتركيا، هو قلقها من احتمال حدوث تفاهمات تركية روسية في جنوب القوقاز على حسابها، تشمل تفعيل "ممرّ زنغزور" بين تركيا وإقليم نهشفان داخل أرمينيا ليكون معبراً باتجاه أذربيجان وآسيا الوسطى عبر خط حديدي تدور المفاوضات حوله بين أنقرة وموسكو وباكو ويريفان في هذه الآونة.

هل تقصف إيران أذربيجان؟

إيران اليوم هي قوة عسكرية إقليمية صاعدة، ولا يمكن مقارنة قدرات الجيش الأذري بما تملكه طهران من سلاح وعتاد وقوات عسكرية وحدود بطول 700 كلم مع أذربيجان ليس سهلاً ضبطها. لكنّ إيران اليوم في جنوب القوقاز هي في وضعيّة الرجل المفقود الذي قرّر الانضمام إلى فريق البحث عنه. فهل من الممكن أن تقوم بعمل عسكري ضد أذربيجان "الحلقة الأضعف" في تحالفات صاعدة في القوقاز، من أجل قلب المعادلات والتوازنات لمصلحتها؟ وهل يكفيها إبراز مزاعم "التمدّد الصهيوني"، وتموضع مجموعات داعش على حدودها، وقرار إجراء المناورات العسكرية التركية الأذرية ردّاً على المناورات الإيرانية الأخيرة، للتلويح بجهوزيّتها لمغامرة من هذا النوع؟ وهل انضمامها الأخير إلى منظمة شنغهاي هو فرصة لها للتصعيد على هذا النحو باسم روسيا والصين كهديّة تقدّمها للمجموعة وتفيد بأنّها ستحمي مصالح المنظمة في جنوب القوقاز، والبداية هي مع تصعيد جديد ضد باكو؟ أم تتوقّف عند احتمال سقوطها في مصيدة دولية لتوريطها في جبهة جديدة بعد جبهات سوريا ولبنان واليمن والعراق؟

طبعاً، يمكن لإيران أن تنفّذ تهديداتها ضد باكو لأنّ مصالحها وحساباتها في القوقاز تلقّت ضربات قوية في العامين الأخيرين بعد الاختراق التركي الواسع للمنطقة، والتفاهمات التركية الروسية الاستراتيجية. لكنّ حسابات خطّ الرجعة أهم بكثير من الذهاب نحو الكرْم لقطف العنب وإيصاله سالماً.

يهدّد الصحافي حسين دليران، المقرّب من "الحرس الثوري الإيراني"، بقصف أذربيجان، ويقول في تغريدة له: "لنفترض أنّ شعلة الحرب اشتعلت واشتبكنا مع أذربيجان. يمكن للجمهورية الإسلامية أن تستهدف 1000 نقطة رئيسية بدقّة تصل إلى بضعة أمتار بألف صاروخ باليستي في يوم واحد، وهذا يعني حرباً ليوم واحد، ولن يكون دور لأيّ أجهزة أخرى للعمل على الإطلاق".

ليست المسألة متعلّقة بمَن سيقف إلى جانب أذربيجان لسدّ الفوارق الكبيرة في الإمكانات العسكرية بينها وبين إيران، بل المسألة هي: هل تُقدِم طهران على خطوة انتحارية من هذا النوع في بقعة جغرافية تداخلت وتشابكت فيها الحسابات والمصالح؟ وهل هي قادرة على تحمّل ارتدادات خطوة من هذا النوع سياسياً واقتصادياً، وهي تعاني من الحصار الدولي المفروض عليها؟ وهل ستبقى أنقرة وتل أبيب والجمهوريّات التركية والعواصم الغربية صامتة أمام تحرّك من هذا النوع؟

الدور الروسي

قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إنّ فرنسا والولايات المتحدة تعانيان من "كبرياء جريح"، وهو تصريح جاء على خلفيّة دور موسكو وأنقرة في اتفاق وقف إطلاق النار في قره باغ بين أرمينيا وأذربيجان في العام المنصرم. لكنّ موسكو تنسى حصّة طهران ودورها في ما يجري. فقد كان لاتفاقيّات العام المنصرم بين أرمينيا وأذربيجان وروسيا وتركيا وقع الصدمة على إيران، إذ خيّب الجانبان التركي والروسي آمال الكثير من المراهنين على المواجهة العسكرية بينهما بسبب جنوب القوقاز، وطهران هي على رأس لائحة المراهنين.

لا تريد إيران أن تردّ على تساؤل باكو المتعلّق بعدم احترامها سيادة أذربيجان وأراضيها، ومواصلة إرسال شاحناتها إلى أرمينيا من خلال الأراضي الأذرية المحتلّة، ففي طهران مَن يعتبر أذربيجان ولاية إيرانية، ويتصرّف على هذا الأساس. وهكذا تستدعي طهران القيادات من يريفان لتحذيرها من المضيّ وراء التفاهمات مع باكو برعاية روسية تركية، وتدعوها إلى التراجع عن اتفاقيّات ممرّ نهشفان - لاشين لأنّها ستحرم إيران من خطّ استراتيجيّ آسيوي أوروبي. تريد إيران عاجلاً تحويل الأزمة من ثنائية بينها وبين أذربيجان إلى إقليمية في نطاق جغرافي أوسع يشمل القوقاز وآسيا الوسطى. ما يقلقها ليس ما تشير إليه من فتح الطريق أمام تثبيت قواعد إسرائيلية تتجسّس عليها من مناطق الحدود مع أذربيجان، ولا مجموعات مفترضة لداعش تستهدف أمنها القومي عبر الأراضي الأذرية، بل احتمال موافقة باكو على إنشاء قواعد عسكرية تركية روسية رسميّة داخل أراضيها في إطار التنسيق الإقليمي الجديد. فهل تحتاج طهران إلى إشعال جبهة جديدة تضاف إلى العديد من الجبهات التي تحارب عليها في أكثر من مكان في المنطقة بشكل مباشر وغير مباشر؟

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس